العمارة… للأطفال


*د. خالد السلطاني

تستهويني الكتب المعمارية “المصنفة”: الكتب القريبة من المنهجية (ولكن ليست تلك المنهجية الجافة!). الكتب التي تضع هدفاً معرفيا لها، حتى ولو كانت تعليمية!والتي بوسعها ان تنقل خاصية العمارة وخصوصيتها الى المتلقي، اياً تكن ثقافة الأخير. يأسرني هذا النوع من المؤلفات، وافتن بها، واقرأها بمتعة. أتكون طبيعة مهنتي (التي اعتبرتها، دوماً، جليلة)ومارستها لسنين عديدة، كـ “معلم” للعمارة، قد صاغت، نوعاً ما، خصوصية اهتماماتي وحددت، بالتالي، نوعية قراءاتي؟. قد يكون ذلك. ربما كان ذلك صحيحاً. لكني ما انفكيت اشعر بلذة مشوبة بالبهجة، وانا أقرأ مثل تلك الكتب. فهي تسعى الى إظهار الأنماط المتنوعة في كيفية تكثيف المعلومة المعرفية، وصياغتها وتوضيحها ونقلها مباشرة الى القارئ. وهي عملية قد تبدو ،كما يتراءى للبعض، بانها سهلة، أو في متناول اليد. لكنها في الحقيقة، غير ذلك بالطبع. إذ يتطلب الوصول اليها من قبل المؤلف توافر معلومات كثيرة ومتنوعة وعميقة لديه، كي يمكن تحقيق تلك الصياغات التي نراها ونطالعها في مثل تلك الكتب. انها، باختصار، تقع في مجال ما نسميه “السهل الممتنع”، الذي يبدو بسيطا، بيد ان إنجازه، في الواقع، يظل أمرا صعباً وشائكاً. 

قليلة هي الكتب الجيدة والناجحة التي تتعاطى مع مثل هذه الموضوعة. وشحيحة هي الكتب المعمارية الموجهة الى فئة معينة، مُحددة بعناية من قبل مؤلفيها. لكن الأندر في كل ذلك، تلك الموجهه الى ..الأطفال.هل قلت “أطفال”؟، نعم. انها لهم، تلك الكتب المتضمنة للمعرفة المهنية الغامضة والنخبوية، التي ترمز لها كلمة “عمارة”. ومثل هذه الكتب لا تبتغي تحديد وتشكيل مستقبل الأطفال المهني، بقدر ما تهدف الىإثراء ثقافتهم العامة، وجعلها متنوعة ومتعددة. وتكمن القضية الأساسية في سرديات تلك الكتب، ليس في حضور المعلومة المعمارية العامة، وإنما القدرة على اصطفاء نوعاً محدداً من المعلومات المواتية، تكون مناسبة لتبنيها فيه، والاهم “تنطيقها”، بحيث تتلاءم مع طبيعة “الإرسال” المعرفي الجديد الذي يتم “إرساله” الىالمتلقي– الطفل. وهنا تحضر، بالطبع، صور المباني، كأداة مهمة في ترسيخ المعلومات المعطاة الى الطفل، ولكن بصيغتها البصرية، وضمن معايير “الرسم الطفولي” وأساليبه. نحن اذاًـ أمام مهمة تشكيل برنامج لمخطط سردي يكفل حضور المفردة البسيطة وانتقائها، ونص مكثف، يكون مصحوباً برسم توضيحي، زاخر بالذائقة “الطفولية”. وكل هذا يمكن ان نراه في الكتاب الصادر، مؤخراً، عن دار “نشر برستيل” Prestel الألمانية الرصينة، والمعنون : “من أكواخ الطين الى ناطحات السحاب” ( المؤلفة: كريستينا باكسمان وبرسوم الفنانة آنا ابيلنغس، C. Paxmann Illustrations A. Ibelings, From Mud Huts to Skyscrapers ميونيخ، 2012، 64 صفحة من القطع الكبير).
تنبني محتويات الكتاب على حضور تصميم لمخطط واضح، ابتدعته المؤلفة كأساس لعرض سرديات كتابها. وهذا التصميم يتضمن كتابة عن مقاربة معمارية معينة، تكون عادة متمثلة في مبتدع/ منشأ معماري يعود الى حقبة زمنية محددة، مضاف اليها، رسم تخطيطي يصور ذلك المبتدع، مثبت عليه أرقام تشير الى عناصر أساسية تتوق المؤلفة من خلالها الى سرد الأهمية التصميمية لها وقيمتها التكوينية. ومن مجموع تلك الأمثلة المعمارية في الحقب الزمنية المختلفة يتشكل المسار التطوري للمنتج المعماري العالمي؛المسار، المعني من قبل المؤلفة، لعرضه و”بثه” الى متلقي كتابها: الطفل. وهي تشير في مقدمة كتابها، من إن ذلك المسار وتمثلاته المبنية “..لم يعد جزءا من التاريخ المعماري فقط، وانما يساعد الناس في جميع أنحاء العالم، لفهم ثقافتهم الخاصة وإدراكها بشكل صحيح”. وتقول”.. ان المباني العظيمة، سواء كانت اهرامات او كاثدرائيا ترومانسكية او غوطية، او جوامع عثمانية اواضرحة قديمة، لا يمكن ان تغيب عن ذاكرة المرء، حتى ولو كانت أسماء معمارييها مجهولة؛.. فالعمارة، أبعد من أن تكون عملية تشييد مبانٍ، انها سجل مرئي للتاريخ، وتدوين لحكاياته!”.
تبدأ المؤلفة في سرد “حكاياتها” المعمارية،إذاً، منذ القدم، منذ أن اكتشف الإنسان الكهف، ليكون الأخير موئلا للسكن. وتكتب، بان الإنسان قبل مليونين سنة تقريباً، كان هائما على وجه متنقلا بين الاشجار. لكن الامر ما لبث أن اختلف في حدود 400000 سنة، عندما تعلم الانسان السير لمسافات طويلة على رجلين، وقد فقد الكثير من شعر جسمه، بحثا عن نباتات وحيونات صالحة للأكل. وبهذا ظهرت، لأول مرة، تجمعات بشرية مشتركة خاصة للصيادين. وهذه التجمعات اتخذت لنفسها مأوي في كهوف الجبال المحيطة، في حين قررت تجمعات أخرى ان تبني اكواخاً لها ما بين أغصان الأشجار او على الأرض. وعلى مدى آلاف من السنين اعتمد الانسان مثل هذه الصيغة لسكناه. وبعد الانتقال في سلم التطور الى مرحلة الزراعة، والعناية بالارض، كان لا بد للانسان ان “يستقر” في مكان واحد، وان يعمر مدن “ويملأها” ببيوت ثابتة و”راسخة”. كانت معظم اشكال تلك النماذج السكنية،التي استخدم الخشب واغصان الشجر مادةً إنشائية أساسية لها، كانت بأشكال دائرية، وكان بعضها يلبخ بالطين من الداخل والخارج.. بعد ذلك وقبل حوالي 7000سنة، تفتقت قريحة الانسان، عن اكتشاف النار وطريقة استخدامها، موظفا ذلك الاكتشاف لاستخدامات شتى، بضمنها “شوي” الطين سعياً للحصول على مادة إنشائية متينة لمبانيه. وهذا ساعد في تمكين الانسان لانتاج وابداع آجر/ طابوق بحافات حادة ودقيقة، وزوايا قائمة، مما جعل من شكل البيت ان يتخذ شكلاً منتظماً. وباكتشاف “العجلة” في حوالي 4000 سنة قبل الميلاد، تمكن الانسان من تشييد مبانٍ سكنية كبيرة وبسرعة، ومن تجميعها شيدت المدن، وهو حدث اشار وقعه بوضوح،الىنشوء “العمارة”وبدء نشاطها. 
وهكذا، يتابع القارئ/ الطفل سرديات الكاتبة، التي فيها تحضر المعلومة المعمارية الشيقة، المتمازجة مع تبدل الطرز والمقاربات التصميمة، وتصل معه الى العصور الوسطى. ونقرأ، معاً، في مكان من كتابها، عن مباني “الباروك”Baroque ؛ ذلك الطراز المميز الذي شاع، في القرن السابع عشر وخصوصاً بالمشهد البنائي الاوربي بعد طراز ” الرنصانص الكلاسيكي”. وترى المؤلفة ان مفهوم طراز “الباروك”لم يقتصر على العمارة لوحدها، وإنما شمل كل نواحي الإبداع بضمنها الرسم، والأدب والموسيقى والمودة والتصميم؛وصاحبه ظهور التنانير المنتفخة، والاوركسترا الكبيرة، وأساليب الرسم الخاصة. وتذهب المؤلفة بان جذر تلك الكلمة، يعود الى اللغة البرتغالية، وتعني “اللؤلؤة ذات الشكل الغريب!”. وقد ولع بهذا الطراز، في الأخص، ملوك وأغنياء اوربا، فضلاً على كهنة الكنائس ورعاتها. 
وبعد، القيام “برحلة” طويلة عبر الزمن، تسرد مؤلفة الكتاب، من خلالها الطرز المعمارية المختلفة والمتنوعة، وتصل بقارئها الفتي، الى الطرز الأخيرة، الشائعة في المشهد المعماري، وهي رحلة مفيدة، وممتعة ومشوقة، والاهم فيها، تعاطيها مع آخر ما وصلت اليه العمارة من مقاربات واتجاهات. اذ تتناول المؤلفة على سبيل المثال مقاربة “ما بعد الحداثة”، وتسعى وراء تقديمها الى قارئها، بصيغة معلومات واضحة، ومختصرة، وبالطبع ذات مصداقية. ونصل الى “التفكيكية”، التي عندها بمثابة: “كلمة طويلة لطراز مهوس!”. ونقرأ “.. بمقدور كثير من الناس ان يشيدوا عمارتهم بخطوط مستقيمة وبزوايا قائمة، فالمسطرة والفرجال والبوصلة موجودة، و..”بيتك” جاهز!. في الثمانينات، كان معظم المصممين معنيين في تشييد مبانيهم وفق هذا المنحى المعماري، النظام الصارم المعتمد على الأسلوب الكلاسيكي المعمد، والنوافذ ذات الأشكال الهندسية المنتظمة. بيد ان في العقد الذي تلاه، قررت مجموعة صغيرة من المعماريين، ان تجرب شيئا مختلفاً، شيئا ليس له علاقة بتلك القيم التي دأب المعماريون التمسك بها وتكرارها في تكويناتهم التصميمية، عارضين طرازاً جديداً مثيراً للنقاش ، ومتساوقاً مع اسمه الغريب: ” التفكيكية” Deconstructivism “. ثم تستطرد في مكان آخر “… احد المعماريين التفكيكيين الذين نالوا شهرة عالمية واسعة، هو المعمار الكندي “فرنك غيري” (1928) F. Gehry، هو الذي كان في طفولته يلعب دوما في القناني الفارغة والانابيب وغيرها من الخردة في متجر جده. ولاحقا، عندما درس العمارة، وتخرج من كليتها، صمم ابنية عادية، بحافات مستقيمة وبزوايا هندسية منتظمة. بيد ان ثمة تغييرا حصل في مقاربته التصميمية في التسعينات، عندما بدء في استخدام الكمبيوتر كأداة لمساعدته في انتاج تصاميمه الجديدة. وشيئا فشيئا، بدت عمارته تأخذ مساقا اكثر تعقيدا واكثر غرابة. ويعد مبنى “متحف غوغنهايم” (1993-97) في “بلباو” بشمال إسبانيا، احد تمظهرات أسلوبه التصميمي الجديد، والاكثر غرابة. انه يبدو وكأنه تجميع لقناني ضخمة وصناديق فولاذية، ذات سطوح منبعجة هنا وهناك، تشبه في الغالب، خردوات متجر جده زمن طفولته البعيدة!. كل شيء يبدو هنا صدفوياً، لكنه في الواقع معمول بتعمد كامل”.
لم تشأ مؤلفة الكتاب الاقتصار على سرد الطرز المعمارية عبر العصور، وتوضيح اهم العناصر الأساسية فيها حسب، وإنما أضافت الى ذلك في نهاية كتابها نبذة مختصرة عن مختلف الطرز المعمارية التي مرت بها العمارة منذ “العمارة الأولى”، وحتى العمارة المستقبلية، وما بينهما من طرز معمارية، أغنت الحضارة العالمية بنماذج تصميمة رائعة. وقد انهت المؤلفة الكتاب بمسرد معماري، توضح فيه بلغة المعاجم المختزلة والواضحة عن معني المصطلحات المعمارية الواردة في كتابها. وبهذا فقد اهدتنا المؤلفة مع زميلتها الرسامة، كتاباً شيقا، يتعاطى، بسهولة ووضوح، مع ثيمة معرفية، عدت في أحيان كثر، بانها موضوعة نخبوية وملتسبة. وفي ظني فان كتاب “العمارة للاطفال”، يقرأ بمتعة ليس فقط من قبل اؤلئك الذين “ترسل” المؤلفة مع زميلتها الرسامة، نصوص ورسوم كتابها الشيق لهم، وانماالى الجميع: وبضمنهم، والدا هذا القارئ الصغير، وجميع متابعي العمارة، وحتى..المتخصصون فيها.
________
*(المدى)

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *