*إبراهيم صموئيل
يتزايد عدد الذين «يكفرون» بساعة حلول الربيع العربي! يوماً بعد يوم ينضاف شخصٌ إلى شخصٍ آخر. لكل منهم طريقة قراءته لما يجري اليوم. لكل منهم حيثيات موقفه التي يقدّمها ويشرحها بإسهاب، ووفق منطق يرى أن محصّلته «الكفر» بما حدث، منذ أحرق البوعزيزي نفسَه في تونس إلى اليوم!
حتى «العاقل الراشد» صاحب الرؤية البعيدة والعميقة للربيع العربي سيجد المستمع إلى كلامه، في الفترة الأخيرة مما يجري، بعضَ ظلال الخيبة، وشيئاً من التحفّظ، وملامح من قلق مضمر بالقياس إلى منطقه ورؤيته ونبرته قبل عام أو نحو ذلك. اعرف شخصاً كان راسخاً في رأيه، راسياً في اطمئنانه مثل زورق فوق رمل الشاطئ: لا تقلقل، ولا رجرجة في رؤيته وحديثه، وإنما كان يمضي في قراءة الأحداث والتعبير عن رأيه بهدوء وثبات معاً. في الأشهر القليلة الماضية راحت فترات الصمت تتزايد في كلامه، كما أن الموافقة الممزوجة بالتحفّظ: «صحيح، ولكن…» شرعت تتبدى وتظهر جلياً، إضافة إلى حركات جسده التي صارت توحي دائماً بدلالة مفادها أن من الممكن أن يكون ذلك كذلك!
من جهتي، لستُ خارج هؤلاء الوافدين الجدد إلى أرض الريبة والمحاذرة والتشكك والقلق، إذ كثيراً ما ركبتِ «العفاريت» رأسي مع كل خبر عاجلٍ أو نقل مباشر من هذا البلد أو ذاك من بلدان الربيع العربي! تركب «العفاريت» رأسي وتوسوس لي بما هبَّ ودبَّ لتخلص إلى تساؤل بات منتشراً كما يبدو: «ألأجل هذا جاء الربيع العربي؟!» فأحار كما يحار غيري، ويُسقط في يدي!
لست حكيماً لأرى أبعد من قلقي الراهن، غير أنني لم أستقر، بعد، على جوابٍ بعينه: هل المشكلات والأزمات القوية الناشئة اليوم هي انحراف في مسار الثورات، وزوغان عن أهدافها، وتورط لشعوبنا في القيام بها… أم هي طبائع الحياة والأشياء حين يتعلق الأمر بالمتغيرات الكبرى، إذ ما من جديد يلي القديم مباشرة، ويحلّ محله فوراً، لأن ثمة مسافة إجبارية، تطول أو تقصر، بين زوال القديم واستقرار الجديد. مسافة فيها من الاختلاط والامتزاج والتنافر والاستعصاء والتقلقل والضبابية والالتباس، وهو بالضبط ما نشهده اليوم في بلدان الربيع العربي؟
ما يجري يوّلد الشعور بالخيبة، ويدفع بالمزيد ممن كانوا راسخين في الرأي والمشاعر إلى إعادة النظر وتغيير الاستنتاجات السابقة، والذهاب إلى الخيبة واليأس أو ما يشابه ذلك. ليس البديل القول: تفاءلوا بالخير تجدوه، فهذه عِظة في حين ما يجري مرعب بحق، ومقلق بحق، وغير مفهوم بحق أيضاً. ليرَ كلٌ منا ما يريد أو ما يرغب أن يراه. لا ينفع مع الشخص الشاعر بالقلق أن نقول له: لا تقلق! لابدّ أن يرى ويلمس ما يُطمئنه ليطمئن، والحال أن كل ما يجري يبعث على القلق!
أمر واحد لا خلاف فيه، وهو أن ثورات الربيع العربي لم تقررها الأحزاب والقوى السياسية، ولم يقم بها الأعضاء المنضوون في تلك الأحزاب والقوى. الشعوب، عموم الناس، المكتوون بنار الأنظمة السابقة، وغير القادرين على الصبر والتحمّل مزيداً هم من نهضوا وثاروا، وهم من قدّموا وضحّوا، وهم- أيضاً- من يعاودون النهوض والثورة والتضحية من جديد كمصر الآن. هل كان ثمة من يظن أو يتخيل أثناء الثورة الأولى في مصر أن هذا الشعب – وبعد انتصاره وتنحي رئيس النظام ـ سيعود، أكثر عدداً وهمّة وحمية، للقيام بثورة جديدة، وفي مدن وقرى وساحات أكثر من المرة الأولى، وكأن شيئاً لم يحدث من قبل؟!
غيرُ مُجدٍ في ملتي واعتقادي- على حدِّ قول شاعرنا المعري- التباكي، أو التقلقل أو التشاؤم، أو اليأس، مما جرى ويجري بل وسيجري مستقبلاً، ذلك أن المجريات رهن بإرادة وعزيمة وفعل من هم خارج التقلقل والتردد والمحاذرة والتخوّف. الفاعلون على الأرض، المتظاهرون، المنخرطون في المواجهة، الداخلون في لجّة الصراع… هم من يقررون المسار، وخطوط الطول والعرض، واتجاه الرسم البياني، والأهداف، والنتائج، سواء أكانت مقلقة للبعض أم باعثة على الاطمئنان، إذ ما يحدث هو أشبه ما يكون بالزلازل، تقرر قيامها ومسارها بنفسها!
_______
* روائي من سورية(الراي)