*بوعلام رمضاني-باريس
يعود المخرج التونسي المخضرم نوري بوزيد إلى مقارباته لموضوع المرأة والحرية في فيلمه “ما نموتش” أو “ميلفاي” -العنوان الفرنسي الذي يعني نوعا من المرطبات الشهيرة- ليصور الصراعات والتناقضات العائلية والمجتمعية العميقة في مرحلة ما بعد ثورة 14 يناير وينحاز إلى مقولة الحرية.
الفيلم، الذي يعرض حاليا بقاعات باريس يحاول أن يمرر رسالة مؤداها أن هناك مرحلة ثانية من ثورة لم تحسم أمر الحريات الفردية، ولم تحقق التسامح والتعايش بين كل أطياف المجتمع، خاصة في البيوت الحافلة بذهنيات مواطنين ذاقوا طعم القهر في سجون “بن علي”، قبل أن تخرجهم ثورة لم تصل إلى غاياتها الأخيرة وتنصل بعضهم لمطالبها الرئيسية.
ومن منطلق تناقض المسجون السابق الذي تحول إلى سجّان يطارد خطيبته المتحجبة والمعتدلة دينيا، ليفرض عليها مواقفه راح بوزيد يدعو إلى ما سمّاها بالثورة الداخلية، من خلال صراع عدة أطراف عائلية، تضح بتناقضات ومفارقات تؤكد أن طريق الخلاص ما زال بعيد المنال نتيجة عدم تحرر كل أفراد المجتمع من عقلية الإقصاء والإلغاء والتطرف.
ويعد فيلم بوزيد امتدادا طبيعيا لمساره الإبداعي الذي جعل من المرأة محور نزعته الفكرية، ولتكون عدسته شاهدا حقيقيا على صيرورة تحولات مجتمعه وتناقضاته منذ الثمانينيات بأفلام مثل “ريح السد” و”صفائح من ذهب” -الذي عرض في مهرجان كان- و”بزناس” و”بنت فاميليا” و”آخر فيلم” وغيرها.
المرأة مستقبل الثورة
تجاوز بوزيد مقولة آراغون “المرأة مستقبل الرجل”، بتحويلها إلى “المرأة مستقبل الثورة”، باعتبارها المقولة التي تفسر خلفية مقاربته السوسيولوجية والفكرية والفنية في مجمل أعماله السينمائية خاصة فيلمه “مانموتش”.
وفي السياق الدرامي للفيلم لا يمكن لأم الثورات العربية أن تحقق هدفها الأسمى دون “إعادة تربية الرجال” الذين أهدوا سجونا جديدة للمرأة بعد خروجهم منها بفضل الثورة، على حد تعبير عائشة -الممثلة سهير بن عمارة- المتحجبة التي عانت من مواقف خطيبها “المتشدد دينيا”.
البطلة الثانية زينب -الممثلة نور مزيو- المرأة السافرة التي رفضت ارتداء الحجاب بطلب من خطيبها المقاول العصري الذي يريد إرضاء أمه رغم انفتاحه وإيمانه الشخصي بالحريات الخاصة.
وزاد بوزيد من رسمه للشخصيات المتناقضة والمزدوجة بإضافته صاحب صالون الشاي الذي تعمل فيه الصديقتان زينب وعائشة، حين راح يخير الثانية بين خلع الحجاب والاستمرار في العمل من أجل تلبية طلبات الزبائن المختلطين، وبذلك يكون بوزيد قد جمع كل توابل تناقضات رجال ما بعد الثورة وضغطهن على المرأة بأنواع قهر متضاربة لكن متكاملة من منطلق مصادرة حرية نصف المجتمع.
وحتى يبعد تهمة معاداة الإسلام صور بوزيد كفاح بطلتين رفضت إحداهما خلع الحجاب والأخرى ارتداءه، مجسدا إيمانه بالحريات الخاصة، بغض النظر عن طبيعتها وبعدم تناقض الحديث عن الإسلام والحرية في الوقت نفسه.
فنيا، جاء سيناريو بوزيد عميقا ويغوص في لحظة تحول المجتمع من الديكتاتورية إلى لحظة الحرية الموهومة بإخراج مزج بين الواقعية غير الفجة والرمزية الشفافة والتمثيل المسرحي الشامل الذي كشف عن ملامح وقسمات وجه وعن أدق تفاصيل التعبير عن صراع ممثلتين موهوبتين.
ورغم أن فيلم بوزيد هو أول فيلم روائي طويل ينجز بعد الثورة التونسية، لم تكن الثورة في حد ذاتها حاضرة كموضوع، هي تلك الهواجس والتساؤلات نفسها التي طرحها المخرج التونسي عن الحرية المنشودة، لكن بحرية ما بعد الثورة.
_________
*(الجزيرة)