* أمجد ناصر
يعيد الداعية الإسلامي عمرو خالد الحديث عن الأندلس من خلال برنامجه الرمضاني “قصة الأندلس” الذي تبثه أكثر من قناة فضائية عربية، وبذلك يحضر “فردوسنا” المفقود من زاوية “التاريخ” والعبرة وليس من زاوية الفن الدرامي كما اعتدنا على ذلك في رمضانات سابقة.
لعمرو خالد جمهور مؤكد وسط المشاهدين العرب خصوصا الشباب منهم، وهو يحرص -كما يبدو- على مخاطبة هذه الشريحة التي كتبَ لها أن تطلق شرارة التغيير في العالم العربي، وإن لم تحصد ثماره التي لم تنضج حتى الآن.
وله طريقته الخالصة في الحديث ومزج العربية الفصحى بالعامية المصرية. هناك من يراها طريقة فعالة في مخاطبة جمهور متنوع الحظوظ الثقافية والتعليمية، وهناك من يرى أنها تتوسل الشعوبية وتنحو منحاها، ولكن هذا ليس موضوعي اليوم.
ما يهمني هنا هو “صورة” الأندلس في المخيال العربي والإسلامي التي لم يفعل عمرو خالد سوى تأكيدها، على الأقل عبر الحلقات التي بثّت حتى اليوم.. وإن أضاف إليها إسقاطا يراد به مخاطبة لحظتنا الراهنة وما تحفل به من “نماذج” إسلامية.
هناك كثير من التصورات العربية عن الذات أو الآخر تحتاج إلى مراجعة أو مقاربة جديدة، ومن ذلك “الصورة الأندلسية” التي لا تظهر فيها الأندلس إلا كفردوس مفقود أو كجرح نازف لم تتمكن أكثر من خمسة قرون على سقوط غرناطة من لأمه. لا الكتاب ولا المؤرخون ولا الشعراء أعادوا النظر في الصورة التي وصلت إلينا عن الأندلس، ولا بد أن يكون هناك سبب وراء هذا الإجماع.
ويخطر لي أن السبب يجد تفسيره في غياب المشروع العربي للزمن الحاضر، والتطلع إلى الماضي بوصفه حاضرا أو مستقبلا، فالأندلس مثلت -كما هو معروف- أزهى لحظة في التاريخ العربي الإسلامي، وهي فعلا لحظة فردوسية والخروج منها هو خروج من التاريخ.
ويبدو أن لكل واحد منا أندلسه، وأندلسي -لأكثر من سبب- هو غرناطة. فمنذ تلك الزيارة الطيفية الأولى التي تبدو لي الآن كأنها وقعت في الحلم لا في اليقظة، وأنا أهرع إلى كل شاردة وواردة أندلسية تعرض لي، خصوصا إذا كانت غرناطية.
لكني لحظتها -لحظة تلقي الصدمة التي تخبئها للزائر الرابية الحمراء- لم أكن محتاجا لأكثر من الطواف المسحور بين أعمدة مستدقة وأقواس متطامنة وحنيات وممرات تردد أصداء قصائد ومطارحات فقهية وعلمية ومجادلات فلسفية وسياسية تبدّدت إلى الأبد، أو حفظ لنا منها التاريخ نزرا يسيرا يتبدى في ما يشبه الديوان الشعري والأدبي الذي تحتفظ به جدران قصر الحمراء إلى الآن، ويعكس في الوقت نفسه العلاقة الشائكة بين الكلمة والقوة، ومَن منهما يَفيد من الآخر؟ وأيهما يكفل “خلود” الثاني بعدما تزول أسباب تمكّنه؟
كان عام 1992 الذي اختتم خمسمائة عام على سقوط غرناطة و”اكتشاف” أميركا، حاسما على صعيد الاهتمام الأدبي والفني العربيين بالموضوع الأندلسي الذي ظل الاهتمام به حكرا على دراسات التاريخ، لكن ما كتب وأنتج عربيا لا يقارن بما أنتج في هذه المناسبة أوروبيا وأميركيا. ومن بين كثير من الأعمال التي أنتجت في هذه المناسبة أو بعدها، قلة هي التي هزتني بالقدر الذي فعلته “جنة العريف” أو “ساحة السباع” أو الظلة الوريفة لزقاق بسيط في “البيازين”.
ولست أقصد عندما أتحدث هنا عن هذه الأدبيات الأندلسية الارتقاء إلى مستوى “الجرح” ولا محاكاة الأصل، بل القبض على لحظة الألم السرمدية التي عصفت بغرناطة في لحظتها الأخيرة.
لكن معظم هذه الأعمال فشل -للأسف- في مساءلة الرواية التاريخية العربية لسقوط غرناطة ولم يستنطق المسكوت عنه، ولم يذهب مذهبا مغايرا لأسلافنا المؤرخين، خصوصا عندما يتعلق الأمر بأبي عبد الله الصغير. أليس غريبا أن لا يكون هناك أي مرجع يتناول حياة هذا الملك البائس، وأن تنقطع أخباره في الروايات التاريخية العربية عند وصوله إلى فاس؟
فباستثناء بضعة أسطر يوردها المقري في سفره العظيم “نفح الطيب”، لا شيء يذكر عن آخر ملوك العرب في الأندلس. وكل ما يورده المقري أن ولديه عاشا بعده في فاس على صدقات المسلمين كالمتسولين!
لكن الأغرب من ذلك أن المصادر والمراجع الغربية كانت “رحيمة”، ولعلها أن تكون موضوعية أكثر حيال آخر ملوك “بني نصر”، فواشنطن إيرفنغ يرسم له صورة أكثر إنسانية وأدنى إلى المنطق من سائر المؤرخين والكتاب العرب.
ففي كتابه المؤثر “سقوط غرناطة” يظهر أبو عبد الله الصغير (والصغير هنا للتفريق بينه وبين عمه وعدوه اللاحق أبي عبد الله الكبير الملقب بـ”الزغل”) في سمت الملك الذي لا يملك دفعا للتمزقات التي تعصف بمملكته، فهو ليس جبانا ولا متهتكا ولا عميلا للملكيْن الكاثوليكيين.
إنه باختصار محصلة صراع مرير على الحكم بين أبيه أبي الحسن وعمه أبي عبد الله الزغل في بلد لم يكن أصلا ذا شوكة عسكرية، وفي لحظة اختلال في موازين القوى في الجزيرة الإيبيرية، وضعف عربي على الجانب الآخر من المتوسط خصوصا في الحاضرة الأقرب والأهم: المغرب.
فغرناطة التي تسلم زمامها هذا الملك سيئ الطالع كانت تدفع “الجزية” لفيردناد وإيزابيل منذ أمد، ووالده هو الذي قرر في لحظة كبرياء فادحة، أن يتوقف عن الدفع لأن “دور الضرب في غرناطة لم تعد تسكّ الدراهم بل السيوف والرماح” على حد قوله لمندوب الملكين الكاثوليكيين.
أما الشاعر الفرنسي لويس أراغون فيمشي في ركاب إيرفنغ في التماس صورة أخرى لأبي عبد الله، ويستغرب أن تكون والدته السلطانة عائشة الحرَّة قالت في لحظة الوداع الأخيرة عندما ألقى أبو عبد الله آخر نظرة على قصره ومدينته “ابكِ كالنساء مُلكا لم تعرف أن تحافظ عليه كالرجال”.
لا أحد من الكتاب العرب -حسب علمي- حاول استجلاء صورة الملك الأخير لغرناطة، فكلهم أعادوا إنتاج الرواية التاريخية العربية، بما تنطوي عليه من سلبية وتخوين.
العملان الوحيدان من بين ما قرأت اللذان وجدتهما يدفعان التساؤل والفحص إلى آفاق جديدة، هما روايتا الإسباني أنطونيو غالا “المخطوط القرمزي” والبريطاني من أصل باكستاني طارق علي “تحت ظلال الرمان”. ورغم أنهما قد لا تكونان مهمتين على الصعيد الإبداعي، فهما مع ذلك تساءلتا بانفتاح وجرأة عن كثير من الجوانب التي أوصلت غرناطة إلى نهايتها الشقية.
وقد يكون السبب في كون المؤلفين ليسا عربيين ولا يصدران من الرواية التاريخية العربية، بخصوص غرناطة ولحظتها الأخيرة التي لم تتعرض للهز أو التحدي طوال خمسمائة عام، وليس عليهما بالتالي الانشغال برضا “الأهل” أو غضبهم.
ومثلما يحاول عمرو خالد تقديم نموذج إسلامي متحضّر ومنفتح في برنامجه “قصة الأندلس” ليخاطب لحظة راهنة حافلة بخطابات تشدد وتعصب، فعل ذلك قبله شاعر كبير هو محمود درويش في عمله الشهير “أحد عشر كوكبا على المشهد الأندلسي”.
فقد ترافقت كتابة درويش لعمله هذا مع “اتفاق أوسلو” الذي بدا للشاعر -ولكثيرين غيره- بمثابة “استسلام” لإسرائيل وليس سلاما معها، فلم يجد أفضل من لحظة تسليم مفاتيح غرناطة ليسقطها على الحال الفلسطينية والعربية، رغم أنه يقول إن للحقيقة وجهين، لكنه لا يقدم لنا سوى وجه واحد لها: وجه الملك العربي المستسلم:
“للحقيقة وجهان، والثلج أسود فوق مدينتنا
لم نعد قادرين على اليأس أكثر مما يئسنا،
والنهاية تمشي إلى
السور واثقة من خطاها
فوق هذا البلاط المبلل بالدمع، واثقة من خطاها
من سينزل أعلامنا: نحن أم هم؟
ومن سوف يتلو علينا “معاهدة الصلح” يا ملك الاحتضار؟
(…) لم تستطع أن تفك الحصار
فلنسلم مفاتيح فردوسنا لوزير السلام،
وننجو (…)
لم تقاتل لأنك تخشى الشهادة، لكن..
عرشك نعشك
فاحمل النعش كي تحفظ العرش
يا ملك الانتظار
إن هذا السلام سيتركنا حفنة من غبار”.
لكن درويش الذي يتحدث عن وجهين للحقيقة ويقدم وجها واحدا لم يكن يفكر فعلا بأبي عبد الله الصغير بل بياسر عرفات.. وربما بالزعماء العرب أيضا.
قد يكون من الصعب علي أن أنسى ما حييت، لحظة “إسقاط” غرناطية أقدم من قصيدة محمود درويش، ولم يكن شاعرا أو كاتبا من فعلها، بل كان رئيسا عربيا هو حافظ الأسد.
فمع خروج كوادر ومقاتلي الفصائل الفلسطينية من بيروت أواخر صيف العام 1982، وكنت من بينهم.. ذهبت إلى دمشق مثلما فعل عدد لا بأس به من هؤلاء الكوادر والمقاتلين في إطار توزيع القوات الفلسطينية على بلدان عربية، وما إن وصلنا إلى “الشام” حتى بدأ التلفزيون السوري بث مسلسل درامي مصري عن سقوط غرناطة.. وطبعا عن خيانة أبي عبد الله الصغير وعدم قتاله دفاعا عن مدينته وشعبه.
كان عداء حافظ الأسد وكراهيته لياسر عرفات يفوحان من هذا المسلسل الذي لم يكتب -طبعا- عن الخروج من بيروت، ولكنه استغل لهذا الغرض.
________
شاعر من الأردن يقيم في لندن(الجزيرة)