وجهي


*علي الحديثي

(ثقافات) 

أكثر من ثلاثين عاماً وأنا أبحث عن وجهي في صفحات المرايا المتناثرة على جدران الزمن.. في كل مرة يلوح لي ظلّ طفل شبيه بوجهي، فأعرض عنه بلا أبالية، موهماً نفسي بأن الأمس قد طمرته رمال الماضي، فلا حاجة لي به.. أنتقل إلى مرآة أخرى.. وأخرى.. الشيء نفسه يتكرر، حتى قررت يوماً أن أقف أمامه..
اقتربت منه وهو ساكن.. تحركت من مكاني.. قفزت.. وهو ساكن.. قمت ببعض الحركات المعتوهة.. وهو كما هو.. إلاّ أنني ابتسمت عندما ابتسم.. صرخت عندما صرخ.. أخذ هو يقترب مني، بينما تشبثت أنا بالكرسي هلعاً منه، كلما اقترب مني أكثر بانت ملامحه البشعة أكثر..حتى كاد وجهانا يتلاصقان:
– لن تنجو مني.. أنا وأنت كالعصفور المربوط بخيط.. مهما ابتعدت فخيطك بيدي.. مهما حلّقت عالياً فوق غيوم أوهامك.. مهما حاولت أن تختفي خلف تفاهات أحلامك البالية..سأصل إليك متى قررت..وإذا شئت فسأسحب الخيط لتأتيني مذعناً…
بدأت ضحكاته تتصاعد وهو يراني أحاول الإختفاء خلف الكرسي.. وراء المكتبة.. بين الستائر..
– حسناً .. لنلعب هذه اللعبة..
خرجت حروف كلماته متقطعة بين قهقهاته وهو يشير إليَّ بيده كأنه يأمرني بها أن أقف..
– لنلعب هذه اللعبة.. سأغمض عيني (يغمض عينيه).. وٍأعطيك ظهري أيضاً إذا أحببت (يستدير).. ثم اختفِ في أي مكان تحب، فسترى كيف أصل إليك بلمح البصر..
التفتّ إليه يائساً مستسلماً..
– ماذا تريد مني؟
– بل أنت ماذا تريد مني (قال ذلك بطريقة كأنه يعلم مسبقاً بسؤالي).. ألم تقل إنك منذ أكثر من ثلاثين عاماً تبحث عن وجهك؟
– نعم.
– أنا وجهك..
حدقت به بعدما تسمرت في الأرض.. ثم سرت إليه بوجل، أخذت أستدير حوله، وعيناي معلقتان بوجهه..
– إنه ليس وجهي ( قلت ذلك وأنا أشير إلى وجهه)..
– نعم .. إنه ليس وجهك (قال ذلك وهو يشير الى وجهي).. بل قناع سرعان ما ستنسلخ عنه كالأفعى، لتلبس قناعاً آخر..
كان يتحدث وأنا أتلمس وجهي الذي أحمله بأناملي أمام المرآة.. بينما استمر هو في كلامه..
– أنا وجهك الذي يحرك كل الأقنعة التي ارتديتها وسترتديها.. هل تحب أن ترى؟
أجبت صامتاً “نعم”.. فأخذني إلى غرفة شديدة العتمة، وقد علقت فيها كل الأقنعة.. عذراً.. كل الوجوه التي حملتها، منذ أن خلعت وجهي الحقيقي – كما يزعم – بعدما سقطت سبعة أوراق من شجرتي..
بدأنا نتنقل من قناع لآخر، وفي كل قناع كان يريني نظرات مشتركة بينها.. فاعتراني ذهول كدت أغمى منه ..
– ما هذه النظرات المشتركة؟
– هذه أنا .. وجهك الحقيقي الذي تحاول الفرار منه، ولكنك لم تستطع أن تنجو من نظراته..
فأشار بأصبعه إلى القناع الأول:
هل ترى المشكلة التي بين أخيك الأكبر وصديقه.. بماذا تختلف عن مشكلتك أنت مع صديقك عندما كنت في الصف الرابع الإبتدائي التي تراها في القناع الثاني؟
وهل تعتقدأن الفعل الذي اقترفته أنت مع بيت الجيران جاء عبثاً في القناع الرابع.. أم هو امتداد للقناع الثالث الذي اقترفه اخوك ..
وهكذا.. اخذ يخيط النظرات المتناثرة بين الأقنعة لتنجلي عن لوحة كاملة من المواقف ..
– وهذا الذي أحمله؟. (قلت ذلك وانا أمسك بوجهي) ..
– من تلك الأقنعة..
لم تزل كفاي تعبثان بوجهي، كأنهما يريدان خلعه.. فأخذت أصرخ ..أصرخ .. حتى كدت أسقط أرضاً، بينما هو يتجول في الغرفة يرتب بعض أثاثها، من دون أن يبالي بي، وابتسامة ماكرة تعلوه.. فقال لي بهدوء:
– رفقاً بنفسك.. فلن تستطيع خلعه.. لأنك لا تملكه
– انه وجهي .. افعل به ما أشاء..
– ربما بإمكانك أن تفعل به ما تشاء.. ولكنك لاتملك أن تخلعه.. فخيوطه بيدي..
– أرجوك اخلعه.. أتوسل إليك .. فقد أتعبني هذا الوجه .. عذراً.. هذا القناع .. (فصرخت به).. أنا لا تهمني بشاعتك، سأخرج إلى الناس بها، وأقف في أعلى مكان (يصعد فوق أحد الكراسي) وأنادي: هذا وجهي الحقيقي.. هذا أنا.. هذا أنا.. تعال .. تعال معي ( أخذته من يده الى الأقنعة ).. أنظر الى النظرات المشتركة..
التفت إلي مستغرباً .. فتداركت الأمر..
– إنها غير نظراتك المشتركة تلك..
أتذكر فلانة التي أحببتها.. لم أخف عليها أني متزوج.. وانني أحب زوجتي.. أتعرف لماذا ؟..لأنني أكره أن أخرج للناس بغير وجهي..
أتذكر ذاك الذي أثنى عليَّ أمام الآخرين فأخبرته أنه مخدوع بي .. أتذكر .. أتذكر .. أرجوك اخلع هذا الوجه أو القناع أو سمه ما شئت .. لا أريد أن أعيش بين الناس وهم مخدوعون بي ..
أطرق برأسه، وفجأة علته ضحكة عالية، وهو يستدير بكرسيه الدوار .. ويردد:
– الناس .. الناس … أي ناس تعني؟
نهض من كرسيه، وقادني إلى نافذة مفتوحة..
– انظر ..
فتحت عيني على مصراعيها وأنا أرى مئات .. أو آلاف الأقنعة المعلقة .. والمرمية .. والممزقة .. و .. و ..
– كلهم مثلك.. كلهم مثلك ..
بدأ يردد هذه الكلمة وهو يقترب بوجهه من وجهي.. حتى تلاصقا.. كلهم مثلك.. كلهم مثلك.. ظل يقترب.. حتى اخترق وجهه وجهي.. كلهم مثلك ..كلهم مثلك

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *