القراءة أولا


* فاضل السلطاني

كان بورخيس يتحسر كلما زار مكتبة لأنه لا يستطيع شراء كتب تهمه فيها لسبب بسيط: أنها موجودة في مكتبته. ومن يقرأ كتب بورخيس، وسيرة حياته، والمقابلات معه، لا بد أن يخرج باستنتاج أن عاشق الكتب هذا، صاحب «مكتبة بابل»، لم يبق كتابا مهما قديما أو جديدا لم يقرأه، من التراث الإغريقي، والإسلامي، وصولا للأدب العالمي الحديث. القراءة عند بورخيس، التي لها «استراتيجيتها الخاصة»، إذا استعرنا تعبير ايتالو كالفينو، العاشق الكبير الآخر للقراءة، تتقدم على الكتابة. ونحسب أنها كذلك عند الكتاب الكبار فعلا.

في مقال طويل له نشر في «الغارديان» البريطانية، يخطط إيان مكوان لتمضية العشرين السنة المتبقية له في هذه الحياة حسب تقديره – هو الآن في الرابعة والستين – في القراءة. إنه يتحدث بحسرة، وبالأسماء، عن كتاب كثيرين لم يقرأ لهم، ويسهب في شرح خطته البعيدة المدى – أم قصيرة المدى؟ – وبعد إنجازها، كما يقول، سيموت مرتاحا. لم يتحدث مكوان قط عن كتب سيكتبها. الكتب تأتي لاحقا، أثناء القراءة وبعدها، وليس قبلها.. وبالطبع، لا ننسى هنا العاشق الكبير الآخر للقراءة الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل، الذي خصص أكثر من كتاب متحدثا بعمق وعشق كبير عن الكتب التي قرأها، والتي سيقرأها، ومنها كتابه الساحر «يوميات القراءة» (ترجمة عباس المفرجي، «دار المدى»، 2008). كان لمانغويل أيضا إستراتيجيته الخاصة. في «يوميات القراءة» يعود لكتب قرأها منذ زمن بعيد لكتاب مثل: كبلنغ، شاتوبريان، غوته، سرفانتس، كونان دويل، دينو بوتزاتي، ساي شانغون، كينيث غراهام، إتش.جي. ويلز، وعشرات غيرهم، لكي «يلاحظ كيف تبدو العوالم المتراكمة والمعقدة من الماضي انعكاسا للفوضى السوداوية التي يحياها عالمنا الحاضر». كتاب قديم واحد كل شهر. وقائمة متنوعة معدة سلفا «من أجل التوازن»، هذا بالإضافة إلى «كتب أخرى مكومة بجانب سريري تقرأ نفسها لي بصوت عال أثناء نومي».
لم يسجل لنا تاريخ الأدب كتابا كبارا لم يدمنوا القراءة، أو فلنقل الشغف الكبير بالمعرفة – والاستثناءات دائما جائزة، كما في حالة شكسبير، مثلا، المعروف بثقافته المتواضعة، كما يسجل معظم نقاده – التي هي بالتأكيد السبب الحقيقي وراء عظمتهم وشموليتهم. فالتجارب الحسية، مهما كانت، لا تكفي وحدها لخلق أدب كبير من دون معرفة إنسانية عميقة ترتفع بالتجربة إلى مستوى العام والشامل، وتشق غلافي المكان والزمان. وهذه المعرفة لا يمكن أن تتحقق من دون القراءة، التي هي ليست مجرد «فعل مريح، منعزل، هادئ وحسي»، كما يذهب مانغويل، وإنما عمل حقيقي كغيره من الأعمال الإبداعية، إن لم يفقها فهي تستند إليه، وإن بشكل غير منظور، بشكل من الأشكال.
ولعل ما يفسر دوران الكتاب على أنفسهم، وبخاصة قسم كبير من كتابنا العرب، هو توقفهم عن القراءة منذ أمد طويل. وما نشهده حاليا من استسهال مخيف في الكتابة بمختلف أشكالها عائد أيضا إلى أننا لم نعد نقرأ بشكل كاف، وإننا نكتب أكثر مما نقرأ، بينما يجب أن يكون الأمر معكوسا تماما. ولو فعلنا ذلك، لاحتفظنا بالكثير من كتاباتنا في أدراجنا بانتظار بلوغ سن النضوج، الذي لا يمكن أن يبلغه المرء من دون أن تتعب عيناه من القراءة في كتاب المعرفة الكبير.
____
*شاعر من العراق يقيم في لندن (الشرق الأوسط)

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *