امرأة غريبة الأطوار


* هدية حسين

رذاذ المطر المنعش يضرب وجهي وأنا أغذ السير إلى موقف الباص، أسلك يومياً وأنا في طريقي إلى العمل شارعاً مشجّراً تنعقد غصون أشجاره العملاقة من الأعلى فتشكل طوقاً على طول الطريق قبل أن ينعطف يميناً إلى الشارع العام، وغالباً ما أشاهد تلك المرأة غريبة الأطوار تسير إلى موقف الباص، وفي كل يوم تصعد باصاً يختلف رقمه عن اليوم السابق.

في أول يوم رأيتها فيه لفتت انتباهي، بملابسها الخارجة عن العصر، وبقبعتها التي لم يبقَ نوع من الأزهار إلا ووضعته على حوافها، أزهار صغيرة وكبيرة الحجم وبكل الألوان، وبحقيبتَي يدها الكبيرتين اللتين استقر على جميع جوانبهما حمّالات مفاتيح، وسلاسل فضية وذهبية، قطط وكلاب مصنوعة من قماش ناعم، دبابيس شعر ودبابيس ثياب، «قناني» عطر صغيرة الحجم من النوع الذي يُستخدم للدعاية، شرائط ملونة، وأشياء كثيرة يزداد عددها كلما رأيت المرأة، وأيضاً تزداد الأزهار على قبّعتها.
الناظر إلى المرأة من الخلف يمكن أن يقدّر عمرها في الثلاثين، بتناسق جسدها الرشيق وبملابسها الصارخة، لكن ما إن تواجهك حتى تصبح أمام وجهها المجعد وبشرتها الشاحبة، امرأة لا تشك أبداً عندما تقدّر عمرها بالسبعين.
كثيراً ما كانت تسبقني بخطواتها السريعة، وكنت أظن أنها تتحدث في «الموبايل» بطريقة وصْل السلك بين أذنها و «الموبايل»، لكن تأكد لي في ما بعد أنها تتحدث إلى شخص ما يسكن رأسها، وغالباً ما تعنّفه.. تطرده مرة من «جنّتها»، وتدعوه مرة كما لو أنها تتوسله.. هذا ما وجدت نفسي أصغي وأنا أقف تحت مظلة الباص في يوم يرسل فيه المطر دفقة من رذاذه وتقف هي إلى جانبي.
– اسمعني جيداً، لا تطرق بابي ولا تحمل إليّ باقات ورود، أنت لم تفهم لغة الورد، أنت رجل من حجر.. لا، الحجر ينبض بالحب وأنت لا تعرف الحب.. نعم، هذا صحيح، لقد أمطرتني بالقُبَل، وكل القُبَل التي اقترفتها قبلك لا طعم لها لأنكَ كنت رجُلي الوحيد.. طيّب سأسمح لك بالمجيء وسأفتح لك الباب.. أيّ نوع من الورود ستحمل لي؟ الكاردينيا؟ أعرف أنها غالية الثمن، لكنني مللتها، ما رأيك بالفل الأحمر، أو السوسن البنفسجي؟ انتظر لحظة…
أنزلت المرأة قبعتها وراحت تنظر إلى الورود، وكانت تتمتم كأنها تغنّي لحناً نسيت كلماته، ثم اعتمرت قبعتها وقالت للرجل الذي لا أراه وهي تحدق في المدى البعيد: أظن أن أزهار عباد الشمس تعجبني أكثر، لكنها قد تموت لأن الشمس غائبة منذ شهر ولا تجد ضوءاً ترنو إليه، لذلك يمكن أن نستبدل عباد الشمس بالزنابق.. اسمع، لقد جاء الباص وعليّ أن أذهب إلى العمل.. سنتحدث في ما بعد.
حملت حقيبتيها فخرخشت السلاسل والمفاتيح والمشابك.. ركضت وكادت تدفع رجلاً كأن الباص سيغادر ويتركها، وصعدت لتجلس في أحد المقاعد بالقرب من النافذة، وكانت ما تزال تتحدث لكنني لم أعد أسمعها. 
في يوم آخر كان بيني وبينها بضع خطوات، تمشي مسرعة كعادتها وتتحدث بصوت أعلى من كل مرة تحدثت فيها، تعلو ضحكاتها مع أن ما تتحدث فيه لا يستوجب الضحك: «هذا ما أخبرني به الطبيب، إنه أمر لا يصدَّق ولكن هذه هي الحقيقة، إن في صدري قلبان هههههههه، واحد على اليسار والثاني على اليمين ههههههه، الطبيب اتصل بوسائل الإعلام ونقل إليهم الخبر ثم دعاهم للمجيء.. لا تكن أحمق مثل بقية الرجال، الأمر لا ينفع معي ولذلك فقد هربت، نعم هربت، بينما كان الطبيب يتحدث إلى وسائل الإعلام فرحاً باكتشافه أطلقتُ قدميّ للريح.. ماذا تظن أن أفعل أكثر من ذلك؟ إنه يريد أن يصل إلى الشهرة عن طريقي وأنا لن أمكّنه من ذلك.. حسناً، ما تقوله صحيح، للمرة الأولى تقول شيئاً مقنعاً، سأتصل بالطبيب وأفاوضه حول مبلغ من المال، كم باعتقادك أطلب؟ لا، لا.. هذا قليل.. اسمع، لقد غيرت مكان سكني لكي لا يصلوا إليّ، أنت تعرف ماذا يعني اكتشاف قلبين في صدر امرأة… قلبان.. ههههههههه».
لم يكن بمستطاعي رؤية تلك المرأة يومياً، رغم أنني أحرص على الوقت الذي تخرج فيه من أحد الشوارع الفرعية، وقد أصبحتْ شاغلي منذ رأيتها، أستمتع بما تقول مهما كان غريباً أو غير مقنع، أستمتع أيضاً برؤية قبّعتها التي تزدحم بالورود، لا أدري ماذا ستصنع إن لم يبقَ مكان لوردة تثبتها على نسيج القبعة، أو ما ستكون عليه الحقيبتان إن لم تجد مساحةً لمفتاح أو مشبك شعر أو دمية..
مرّت أربعة أيام لم أرها، هل صحيح أنها غيّرت سكنها؟ ما إن طرحت السؤال على نفسي وأنا أغذ السير باتجاه الباص حتى رأيتها تخرج من الشارع الفرعي، بالقدر نفسه من الرشاقة والنشاط، تحمل حقيبتيها بيد واحدة وتشوّح بالثانية، شعرتُ بارتياح وأنا أراها، وصرنا قريبتين في المسافة، كانت تتكلم بعصبية:
– اسمع، أنا لا أخدع نفسي وأشتري وردة المحارب، لماذا أدفع للقتلة؟ نعم هذا رأيي، كل محارب قاتل، قل لي لماذا يعتدون على الورود بهذه الطريقة ويختارون ورود شقائق النعمان الحمراء لترمز للقاتل؟ لا تقل «شهيداً»، كل طرف يحارب يدعي الشهادة لقتلاه، هذا خداع.. قل لهم لن أشتري تلك الوردة التي يصنعونها من القماش الناشف، وإياك أن تحمل لي ورود شقائق النعمان بعد الآن لكي لا أتذكّر القتلة. أرأيت كيف حولوا الزهرة البريئة إلى رمز للقتل؟ لماذا لا يجعلون من الرصاصة رمزاً؟ يثبتون خلف الرصاصة دبوساً فتعلَّق بالصدر، هذا أفضل لهم.. نعم أنا معك، فالجنود مغلوبون على أمرهم وفرق الإعدام تتعقبهم إن لم يقاتلوا، أنا أشفق عليهم لكن القتْل قتْل، لماذا لا يحولون الجنود إلى مزارعين وبذلك يقضون على المجاعة في العالم؟
لم يكن ثمة خلل في كلام المرأة، جملها واضحة المعنى ومرتبة لا تناسب فوضى ملابسها وما تحمله، لا تكلم أحداً من المارة ولا تلتفت إلى أحد، وكم راودتني الرغبة في أن أكلمها لأعرف وقع كلامي عليها، إلا أنها تسد الطريق دوني للوصول إلى عالمها بتواصلها مع الرجل المفترَض الذي تكلمه أو بصمتها العميق المشحون بالتأمل. 
لكن ما حدث بعد ذلك اليوم قرب موقف الباص كان أمراً مختلفاً، فقد جاء رجل أعمى يقوده كلب من تلك الكلاب المدربة على قيادة العميان، وقف الكلب على الرصيف ينظر إلى الإشارة الضوئية لكي تُفتح، فوقف صاحبه، وإذا بالمرأة تنهض من مكانها وتتقدم باتجاه الرجل لتقول له: «اسمع يا سيد..». رفع الأعمى رأسه وأماله باتجاه مصدر الصوت فأضافت: «لو كان هذا الكلب هو الأعمى أكنتَ ستقوده؟». لم ينطق الرجل بكلمة، ولم تنتظر المرأة منه أن يجيب، وفي الأثناء وصل الباص فصعدتْ، ووجدتُ في نفسي الرغبة أن أصعد رغم أن هذا الباص لا يمر بموقع عملي، رغبة لم أعد أقاومها، أريد أن أعرف إلى أين تمضي هذه المرأة وأيّ نوع من العمل تمارس.
لحقتُ بها وكانت واقفة تمسك بأحد قضبان الباص رغم خلو العديد من المقاعد، أخذتُ مكاني بالقرب منها، وفوجئتُ بها تنزل بعد منطقة واحدة حين توقف الباص، مسافة كان يمكن أن تمشيها، فنزلتُ أنا الأخرى، وكم كانت دهشتي كبيرة عندما رأيتُها تعود أدراجها في الطريق الذي جاءت منه!
كنت أعتقد أنها نسيت شيئاً فعادت لتأخذه، لكن الأمر ليس كذلك، فقد تبعتُها في اليوم التالي والذي يليه أيضاً، وحدث الشيء نفسه.
________
* روائية وقاصة من العراق(الرأي) 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *