لوحات عبير الخطيب: النظر إلى الكائن والكينونة بعيني حصان



*عدنان حسين أحمد

لم تخرج اللوحة الدائرية للفنان التشكيلي العراقي عبير الخطيب عن إطار تجربته السابقة التي أطلق عليها قبل بضع سنوات «مشروع العين» التي استلهمها من «عين الحصان» الطولانية التي تستطيع أن ترى مشهداً واسعاً لا تتمكن العين البشرية من رؤيته أو الإلمام به. غير أن ما يميّز هذه التجربة عن سابقتها هو تحرير «الفيغرات» المتعددة من أسْر اللوحة الواحدة التي كانت تضم العديد من الشخصيات والموضوعات المتواشجة مع بعضها بعضا.

رأى الخطيب خصوصية في هذه الثيمات المجتزأة التي تعبِّر عن خطابه البصري ورؤيته الفنية بما تنطوي عليه من أفكار وتصورات شتّى. ولكي نسلّط الضوء على هذا الجانب تحديداً سنتوقف عند عملين فنيين ضمّهما المعرض الجماعي الذي يُقام حالياً في المركز الثقافي العراقي بلندن وهما «المَلاك المتوّج بالخشخاش الأزرق» و»الاتكاء الحميمي» لما لهما من أهمية على الصعيدين الجمالي والفكري في آنٍ معا.
الملاك المتوج
تشتمل لوحة «المَلاك المتوَّج» على شخصيتين اثنتين لا غير. فثمة مَلاك هابط من السماء يحتضن رجلاً عارياً بطريقة حميمة لا تخفى على الناظر، بل أن هذه المرأة المَلاك تبدو وكأنها حطّت من عليائها من أجل هذا الرجل على وجه التحديد لتغمره بالمحبة والحنان، حيث وضعت رأسه على موضع القلب تماماً وكأنها تُسمِعه من طرف خفي دقات قلبها بينما تحتضنه احتضان طفل صغير. ولو وضعنا حالة المحبة والحنان جانباً وتفحصنا هذا الرجل العاري الذي لم يظهر من عُريه أي شيىء فاضح لوجدناه ينظر إلى المدينة البعيدة بعض الشيىء، وكأنه يوحي لنا بأنه هو الذي بنى هذه المدينة فصارت جزءاً من تاريخه الشخصي، والتاريخ الجمعي للناس الآخرين.
ربما تحتاج هذه اللوحة إلى بعض التدقيق لأنّ الرجل يبدو مُتعباً إلى حدّ الانهاك، ويبدو هذا التعب على أنامله التي تحيل إلى شخص خارج للتو من منجم أو حريق. لا يقتصر احتضان المَلاك للإنسان فحسب، وإنما للطبيعة الجميلة وللكون برمته.
وثمة تشجيع واضح وتحفيز كبير نستشفه من خلال هذا الاحتضان أو التلاحم إن شئتم على أنّ الإنسان ممكن أن يبني ما دُمِّر أو حُطِّم إذا ما التحم مع أخيه الإنسان. لا يمكن القبول بهذا التأويل بعيداً عن رؤية الفنان عبير الخطيب الشخصية، فالعمل الفني مهما كان هو تنفيس للذات المبدعة التي تجسِّد إشكالاتها وعذاباتها الشخصية أيضاً، والغريب أنّ العقل الباطن للفنان قد جسّد صورته الشخصية تماماً وهو يسترخي في حضن الملاك المليء بالمحبة والرقّة والحنان.
ما يلفت النظر في هذه اللوحة الدائرية هو حضور الطبيعة الطاغي الذي يكاد يوازي حضور المدينة التي نأت بعض الشيىء، لكنها ظلت ضمن إطار المشهد العام للسطح التصويري فهي تحيط بالشخصيتين من جهة، كما أنها تتوِّج رأس الملاك من خلال الإكليل الذي يحيط برأسه، هذا إضافة إلى طغيان اللون الذهبي للجناحين اللذين يشكِّلان مقاربة لونية تنسِّق المناخ العام للسطح التصويري.
الاتكاء الحميمي
تتمحور اللوحة الثانية على الجانب الرومانسي أيضاً غير أن الرومانسية بين الإثنين هذه المرة تأخذ طابعاً آخر، حيث تتلاشى أجنحة الملاك أو ربما تنتفي الحاجة إليها بعد أن قرّرت على حين فجأة أن تتكئ على كتف هذا الرجل الذي حملته في حضنها في اللوحة الأولى.
ما يلفت النظر في لوحة الاتكاء هو الحركة الدائرية والمناخ نصف المُضاء، ونصف المعتم الذي يحتفي بهذه الانحناءة الحميمة التي تعبِّر عن عمق المشاعر الإنسانية سواء بالنسبة للرجل تجاه المرأة الملاك أو العكس. قد تبدو هذه اللوحة عارية أيضاً، لكن ليس فيها ما يخدش الحياء لأنّ الفنان عبير الخطيب أراد لغالبية أعماله الفنية أن تلامس الحب العفوي البريء، ولا تصل به إلى حدود الإيروس أو تتوغّل في الجنس الذي له طابع غريزي في الأعم الأغلب. تبدو حركة «الفيغرات» في غالبية أعمال هذه التجربة الجديدة جنينية وكأنها تدور في أرحام النساء. وقد أفاد الفنان كثيراً من تقنية المنظورية المركزية من جهة، والحركة الدائرية لمجمل «فيغراته» من جهة ثانية، حيث أننا لم نرَ وجه الرجل في كلا العملين، وبالكاد نرى جانباً من وجه المرأة الملاك التي يهيمن عليها الجناحان الذهبيان في العمل الأول والإكليل في العمل الثاني.
يسعى الفنان عبير الخطيب من خلال هذه الحركة الدائرية المقصودة إلى القول بأنه ليس هناك بداية ونهاية في الحياة أو في أي شيىء آخر بخلاف ما هو موجود على أرض الواقع، ومن هنا فإن لوحته الدائرية تبدأ من حيث تنتهي، وتنتهي من حيث تبدأ. وربما تنطلق هذه الرؤية الغريبة من نسق حياته الشخصية التي أشرنا إليها آنفاً، حيث تتداخل البدايات بالنهايات وتظل تدور حول نفسها إلى أجل غير مسمّى.
الألوان الملكية
بطاقةولد الفنان العراقي عبير الخطيب في بغداد عام 1979. قرّر سنة 1989 أن يلتحق بأكاديمية الفنون الجميلة، حيث تتلمذ على أيدي أساتذة وفنانين كبار منهم: وليد شيت، ومحمد صبري، وفائق حسن. وتأثر بفلسفة أساتذته وبطريقة حياتهم أكثر من تأثره بأساليبهم الفنية. كان يخشى أن يتحول إلى نسخة مكرّرة لأساتذته، لذا واصل البحث والدراسة بحثا عن ذاته. خلال السنة الأخيرة من الدراسة الأكاديمية حوّل قصائد للشاعر ت. آس. آليوت إلى لوحات تشكيلية، عاد بعدها ليستلهم حضارة وادي الرافدين موضوعا للوحاته، بتحديث رموزها، وهذا ما شكل تحدياً جديداً له وظل يعمل بهذا الاتجاه حتى عام 2005.
بعدها توقف عن العمل، ليعيد النظر في تجربته الفنية التي استمرت 15 عاما، بحثا في قراءة جديدة لأعماله الفنية، مع مراعاة القوانين الفيزيائية. وتوصل في النهاية إلى اكتشاف بُعد جديد في العمل الفني، الذي أصبح لا يشمل فقط الطول والعرض بل المركز أيضا. فبالنسبة لعبير الخطيب ليس هناك بداية أو نهاية للعمل الفني، وليس هناك ظلام أو ضوء، الكل متوحد، ليؤشر في الوقت نفسه إلى مركز العمل الفني أي مركز اللوحة.
من عمان إلى أمستردام وصولا إلى لندن كان الفنان يرحل ويرتحل بفرشاته وألوانه وأيقوناته الدائريّة إلى العواصم العالميّة ليُعدّ اليوم واحدا من أهم التشكيليين العرب المُهاجرين واللامعين.
تلعب الألوان دوراً مهماً في أعمال عبير الخطيب الفنية، وهذا ما لمسناه في معرضه السابق «أعالي الذهب» الذي كان يهيمن عليه اللون الذهبي تحديداً، أما في هذا المعرض فثمة تسيّد واضح لثلاثة ألوان مُحببة إلى قلب الفنان وروحه وهي الذهبي والأزرق والتركواز.
وقد استوحى هذه الباقة اللونية المميزة من الموروث الإسلامي خاصة والمرجعية الإغريقية والأوروبية بشكل عام، وهو يعتقد بأن هذه الألوان ملكية مهيبة تستعمل غالباً في الصروح والأعمال الفنية الكبيرة.
ويبدو أن الفنان قد ركّز على أعضاء محدّدة من هذه «الفيغرات» المتلاحمة كالأيدي والأرجل وبعض المناطق الأخرى، التي تكشف عن إندغام هذه «الفيغرات» بعناصر الطبيعة مباشرة كالأرض والأعشاب والأشجار الممتدة على مدّ البصر، كما في العمل الأول، وقد عوّض عن الطبيعة في العمل الثاني من خلال الأكليل الذي كسر الإيقاع اللوني للعمل الفني برمته ومنحه بُعداً بصرياً يتلاءم مع الأرضية التركوازية التي تنطوي على قدر كبير من الجاذبية والجمال.
بطاقة
ولد الفنان العراقي عبير الخطيب في بغداد عام 1979. قرّر سنة 1989 أن يلتحق بأكاديمية الفنون الجميلة، حيث تتلمذ على أيدي أساتذة وفنانين كبار منهم: وليد شيت، ومحمد صبري، وفائق حسن. وتأثر بفلسفة أساتذته وبطريقة حياتهم أكثر من تأثره بأساليبهم الفنية. كان يخشى أن يتحول إلى نسخة مكرّرة لأساتذته، لذا واصل البحث والدراسة بحثا عن ذاته. خلال السنة الأخيرة من الدراسة الأكاديمية حوّل قصائد للشاعر ت. آس. آليوت إلى لوحات تشكيلية، عاد بعدها ليستلهم حضارة وادي الرافدين موضوعا للوحاته، بتحديث رموزها، وهذا ما شكل تحدياً جديداً له وظل يعمل بهذا الاتجاه حتى عام 2005.
بعدها توقف عن العمل، ليعيد النظر في تجربته الفنية التي استمرت 15 عاما، بحثا في قراءة جديدة لأعماله الفنية، مع مراعاة القوانين الفيزيائية. وتوصل في النهاية إلى اكتشاف بُعد جديد في العمل الفني، الذي أصبح لا يشمل فقط الطول والعرض بل المركز أيضا. فبالنسبة لعبير الخطيب ليس هناك بداية أو نهاية للعمل الفني، وليس هناك ظلام أو ضوء، الكل متوحد، ليؤشر في الوقت نفسه إلى مركز العمل الفني أي مركز اللوحة.
من عمان إلى أمستردام وصولا إلى لندن كان الفنان يرحل ويرتحل بفرشاته وألوانه وأيقوناته الدائريّة إلى العواصم العالميّة ليُعدّ اليوم واحدا من أهم التشكيليين العرب المُهاجرين واللامعين.
_________
*(العرب) اللندنية

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *