حكم الإخوان


* عباس بيضون

مهما كان الرقم فهذه سابقة تاريخية. الملايين خرجت إلى الشوارع والميادين وغطت في بادرة، لا مثيل لها، الأرض المصرية. أربعة عشر مليونا أو سبعة عشر بحسب تقديرات عالمية. هذا ما لا يمكن استيعابه ولا تقدير عواقبه. حذر الأزهر من حرب أهلية. لم يكن هذا هراء، ففي الشارع معسكران متضادان مهما كان التفاوت بينهما. لم يكن العنف، قياساً على الحشد كبيراً، لكنه حدث، سقط قتلى وأحرقت مراكز، انه إنذار فحسب، لكن السلاح موفور في الأيدي ولا نعلم متى تكون الشرارة الأولى. العنف على قاب قوسين، وإذا انفجر سيكون أعمى ولن نتكهن بنتائجه. وضع مفزع، وإذا ترك وحده كان تحضيراً لحرب. تدخل الجيش وأنذر الدولة 48 ساعة فحسب، لعلها خلالها تستجيب لمطالب الشعب، وإلا كانت له إجراءات وخطة للمستقبل.

منذ قامت ثورة يناير لم تهدأ الأمور في مصر. حمل كل يوم تقريباً حادثاً جديداً واشتباكاً جديدا، ولم يكن الاخوان المسلمون الذين وصلوا إلى الحكم في المستوى، لقد حكموا لكنهم من اللحظة الأولى بدأوا ببناء دولتهم. ما سمي أخونة الدولة لم يكن وهماً، تم زرع الآلاف من الاخوان في جسم الدولة وفي كل المراتب، الآلاف بل عشرات الآلاف، كان الاخوان متعجلين إلى الإمساك بكل تلابيب الدولة. استمروا في هذه العملية من دون اكتراث بما تورثه من حزازات وضغائن وردود فعل. كانت هذه عملية اغتصاب معلنة ووقحة وبارزة حتى صعبت ملاحقتها. من هنا كان الصدام مع الكيانات ذات الوجود المؤسسي وذات التراث الدولتي وعلى رأسها القضاء فالجيش. تصدى القضاء للاخوان في كل خطواتهم: الإعلان الدستوري، الاستفتاء، عزل النائب العام، مجلس الشورى. في كل هذه، كان القضاء يقف مع الدولة والقانون ضد التسلط. بدا أن خارطة طريق الاخوان شبه المعلنة هي الاستيلاء والاستبداد. خاضت المعارضة وخاض القضاء معارك ضد هذه المؤامرة التي تنفذ يومياً. طرحت مسألة الشرعية هكذا منذ البدء. كيف يمكن أن تفتئت الشرعية على القانون وعلى المؤسسات وتبقى شرعية. كيف يمكن أن يُعْمِلَ الرئيس هدما في الدولة ويبقى مع ذلك حامي الشرعية، منذ أن وصل الاخوان المسلمون إلى الحكم حتى بدأوا بإقامة دولتهم داخل الدولة، فبدوا أبعد ما يكون عن ممارسة الدولة كراعية للمجتمع ونقطة توازن وإدارة للصراع. لذا بدت سياستهم منذ البدء تحصناً في الدولة وتحويلًا لها إلى ملك خاص وتحطيمًا لكل مقاومة فيها واعتداءً على مؤسساتها. استفز هذا القضاءَ بيتَ القانون وحُكْمَ الشرعية. كان نزاعاً على القانون وعلى الشرعية التي تواجه فيها قيمان على القانون كما تواجهت فيها شرعيتان: شرعية تسعى إلى إقامة الشرعية وتأسيسها على القانون، وشرعية أخرى ليست أكثر من البناء على المنصب وإطلاق يده وتحويله إلى قوة بذاتها خارج القانون.
لم يدم حكم الاخوان أكثر من سنة. لم تكن على كل حال سنة عادية، بل تتابعت محتدمة صاخبة. هنا تواجهت أيضا شرعيتان. بدأ الكلام باكراً بعد انتفاضة يناير عن شرعية الثورة، يومها بدا هذا الكلام طناناً ومتفصحاً. لكن انتفاضة يناير التي لم تكن قد استنفدت زخمها، والتي بقيت في سيرورة دائمة طوال هذا الوقت، حققت حرية كاملة لكل أشكال الحراك الشعبي، التظاهر، الاعتصام، العصيان. لم يكن هذا منحة من الاخوان، لقد وجدوه أمامهم وحاولوا بقدر الامكان ان يخنقوه. أعادوا الشرطة إلى المواجهة، أعادوا عنف الشرطة التي نبذتها جماهير الانتفاضة وأخرجتها من الشوارع ولا زالت تلك الحزازة متأرثة فيها، وبالفعل أبلت الشرطة في خدمة الحكم وقتلت في بورسعيد وفي غير بورسعيد العشرات. كان في نية الاخوان ان يقمعوا الحراك الشعبي بقوة الأمن. لكن الزخم الشعبي المستمد من الانتفاضة كان عارماً ولم يكن لينضب او يكل او ينطفئ حسب حسابات الاخوان. بدا هذا الحراك ذا قدرة نووية على أن يستمر وعلى ان يتجدد. الاخوان مذ وصلوا إلى الحكم تصرفوا كفريق، كفئة وكجماعة. لقد تصرفوا كسلطة جشعة وكجماعة جشعة وكفئة جشعة. هذا الجشع لم يكن غير ملحوظ وأثار منذ البداية مشاعر سلبية في الشعب الذي رأى نفسه مهملاً ومتروكاً أمام الامتيازات التي بدأ الاخوان، من الفئات كافة، يتمتعون بها، ما زاد حساسية الجمهور تجاه هذه الامتيازات الضيق المعيشي وفقدان الحاجات الاولية، وكان يمكن لهذا الضيق أن لا يورث الضغينة لولا طمع الاخوان وامتيازاتهم.
من الواضح أن الاخوان لم يتريثوا. انها سنة انقضت في المشاكل وكان يمكن للجمهور أن يعتبرها اختباراً وكان يمكن له أن يسامحهم عليها. لكن الاخوان الخارجين من دهاليز الحياة السياسية والحياة التنظيمية، ومن غيابات تاريخ طويل، الاخوان الذين تقلبوا بين البنا وسيد قطب والاسلام الجهادي والذين تجذرت فيهم نظرية الجاهلية الجديدة ولم يكن الجمهور بالنسبة لهم الا غارقاً في هذه الجاهلية الجديدة، الاخوان الذين لم تكن الديموقراطية بالنسبة لهم الا وافداً غربياً، الاخوان لم يشاركوا الا من بعيد في الانتفاضة ولم يستوعبوا حقا الرافد الديموقراطي فيها. هم في الأرجح نظروا بعين ضيقة إلى هذا الرافد ورأوا، هم المتربون على الطاعة، انه عطوب عابر، وأنه لن يصمد حينما تبدأ الدولة في استعمال أدواتها، وحين تقوم على ما تقوم عليه الدول التي سبقت في مصر. لقد نظروا بعين ضيقة إلى الظرف وكلما كان الظرف يكذب نظرتهم كانوا يزيدون تشبثاً فيها، وإصراراً عليها. كان المهم بالنسبة لهم اظهار سطوتهم وقوتهم معتقدين ان الجمهور لا يزال يعبد القوة، ولا يزال يرهب قوة في تماسك قوتهم وفي فعاليتها. لم يكن الردع بعيداً عن تاريخ الاخوان، لقد مارسوا من قبل في الجامعات وفي النقابات ومارسوه في الأحياء والقرى والنجوع. ثم أن حليفهم الحالي «الجماعة الاسلامية» تربى على العنف وعلى استدرار الدم. ليس الاخوان تنظيماً ديموقراطياً، انه كمعظم التنظيمات الاسلامية يقوم على الإمارة والطاعة والذوبان في التنظيم وإظهار القوة وبث الرهبة في قلوب الآخرين، لذا لم يستطع تنظيم الاخوان ان يفهم الفحوى الديموقراطية للانتفاضة المصرية، لذا تعجل الاستيلاء والسيطرة وسعى إلى أن يرهب بقوته الجمهور، ما حرض الجمهور على أن يرد عليه بالمثل.
مصر مركز العالم العربي، وأظن أن الربيع العربي بين إلى أي حد تتشابك وتتفاعل بلدان هذا العالم، وإذا كان الربيع قد حمل التنظيمات الإسلامية إلى قمة معظم بلدان هذا الربيع، فإن تهاوي تجربة الاخوان في مصر لن تكون من غير تأثير على تونس والمغرب واليمن وسوريا وليبيا. إذا كان مد الربيع العربي قد حمل هذه التنظيمات إلى السلطة أو جعلها، في الأقل، قريبة منها، فإنها في كل بلد من البلدان ستواجه غالبا الإشكاليات ذاتها، أيا كان البلد، فإن نزعة الاستيلاء والاستبداد والسيطرة ستكون هي نفسها، وأياً كان البلد، فإن استعراض القوة ورهبة القوة سيكونان هما نفسيهما، مهما كان البلد، فإن الإمارة والطاعة والتربية شبه العسكرية والتراص التنظيمي ستبقى كما هي. يمكننا لذلك ان نعتبر التجربة المصرية نموذجية وان ننتظر ان يؤدي تداعي حكم الاخوان في مصر إلى تداعيه في بلدان أخرى. سيكون هذا التداعي حافزاً ودافعاً في أكثر من بلد للخروج على حكم الاخوان وسلطانهم، لربما بدأت هذه التجربة بالهبوط.
يظهر الجيش ليمنع الاشتباك الأهلي. انها لحظة مؤاتية، لم يعد في البال هتاف الشباب «فليسقط حكم العسكر». هناك خطر أن يفوز الجيش بالغنيمة، ان يسقط في يده تعب وجهود جيل. لكن الشبان لا يزالون في الشارع وسيحرسون الانتفاضة من كل طامع، لا يزالون في الشارع ولن يرهبهم أحد، لقد صرخوا في يوم «يسقط حكم العسكر» وقادرون على أن يصرخوها ثانية.
_________
*(السفير)

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *