* عواد ناصر
حورية الفرات التي كانت تجوب سماء العالم مثل شبح من ريش وألغاز هبطت على سياج حديقتي ذات غروب ضبابي، على غير يمامات لندن المقدسة التي لا تخشى الناس، بينما كانت حورية الفرات على توجس جعل بعض ريشاتها تنفرد ومنقارها الوردي يلهج بتمتمات آشورية لم أتبينها حتى استعنت بصديقة آشورية محترقة بالماضي وتحب توترات السرد الشفهي فلم تسعفني كثيراً، لأن الآشوري، رغم أصله الآشوري، لا يعرف الآشوريين مثلما العراقي الأهواري يضحك منك عندما تخبره بأنه سومري!
– هل أنت سميراميس أم سمورامات؟
– لقد حرّفوني يا سيدي.
– … والمجد؟
– أي مجد؟
– هذا الذي أنت فيه: من بيضة دفعتها السيول إلى ملكة ما بين النهرين؟
– ما حصل هو مشيئة وليس إرادة.. رعاة نينوى هم من ورطوني في صورتي.. لم أكن سوى بيضة حملتها السيول لأجد نفسي ملكة تخوض الحروب، بما فيها حروب الحب، كان ثمة السوق الكبير بنينوى.. وضعوني هناك على دكة تاجر ذكي ليبيعوني إذ كنت بضاعة مرغوبة على أنني أجمل صبية في السوق، كما قالوا، لأقع بين يدي “سيما” سائس خيول الملك ليتبناني وهو المحروم من الذرية.
قلت لسميراميس: حسناً، يا ابنتي، سأتبناك، من دون حاجتي لابنة لأن عندي ابنة جميلة ستصحبك غداً صباحاً في جولة بمدينتنا الحديثة وسيدهشك ما ترين من أسواق ومطاعم ومراقص ومكتبات وسينمات ومواصلات….
قاطعتني معترضة:
– على مهلك، فأنا لا أفهم من هذه المفردات الغريبة عدا كلمة “الأسواق”.
– لا عليك، يا صغيرتي، ستتعلمين غداً أشياء كثيرة وستعرفين ما حل بك وبنا بعد زمان طويل.
سألتني سميراميس بطفولة الضيف الحائر:
– ولماذا أنتم في هذه المدينة التي اسمها…
– لندن.
– ستعرفين فيما بعد، إنها حكاية طويلة ومعقدة.
– ألم تقل إنك من بلاد ما بين النهرين؟
– هذا صحيح، يا ابنتي، لكن عصرنا الحالي هو عصر الهجرات والمنافي.
إنها الحروب، يا ابنتي، تلك التي غيرت الأرض والبشر والعمران، لأن الإنسان لا يملك إلا أن يشن الحرب عندما يعجز عن تحقيق رغباته بالسلام.. السلام الذي هو الحب والتفاهم والنزهات والأحلام وأشياء أخرى كثيرة لا تتحقق إلا بالحرب.
– الحرب؟
سألت سمير اميس وهي تتطلع إلى لوحة معلقة على حائط كوخي الخشبي لرسام عراقي اسمه راكان دبدوب.
ثم أضافت بنبرة ملكية راقية: اسألني أنا عن الحرب.
ثم ضحكت وهي توضح: الحرب كانت امتحاني الشخصي لأصبح ملكة.. ملكة وادي الرافدين الخصيب.
قلت بزعم الكاتب العارف: أعرف هذا ولا داعي للتفصيل.
سألتني مستغربة: وكيف عرفت؟
– لأنني كاتب والكاتب لا يكتب إلا بعد أن يقرأ، وأنا قرأت عنك لأنك فلذة من تاريخي وصفحة من ذاكرتي.
دخلت ابنتي الكبرى (رند) تحمل صينية طعام لنتعشى معاً، نحن الثلاثة: سمير اميس ورند وأنا.
قالت رند: الله!! ما أجمل ضيفتك!
ردت سمير اميس: بل ما أجمل ابنتك!
قلت أنا: إنكما قصيدتان.
سألتني سمير اميس وهي تمسد شعر رند: وما القصيدة؟
قلت عفو الخاطر بلا تخطيط لغوي:
– هي جرأة الجمال مكتوباً.
رمشت بأجفان بريئة لتستفسر:
– لم أفهم.
– الشرح يفسد الشعر.
قالت: أنا متعبة لأنني عدت للتو من معركة كبيرة ضد جارتنا مدينة (باكتريا) وأريد أنام وغداً نكمل حوارنا.
قلت لرند: بنيتي، خذي ضيفتنا واسكنيها في غرفتك. لتنم جيداً ولتذهبا صباح الغد في جولة بلندن لتتعرف سمير اميس على معالم المدينة وتتفهم زمننا: زمن الهجرات والمنافي.
_________
*شاعر من العراق مقيم في لندن(المدى)