حسن بن عثمان
( ثقافات )
إذا أسعفتني الذاكرة فإن الأديب المصري توفيق الحكيم قد صرّح بأنه يتمنّى أن يقرأ رواية يؤلفها كاتب أزهري متديّن يغوص من خلالها في أجواء وذهنيات وممارسات الأزهريين، والحكيم خير من يعلم أن الرواية هي من أكثر الفنون السردية التي يمكنها أن تتعرّف، وأن تعرّف، بأخص خصائص البيئات والمجتمعات والعقليات، وفضولها كبير في ذلك، لكن لا يقدر على كتابتها من تشرنق في ذاته بصورة لا تسمح له بالخروج عن معتقداته وأحكامه عن نفسه وعن الآخرين، ليترجّل عن معتقداته ويلاقي الآخرين ليتعرّف عليهم ويكتبهم كما هم، لا كما استقرّوا في ذهنه.
إن الرواية قبل أن تكون صياغة سردية ومعمارا حكائيا وحبكة ورسم شخوص وتقنيات أحداث وإجراء حوارات وابتداع مسارات، هي روح متحرّرة غير مكبّلة بالأحكام المسبقة، ولا تخضع لشيء من خارجها سوى لمقتضيات فنّها الذي يكشف لها في مساره عن ما لم يكن يخطر على بالها وهي تباشر كتابة الرواية، ذلك فضلا على أن مجتمع الرواية ومواطنيها اللغويين هما من الشفافية والرهافة بحيث لا يسمحان بأن يتسلّط عليهما كاتب من الكتّاب دون أن يفضحا تسلّطه ويشهّرا بغلظته وجبروته وطغيانه وإقحام نفسه ومعتقداته في حياة شخوصه ونسق أحداثها وبيئاتها الروحية والذهنية والمجتمعية، لكي يُفشلا عمله ويسخرا من نواياه المبيتة وتربصه الفجّ بالأحداث والوقائع والملامح والاندفاعات.
فمن يتعسّف على الرواية، وعلى الفنّ عموما، فإن الفنّ يعرف كيف يحبط عمله ويقوّض مسعاه.
تلك بعض مواصفات الرواية حين تكون مبدعة وإنسانية. فهل يقدر من يكون مشحونا بعقيدته أو أيديولوجيته، وينطلق في النظر إلى الدنيا من حوله من زاوية تأسره، سواء أكان أزهريا أو غير أزهري، أن يكتب الرواية، دون أن يتحرر من ذاته لكي يلتقي بغيره وتكون الحرية طريقه ووسيلته ومركوبه والمعنى الذي يطلبه لذاته وللآخرين، تلبية لنداء الحياة والجمال؟
كان الحكيم يعلم أنه لن يظفر بقراءة رواية يكتبها أزهري، وإنما عبّر عن أمنيته المستحيلة في زمنه وفيما بعده من زمن، لكي يسجّل الاستحالة أكثر منه لكي يعبّر عن أمنية أو رغبة.
يذكرّني هذا السياق برابطة الأدب الإسلامي العالمية التي تأسست منذ الثمانينات في الهند، ولها فروع في العديد من البلدان الإسلامية وغير الإسلامية، ولها أدبيات ومنشورات ومجلات، ويرأسها حاليا السوري عبد القدوس أبو صالح، ومن مبادئها أن “الأدب الإسلامي هو التعبير الفني الهادف عن الإنسان والحياة والكون وفق التصوّر الإسلامي”، ويقول هذا السيد بأن شيخه الناقد المصري الأصولي المعروف محمود محمد شاكر صبّ جام غضبه على هذه الدعوة، وعلى من دعا ويدعو إليها، مؤكدا بأن شيخه أطال في هجومه العنيف، وكان كلما أمعن في الكلام عن رابطة الأدب الإسلامي ازداد غضبه وانفعاله، وحين سأله أحدهم ذات مرة عن أبي نواس أهو شاعر إسلامي، فقال للسائل: “نعم، هو شاعر إسلامي رغم أنفك”. وذلك ما يحسب لشيخ رائع من شيوخ الكتابة الأدبية النقدية، وقد كان متعمقا في ذلك تعمّقا أفحم الكثير من الحداثيين في عصره، وكانوا يقرؤون له ألف حساب لمعارفه الواسعة بالتراث، وبراعة إبراز ما فيه من إبداع.
من الواضح أن الدعوة لأدب إسلامي بمواصفات بعض الجهات الأيديولوجية المنخرطة في تيارات سياسية ترفع شعار الإسلام، هي من أجل إفقار الإسلام والتخلص من إبداعات أبنائه والمنتسبين إليه في الماضي وفي الحاضر، وهي دعوة تباين وتكفير وإعدام لأرقى ما أنجب الإسلام طيلة تاريخه المديد وفي العديد من البلدان واللغات، خصوصا في لغته العربية… هي دعوة لإلغاء إبداع نجيب محفوظ والحكيم والمسعدي والطيب صالح وكافة الكوكبة الرائدة من الروائيين والمبدعين الذين أبدعوا في مجتمعاتهم المسلمة في أجواء مسلمة حاوروها وأكدوا منها ما أكّدوا وخرجوا على ما خرجوا، دون أن يتبرأ أي واحد منهم من الإسلام، أو يتنكّر له، كانتماء ديني وحضاري وثقافي ومجتمعي، ومنهم من كان من غير الملتزمين بتعاليم الإسلام في حياته الخاصة.
لا قصيدة ولا شاعر ولا رواية ولا روائي ولا لوحة ولا رسام ولا فيلم ولا سينمائي، ولا أي شيء من الإبداع، معترف به من قبل أهل الإبداع ومن غيرهم، لهؤلاء المتغطرسين من الدعاة الدينيين الذين يعملون على حرمان الإسلام من مسلميه وإبداعهم المشهود له، ليحتكروه ويقتلوه بفجاجتهم ودعواتهم إلى الفتنة، الفتنة بمعنى تقسيم المجتمعات والكتابات وتحريض البعض على البعض، وليست الفتنة بمعناها الإبداعي، الروائي وغير الروائي، والتي تفتن الذات عن ذاتها، لتحييها مزيدا من الحياة. وإنما تلك الأخرى فتنة قتل وموت، لا فتنة إبداع وحياة.
– روائي وإعلامي من تونس