* حميد السوداني*
ثمة أفكار نادرة في وعي الانسان تتعلّق بالكائن نفسه الذي يجيز لضميره تهشيم ما مسكون عنه لارادة خطرة يصبح فيها بشراً نادراً، وهي مشاركة انسانية لا أحد ينهض بها بسهولة، وخاصة اذا كان التعبير عن طريق السرد الروائي الذي يكون موضوعاً من الحب الممزوج بالعذاب وهي رغبة مجيدة علينا جميعاً أن نبتسم لها.
ولقد ذهب البعض من مفسري الارادات انّ هذه العواطف المنسوخة في القلب الانساني قد تحترق ويفوت أوان صلاحيتها. لكن تجربة (طعنة برد) أزاحت غشاوة النقد المبكر لما لها من توزيع عاطفي بين ضحايا المدينة والزوجة والأطفال الثلاثة والأهم توأم الروح التي عادت الى الواقع والحلم وما تبقى من حرية وأمان في الوطن من أجلها كما ذكرنا بذلك بيشو كاكو في كتابه فيزياء المستقبل على أساس انّ البشرية لابد أن تهرب يوماً ما من النظام الشمسي الى النجوم القريبة، لتبقى على قيد الحياة، أو أن تهلك، يبقى السؤال، كيف يمكننا الوصول الى هناك، رجل يتجاوز مرحلة الشباب، متزوج له ثلاثة أطفال ونافذة يطل عليها حب جديد، حب لا أحد يعرف عنه سواه ( عندما يأتي الصمت على غير موعده يحز رقبة الصراخ (ص7) ولأني مضطر للبحث عن أنفاس حبيبتي (توأم الروح) بين جنائن العشق ولقمة العيش لأطفالي الثلاثة)، أدى هذا النبض الايقاعي والحرب التي ترسم لوحات الحزن والرعب في الشوارع والبيوت إضافة الى الدعوة العسكرية المتكررة لمعسكرات فيها أنموذج العنف والأذى (عريف نيسان) أنموذجاً، أدى ذلك كله إلى أن يخرج حاملاً حقيبة الحلم المتأخر للدفاع عن ذاته المتبقية وثمة واقع آخر خلف الحلم الكبير وراء البحر، بحر الكاتب والشاعر والمحروم من الزرقة والبرودة والمدن التاريخية الكبيرة، وفي طريق غير شرعي عبر البر والبحر وما صادفه من معوقات ومفاجآت هو والآخرون الذين يحملون في سلالهم أحلاماً شتى، يرحل بينما أمه تريد له العودة لتذبح له (الديك الأبيض) لكن هنالك في عقله وقلبه وأحلامه خيول حمى تبحر عربات غنائم، وسيوف تفتح الطرق المالحة وكذلك لغة لها ألف عام من العمر (من الرواية) .. كلها في الرأس .. هذا الرأس الذي صرخ صرخته الأولى .. (ارحل أولاً ارحل) ولهذا فأنّ الحب الذي وزعه بين البيت والحقيبة كان اسلوباً حضارياً باعتقاده، وهي مشتركات بين البشر الذين عندهم القناعة بأنّه لا يمكن العودة الى الحياة وكذلك لا يمكن للزمن أن يرجع إلى الوراء، لكن هذه المشتركات ربما تضيع أو تموت حينما نكبر كما يعتقد جيم مالكير (في يوم ما في الثلاثين سنة المقبلة وبهدوء شديد، سنتوقف عن كوننا الأذكى على سطح الأرض… هذا الرجل رحل برؤية صحيحة وما تبقى من مستقبل من دون الاعتماد على تجارب حبه السابقة ( العذرية العربية والتجربة الزوجية) و(حب النافذة الغامضة) ولهذا كان العزم على رحلته هو الهرب الى الوحدة التي لا أهمية لها بالنسبة لقوانين الحنين البشري وحاجة البقاء، وهنالك الملايين يسافرون يومياً الى أمتاع العالم كما يقول الكاتب بيات مرعي في «طعنة برد» ( الكل سافر وأهدافهم مختلفة) لكن وكما يقول فيودور دوستوفيسكي في احدى رواياته ( لو انّ كل شئ على الأرض كان منطقياً، لما حدث شئ ) وهو ما نريده عبر التواصل مع الطعنة التي تحوّلت من نار حارقة جراء الحرب الى برد كما يقول مرعي في صفحة 40-1 ( بلدي المطعون بجروح باردة من حروب طويلة ساخنة حقيرة أسقته كأس الهوان .. )
في العمل الروائي يجب أن تتمشى الأحاسيس مع تيار الأحداث والارادة المتمثلة في الشخصيات، كما لايصح أن تتغير شخصية داخل العمل إلا بمقدار ماتبرزه الوقائع؟ وهذا ماقرأته في شخصيات «طعنة برد» ( كيبيرين الاثيوبية، الحب حتى الموت) (برهو الصعلوك، الوفاء حتى المحطة الأخيرة)، (النقيب أوليان الألماني التحقيق العادل حتّى الحصول على الحل الانساني)، وكذلك الراقصة الروسية في الملهى التي قدمت له النصيحة للهرب من هذا المكان غير الآمن) .. لكن يبقى سؤال بطلنا في الرواية الذي أراد الحلم المتأخر، ووصل الى قناعة العودة واليقظة المتأخرة .. لا أحد يحتاج إلى القول انّ العمل الضخم تلزمه شخصية ضخمة وليس من سبيل آخر، ولكن هذه آراء نسبية قياساً الى الحكم العام لبعض السرديات التي يكون نجاحها من مدخل ثانٍ .
لكني وجدت أمانة في نقل تجربة، كما قلت سابقاً، نادرة بالمعيار الأدبي عبر ادراك وعبور لبعض الوقائع التي اشترط مرعي أن يجعل للمصادفة تلقٍ آخر للرواية برغم انه (( أبو الدرب )) رسم مخطط الرحلة كاملاً ( ياشباب .. ماسأخبركم به الآن مهم جداً، عليكم أن تستمعوا إليّ باصغاء تام، انّ العملية التي ستقدمون عليها لاتتحمل أي خطأ مهما كان صغيراً، ربما يكلفكم ذلك حياتكم أولاً ) .. نعم ( قيادة البطل للزورق، ضياع الجميع في البحر، مشاهدة الجبل والتخلص من سفن اللصوص .. الخ كل ذلك قرأناه في مشاهد مركبة، واقعية تحمل لنا نفساً اخراجياً جميلاً..
وفي العمل الروائي يكون الكاتب متميّزاً في التقاطه المشاعر، وفي تنسيقها، وهنا لا بد أن أشير إلى بعض الشخصيات الجميلة التي سماها الكاتب سواء بالوصف أو المقابلة المكانية منها ( النقيب أوليان ) الصديق السوري، العامل التونسي، السائق السكير وغيرهم.
لكن المفاجأة في الرواية هذا التحول الأخلاقي في رحلة البطل، واطفاء الحلم نهاية لم تكن مقنعة للبطل نفسه، انه سؤال بل أسئلة عدة كما في رواية باتريك كيللي ( فكر مثل الديناصور)، في هذه القصة نقلت امرأة النقل الفوري البعيد الى كوكب آخر، غير إنّ المشكلة كانت في النقل، بدلاً من أن يفني الجسم الأصلي، فانه يبقى كما هو وتبقى عواطفها كلها من دون حس، فجأة توجد نسختان منها، وبالطبع عندما تؤمر النسخة بدخول آلة النقل لكي تتفكك فانها ترفض ذلك، يؤدي هذا الى خلق مشكلة؛ لانّ الغرباء القساة الذين دخلوا التقنية أولاً ينظرون الى هذه المشكلة على انّها مسألة تقنية فقط ( توازن المعادلة ) في حين يتعاطف البشر الخاضعون للعاطفة أكثر من قضيتها.
الروائي «بيات» لم يخلّص البطل من عقد الماضي .. العلاقات، الأخلاقيات، الثقافة العامة وكذلك الحلم الأعلى لرجل مثله تحدّى الواقع الثقيل لينتقل فوراً الى عالم التقنية والأخلاق الجديدة .. ولذلك لم تشفع له ثقافته وخبرته في نقل روحه وتجديدها هناك .. كثيرون فعلوا ذلك وكان انتماؤهم للغرب وعاداته قد تأصل تقريباً . لكن البطل الذي تذكر (باب جديد والماجينا والنافذة المحطمة والأطفال الخائفين في بيته)، قرر أن يلملم حقيبته بالحيرة والبرد متوجهاً الى بلده .. وحين وصل هناك، عاد ليحلم بعودة أخرى !! لماذا يعود وقد استنكر في كل البلدان الأوروبية التي زارها ( الأجساد العارية المفعمة بالانوثة، والاباحية المطلقة، والرجال وأنصاف الرجال، والنبيذ المختلف في نوعه وذوقه).. هل يتغير كل ذلك في حلم متأخر آخر، وتتحول روحه الى توأم جديد في الغربة أم انّها لعبة تحرّكها الأقدار التي هي ليست من صنع ارادته الانسانية البريئة.
_______
*(الصباح الجديد)