عوالمنا وعوالم الغرب


*أمير تاج السر

في زيارة لي إلى روما، بمناسبة تدشين النسخة الإيطالية من روايتي “صائد اليرقات”، التقيت بكثيرين من متابعي الثقافات المختلفة، بما فيها الثقافة العربية، منهم كاتب إيطالي من جيل الشباب، كان قد نشر روايتين من قبل رسختاه كاتبا معروفا في بلاده إلى حد ما.

أخبرني ذلك الكاتب أنه زار جزءا من آسيا، ولم يزر بلاد العرب حتى الآن، لكن ما قرأه من كتب تراثية وآداب كتبها العرب، وما شاهده من فنون نقشها فنانون منهم، في معارض مختلفة زارها، بهرته كثيرا، ويعلم الآن أن لدينا عوالم ساحرة ومدهشة، ويمكن أن نصنع إمبراطورية من الإدهاش الكتابي والفني، تماما مثلما حدث لأميركا اللاتينية، فقط لو وسعنا من ترجماتنا، وأوصلنا من يستحق أن يصل إلى متذوقين آخرين. وقد بات هو شخصيا يحسدنا على ذلك، ويتمنى لو امتلك تلك العوالم التي كانت ستضيف إلى كتابته.
ما قاله ذلك الكاتب يبدو جيدا بالفعل، وداعما للروح المعنوية بشكل كبير، ولا بد أن هناك كتّابا آخرين من عالمه يشاركونه نفس الرأي -وهذا في رأيي- بالضبط ما نبحث عنه حين نتوجه للآخر البعيد بآدابنا وفنوننا، عبر ترجمتها، بعيدا عن تقلبات السياسة والتعب الاقتصادي، وأمزجة الأوطان المتقلبة في معظم الأحوال، وقد أنفقنا سنوات طويلة، نقلب في ثقافات الآخرين ونترجمها إلى لغتنا، ونختارها كلها لنقلدها أو نحذو حذوها من دون تفريق بما يلائمنا منها، وما لا يلائمنا.
وبالرغم من أن الكتابة بالتحديد، في البلاد الأوروبية وأميركا، قالت كل ما عندها منذ زمن طويل، ولم يعد ثمة ما يدهش فيها، إلا أنها ما تزال ترد في تعليقات القراء عندنا، في مواقع القراءة المختلفة على الإنترنت، بوصفها فتوحات يعجز كتابنا عن بلوغها.
هذا ما أسميه الانبهار الدائم بالغرب، وأن ما يصنعه جدير بالمرور إلى تذوقنا بكل هيبة وإجلال، وبصفتي من القراء المواظبين منذ زمن طويل، اطلعت على معظم الروايات التي اشتهرت في الغرب مؤخرا، لسبب أو لآخر، وكان معظمها كتابات نمطية، لم تزد إلى القديم المتراكم في ذهني، شيئا جديدا.
“ثلاثية ملينيوم” للسويدي أستيغ لارسن مثلا التي بيع منها ملايين النسخ، وترجمت للعربية مؤخرا، ووجدتها صفحات طويلة من التداعيات الداخلية للشخوص، كان يمكن اختصارها كثيرا، ثم ليأتي هذا الكاتب الغربي ويحدثني صراحة عن عوالم مدهشة لدينا، يتمنى لو كان يملكها، ليجدد دماء كتابته.
وإمعانا مني في ترسيخ تلك النظرة المفرحة للكاتب الغربي، توغلت في الأسئلة عمن قرأ من كتّابنا، وما الذي أدهشه حقيقة، واكتشفت بأنه قرأ بالطبع ألف ليلة وليلة، قرأ لنجيب محفوظ، والطيب صالح، وصنع الله إبراهيم، ويوسف زيدان ولي شخصيا، بجانب عدد كبير آخر من الكتاب العرب، والذي أدهشه، تلك الحياة اليومية، التي نعتبرها عادية لدينا، ولم يعتبرها كذلك، تلك الفنتازيا الغريبة، ولا تعد عندنا فنتازيا، وتلك الأمواج من الناس المعطونين بالتعب والعرق واللهاث، ويتوسلون الحياة، لتعتدل، بينما يراها الغربي زخما فذا لكتابة فذة.
وفي سؤالي له عن قارئه شخصيا، عرفت بأنه غير راض تماما عن توزيع كتبه، ولم يزد توزيعها على ثلاثين أو أربعين ألف نسخة.
بالطبع هذا رقم أسطوري في بلادنا العربية، والكتاب الذي يوزع بتلك الأرقام، يعتبر ناجحا جدا، وستهز مؤلفه غبطة، ولم يصل إلى هذا الرقم عندنا إلا قلائل، ولأسباب في معظمها لا تتعلق بالإبداع، أو الإجادة في الكتابة، وإنما لعوامل أخرى مختلفة، مثل أن يعلق رجل دين معروف على رواية ما، بوصفها تعدت على المقدسات، أو تمنع الرقابة في بلد عربي دخول كتاب، ويصرخ المؤلف في كل مناسبة بأن كتابه منع من العرض في تلك الدولة، وفي أحسن الأحوال، تكتب مقالات بلا عدد عن رواية معينة، حتى يختنق القارئ بتلك المقالات، ويضطر للبحث عن الرواية ليعرف ما بداخلها.
عرفت أيضا في حواري مع الكاتب، أن القارئ الغربي، وهو قارئ متوفر ومتمرس إلى حد ما، يضع برنامجا صلبا لقراءاته طوال العام، هذا البرنامج يشتمل على كتب ينتقيها عشوائيا، وكتب ينساق وراء سمعتها أو سمعة كاتبها، أو لكاتب قرأ له من قبل وأعجبه أسلوبه، وسيسعى خلف جديده في كل مرة.
وكان نجاح الأميركي دان براون في شيفرة دافنشي دافعا كبيرا لمعظم القراء أن يسعوا لامتلاك رواياته اللاحقة، وما شاهدته في محطات المترو والقطارات والكافتيريات، بأن معظم من كانوا منكبين على القراءة في لحظات الانتظار، كانوا يقرؤون رواية “الجحيم”، آخر روايات دان براون، أو رواية أخرى صدرت حديثا للأفغاني خالد حسيني، الذي يكتب بالإنجليزية، واشتهر كما هو معروف بروايته “عداء الطائرة الورقية”.
خالد حسيني هنا لا يكتب حياة الغرب المعروفة المكشوفة، ولكن يسترجع بذاكرته ما حدث لبلاده أيام حكم طالبان، وهو يكتب تلك البهارات التي لا تتوفر إلا في العالم الثالث، واعتبرها الكاتب الإيطالي عوالم مدهشة، ويبدو أن زمن طالبان بالرغم من أنه شبه انقضى، وتعيش أفغانستان عصرا آخر، محاولة ترتيق جراحها، ما زال يغري بالكتابة، وأيضا بالتذوق لدى الذهنية الغربية.
ولأنني أحب زيارة المكتبات، حتى لو كانت تعرض سلعا لا أفهمها، عرجت على مكتبة ماندادوري شارع إيمانويلي التجاري، في مدينة ميلانو، أو مركز ماندادوري، كما كتب عليه، وذهلت حين وجدتني أدخل ما وصفته بالحديقة، من شدة الجمال والسحر الموجود فيها.
الكتاب كأنه زهرة، وقد رصت الكتب في نظام بديع، يتيح لكل فرع من فروع المعرفة أن يتنفس بعمق، وأن يظهر وجهه السمح لقارئ ربما ينجذب أو يقع في غرام كتاب يشاهده لأول مرة، وقد كانت كتب الأدب تكتسي هذه الزينة نفسها، وتبتسم في وجوه القراء.
أخيرا أود أن أنوه إلى أن القارئ العربي الذي كان متوفرا إلى عهد قريب، لم يتخفف من غذاء القراءة باختياره، ولكن عوامل كثيرة وقاهرة دفعته بعيدا، فلا ازدهار للقراءة في زمن يمتلكه الفقر، واللهاث اليومي من أجل الحياة، وعدم الاستقرار في بلاد انتفضت ولم تهدأ انتفاضاتها حتى الآن، هنا ثمة أولوية، نعتبرها تعبا مزمنا، ويعتبرها الكاتب الغربي عوالم مبهرة تؤدي لكتابة مبهرة.
_____________
* روائي من السودان (الجزيرة)

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *