*عمّار أحمد الشقيري
دخل أوجوستو مونتيروسو البلاد العربية ببزتهِ الجديدة إذاً, دخلها لكن بعد موتهِ, كان يجلس على مقعدٍ في حديقةٍ عامة ويقرأ قصتهُ الأقصر في تاريخ السرد العالمي “حين استيقظ، كان الديناصور ما يزال هناك” وكل من كان يمر ويسمعهُ يقرؤها يرفعُ يديه استسلاماً ويصرخ:
– لست أنا الذي استيقظ يا سيدي ليرى الديناصور.
– حسناً, لا أبحث عن الذي استيقظ, أبحث عن كهلٍ عربيّ كان يتكلم العربية أثناء تجوالهِ في ضواحي مدينة تيجوسيجالبا. حيث ولدت في بدايات العقد الثالث من القرن الماضي وقبل أن أغادرها باتجاه غواتيمالا بعمر الخامسة عشر.
لم يفهم المارة الحكّاء ولم يفهمهم, فتطوعت “نهى أبو عرقوب” لتوضيح سوء الفهم وقامت بترجمة “الأعمال الكاملة وقصص أخرى” وتقديمها للقارئ العربيّ حتى يكفّ عن الصراخ, إذ أن أحداً لم يتهمهُ بالاستيقاظ أثناء تواجد الديناصور.
حدث ذلك في أواخر عام 2009 بدايات 2010, حيث شرعت المترجمة الفلسطينية نهى أبو عرقوب بمهمة فكّ أسرار كتاب مونتيروسو “الأعمال الكاملة وقصص أخرى” بحذرٍ وانتباهٍ شديدين إذ أنه “يوظف المحاكاة الساخرة والمفارقة التهكمية وعنصر المفاجأة بأسلوب أدبي رفيع، وبعبارات محكمة، وميل شديد نحو التقشف اللغوي”
نعود لحادثة سوء الفهم التي في البداية, لماذا يحصل ذلك كثيراً مع مونتيروسو وقصصه؟
تجيب نهى أبو عرقوب:
– “إن مونتيروسو يؤمن بكتابة نص مفتوح على التأويلات, يسمح بقراءات متعددة عابرة للزمن ويستدعي تورط القارئ”
– نص!؟
– نعم, نص, فهو لا يعترف بالأجناس الأدبية, ويصف نفسه مثلاً قارئ أدب لا قارئ روايات.
– كيف تعرفتِ عليه؟
– لا يحتاج أحد للبحث طويلاً, الكتّاب والمثقفون في الصباحات المشمسة بالحانات والمقاهي في أمريكا الجنوبية يرددون دائماً “قصصه بمثابة قهوة الإسبرسو في النثر الأدبي”.
الأعمال الكاملة ليست الكاملة
عام 1959 يُنهي الكاتب الغواتيمالي أوغستو مونتيروسو كتاباً يحوي على مجموعة من القصص, كانت من أبرزها الأكثر قصراً, قصة الديناصور, ولما كانت له تلك الشخصية الساخرة, وغير الجدية, فقد قرّر أخيراً وقبل تسليم المخطوط للمطبعة أن يطلق اسم “الأعمال الكاملة وقصص أخرى” على عملهِ الأول, في مغامرةٍ ستكون غير محسوبة العواقب.
القص هو الطريقة
وقبل أن يتبعهُ بكتابهِ الثاني “النعجة السوداء وحكايات أخرى” كانت القصة الأقصر فيه قد بدأت تنتشر ويتم تداولها في النقد وعلى طاولات المقاهي, لكن مع كثير من التأويلات, كان يجلس في بيتهِ ويتابع متاهة التأويل التي يكتبها النقاد في الصحف فيضحك في سرهِ ويُكمل لعبتهُ, اللعبة الخطرة.
– لكن, ما الذي كان يريدهُ مونتيروسو بهذه القصة التي تتكون من سبع كلمات ومن هذا الأسلوب الذي بدأ يتأكد شيئاً فشيئاً؟
-” رفض مونتيروسو- تقول نهى أبو عرقوب- من البداية- المفهوم التقليديّ للقصة القصيرة الذي كان رائجاً بوصفها مادّة للاستهلاك السّريع, تُقرأ ثم تُرمى. فعمل على كتابة قصة لا تٌستنفذ من قراءة واحدة، ولا ترتكز على النهاية المدهشة التي عدّها تقنية بالية؛ قصةِ حادّة مكثفة, من أول سطر إلى آخر سطر فيها, وحيث لا يهمّ النهاية ولا الحكاية نفسها بل الطريقة التي تروى بها, في سعيٍّ حثيثٍ منه للتجديد، وحيث السرد تفكيك للتقليد الأدبي، وخلطٌ للأجناس يستعصي معه النصّ المفتوح الذي يجمع التأمل الفكري و الأسطورة والنكتة البلاغية وقصيدة النثر على أي محاولة للتصنيف.
– لكن لماذا هذا الكتاب بالذات؟
– لأنه “ضَمن لمؤلّفه مكانة مرموقة بين كبار كتاّب القصة في أمريكا اللاتينية إلى جانب كلّ من خورخي بورخيس وخوليو كورتاثار وخوان رولفو وجعل منه رائداً لما يعرف بالقصة المينيمالية أو القصيرة جدّا. ففي كتابه الأوّل هذا والذي حمل عنواناً يؤكد سمة أساسيّة في عالمه القصصي ألا وهي المفارقة التهكمية، تتجلّى السمات الكبرى التي ستميّز مجمل أعماله ومسيرته الأدبية اللاحقة: خيال جامح غذّته قراءات أدبية معمّقة وبالغة التنّوع (من الأدب الإغريقي واللاتيني إلى كتّاب الحداثة الأثيرين لديه: جويس، بروست، كافكا وفولكنر، مروراً بأدب العصر الذهبيّ في اسبانيا).
– ما الذي يمكن أن يقدمه كتاب أول لكاتب مثل مونتيروسو للقارئ العربي؟
– سيكون من السهل على قارئ “الأعمال الكاملة (وقصص وأخرى) أن يعثر في بعض نصوص الكتاب على البذور الأولى لهذه النزعة التجريبية لدى مونتيروسو والتي جعلت منه واحداً من أبرز المجدّدين في الأدب المكتوب بالإسبانية بالإضافة إلى أن أوغستو مونتيروسو( 1921 – 2003 )، يُعد في نظر الكثير من أدباء أمريكا اللاتينية من أمثال غابرييل غارسيا ماركيز و ماريو بارغاس يوسّا وإدواردو غاليانو معلّماً ومجدّداً في أساليب السرد وتقنياته .
المترجمة
بعدَ تنزهٍ طويلٍ ومُتشعب في اللغتين الإسبانية والفرنسية وقراءات كثيرة وترجماتٍ لنصوص ومقالات ودراسات لأبرز الأدباء مثل أكتافيو باث، خوليو كورتاثار، وانطونيو تابوكي، وهيلين سيكسو، وماريو بارغاس يوسا, افتتحت المترجمة نهى أبو عرقوب وعن مشروع كلمة مسيرتها في ترجمة الكتب بكتاب لكاتبٍ أوروغوياني مجهولٍ لقرّاء العربية, معروفٍ في العالم هو كارلوس ليسكانو بعنوان “الكاتب والآخر” واختارت العمل في الظلّ وعلى نارٍ هادئةٍ, والآن تؤكد أبو عرقوب وباختيار فريدٍ ثانٍ مسيرتها في الترجمة كإحدى المترجمات اللواتي لا يستهان بهن, “الأعمال الكاملة وقصص أخرى مثل سابقهِ” الكاتب والآخر صدر عن مشروع كلمة التابع لهيئة أبو ظبي للتراث والثقافة.
إخراج سكاكين الانتباه من على الرفّ, الخروج باتجاه أبجدية أخرى, نصب الكمين, ولحظ تطابق مقاسات الفخ مع أبعاد جسم الطريدة, إن تم التطابق يبدأ عمل مختبر الترجمة من خلال إشغال الحواس الست للبدء بتقشير الأبجدية الأخرى ( الطريدة ) طبقةً طبقةً, للوصول إلى اللب, لب المعنى الكامن في كيمياء اللغة الأخرى, وبعدها تتم الترجمة بأناةٍ إلى ملكوت العربية.
قصة من الكتاب
الكسوف
حين شعر الأخ بارتولومي أرّاثولا أنه تائه، أيقن بأن لا شيء يمكن أن ينقذه. كانت غابة غواتيمالا العظيمة قد أطبقت عليه تماما وبلا رحمة. أمام جهله بالطبوغرافيا. جلس في هدوء ينتظر الموت. أراد أن يموت هنالك، في عزلته، بلا أمل، وفِكره مصوّب نحو اسبانيا البعيدة، وتحديدا نحو دير لوس أبروخوس حيث تفضل كارلوس الخامس ذات مرّة ونزل من عليائه ليقول له إنه يثق بامتلاكه حماسا دينيا في عمله كمبشر.
وما إن استيقظ حتى وجد نفسه محاطا بمجموعة من السكان الأصليين ذوي ملامح جامدة كانوا متأهبين لتقديمه قربانا أمام المذبح، ذلك المذبح الذي بدا لبارتولومي فراشا سيستريح فيه أخيرا من مخاوفه، ومصيره ونفسه.
كانت الأعوام الثلاثة التي أمضاها في البلاد قد منحته معرفة لا بأس بها باللغات المحلية. حاول قليلا، قال بعض كلمات تمّ فهمها.
وبفضل موهبته وثقافته العالمية ومعرفته العميقة بأرسطو التمعتْ في ذهنه فكرة: تذّكر أنّه في ذلك اليوم كان يُنتظر حدوث كسوف كامل للشمس. فعزم، في قرارة نفسه، أن يفيد من هذه المعرفة في خديعة مضطهديه وإنقاذ حياته.
-إذا قتلتموني -قال لهم- بوسعي أن أجعل الشمس تنطفئ في علاها.
حدّقوا به مليّا فلمح الريبة في عيونهم. ثم رآهم يعقدون اجتماعا مصغّرا. فأخذ ينتظر في ثقة لا تخلو من ازدراء.
بعد ساعتين، كان قلب الأخ بارتولومي أرّاثولا ينزف بقوة على حجر المذبح (الذي كان يلتمع بالضوء الخافت للشمس بعد كسوفها). فيما كان أحد السكان الأصليين يتلو بوتيرة واحدة وبلا عجل التواريخ اللانهائية لكسوف الشمس وخسوف القمر، التي كان علماء الفلك من شعب المايا قد تنبّئوا بها ودونوها في مخطوطاتهم دون الحاجة إلى مساعدة أرسطو الثمينة.
________
*قاص وباحث من الأردن (الدستور)