وجوه فان غوخ المخاصمة للعالم



*عمران القيسي

ليس هناك من فنان نستطيع أن نطالع عبر صور وجهه الذي رسمه في المراحل والأوضاع المختلفة، مثل فان غوخ المولع بمراقبة داخله، الذي حاول الحصول على جواب حقيقي، حول حقيقته كرسام وكمفكر، ولكن هل باستطاعة إنسان بسيط واعتيادي مثل فان غوخ أن يغير ولو جزءاً صغيراً من نظام العالم القسري في الخارج؟

لم يكن فان غوخ متصالحاً مع الخارج بل إن خصامه المستمر معه، انعكس على موقفه من نفسه التي اعتبرها متواطئة مع أكثر الأشياء اشمئزازاً في الحياة . فإذا أراد أن يمارس دوره بين عمال مناجم الفحم، كقسّ متمرن في كنيسة المنجم . وبدأ جاداً بتحضير خطبة يتحدث فيها عن جمال الحياة التي وهبها الخالق للإنسان سوف ينهض العديد من العمال مغادرين أماكنهم لاعنين هذا المنطق المنافق . إنهم يبصقون الرذاذ الفحمي من صدورهم، وربما يكون هذا الرذاذ ممزوجاً بالدم، فكيف يتجرأ هذا (الخوري) الأصهب الشعر أن يحدثهم عن الحياة الجميلة؟
كان فشل خطابه الاجتماعي يعني خروجه من سلك الكهنوت والتوجه صوب ذاته . لذلك ارتدى قبعة القش، وثبت فوقها بضع شمعات وبدأ يرسم على ضوء الشموع هذه، صورة وجهه المنعكس على المرآة الجانبية . كان ذلك في الشهر الأول من عام 1888 . أي عندما كان في سن الخامسة والثلاثين فكيف جاءت هذه الصورة؟
يقول الناقد الأمريكي فيدوفيللو في كتابه “أعمال فان غوخ الإبداعية”: “إذا بدأنا بدراسة العينين في هذا البورتريه فسوف نكتشف العدوانية الطافحة من عينيه، أما الخطوط اللونية المتجه من الداخل إلى الخارج فهي أشبه بقوة طاردة إلى الخارج، علماً أن النقطة المركزية التي تنطلق منها هذه الخطوط الزرقاء والصفراء والحمراء، تتمركز في ما بين العينين لتهدأ عند الفم الصامت كلياً . إنه يعاقب فمه على كلامه السابق، وإنه بقبعة القش التي يرتديها والسماء السوداء الملبدة بالأزرق القاتم خلفه، يتقدم صامتاً في جنازة ذاته . لذلك كانت هذه الصورة وثيقة عزلة جديدة بدأ يعيشها بكل تعاسة .
في العام،1887 وفي فصل الصيف كان الفنان أكثر اندماجاً بالطبيعة وكأن مشاريعه الجاهزة سوف تنضج في الشتاء المقبل، لذلك يعرف وجهه وملابسه والعالم المحيط به باللون الأصفر . وهو اللون الذي كان يرى فان غوخ نورانية العالم فيه . إنه لون الروح الذهبية للشمس . وكان يرى بأن حياته الهادئة في هذا اللون الصيفي تكون في أصدق مشاعرها .
إن روحه الصافية لا تحب المفاجآت مطلقاً، ولا تستطيع أن تفصح عن سر سكونها الأبدي إلا عندما يشعر بأن رأسه صار محاطاً بهالة صفراء تشبه هالة القديسين .
لذلك يرسم صورته الذاتية بسرعة وبإتقان، وهو يرتدي قبعة القش التي لم تكن تفارقه حتى في ساعات الليل أحياناً، حيث تبين صورة أخرى رسمها في شهر يوليو/تموز من العام ذاته أي عام 1887 . بأن حالة من السرور الباطني تتلبسه وهو محاط بالليل فيما قبعته تصرّ على الاحتفاظ بلونها الذهبي .
ويوضح قبل وفاته بثلاثة أعوام، بأن جميع مصالحاته مع العالم الخارجي باءت بالفشل . لذلك يعود إلى لغته التعبيرية القاسية، وها هو يرسم لوحة بقياس 32 * 41 سنتيمتراً وبمادة الزيت على المسطح الخشبي المحضر، صورته شبه الرسمية . حيث يرتدي القبعة الرمادية الأنيقة التي أرسلها إليه شقيقه ثيو وكذلك المعطف الذي أصرّ أن يتقبله كهدية من صديقه الدكتور غاشيه .
إنه يرتدي هدايا الآخرين بحزن وكآبة، مستعملاً عبر وضعه الجاهز ولغته التعبيرية المباشرة، ضربات وحشية تبين بأن اليأس بداخله بدأ يزداد نضجاً وأن لحظة الانفجار باتت أقرب مما كان يتصور .
في تلك المرحلة بدأ فان غوخ يرسم بكثافة متناهية . أجساد النسوة المسلولات . والمترهلات، حتى إن بول غوغان الذي زاره في محترفه . لم يطق النوم على ذلك السرير الذي كانت تنام عليه النساء اللواتي يرسم فان غوخ بؤسهن اللاذع .
لكن نفحة أمل بالحياة تهبّ عليه فجأة، لاسيما عندما أرسل إلى باريس ولإحدى صالات العرض أربع لوحات . وقد أرسل إليه شقيقه ثيو بعض النقود والألوان . معتقداً أن لوحاته قد بيعت . والواقع أنها صارت مثار نقاش حاد بين بعض الفنانين الانطباعيين، حيث رأى بعضهم فيها مجرد أعمال فطرية . فيما رأى القسم الآخر ومنهم بول غوغان بأنها قمة النضج الإبداعي لفنان طور التلوين المكثف للانطباعية وأسّس لحركة (الفوفويزم) الوحشية الجديدة .
رسم في تلك المرحلة صورته الذاتية بقدر من الغواية والجمال والنعيم كان داخله مليئاً بالهدوء والصفاء . وقد استبشر طبيبه الخاص الدكتور غاشيه خيراً بهذا التحول .
علماً أن فترات من الاستقرار النفسي والذاتي سبق ومرّ بها فان غوخ وقد تجمعت لديه الروح التعبيرية . بل إن تعبيريته الناضجة والمبكرة، سيطرت بشكل كامل على إرهاصاته الانطباعية . فغابت الضربات اللونية المتتالية لتحلّ محلها فرشاة لونية تتحرك بأسلوب أكاديمي، وبوعي تشريجي مدروس . وربما فترة أواسط عام 1886 كانت المرحلة التي شهد فيها البورتريه الذاتي للفنان دراسة متوازنة وهادئة لأنه رسم العديد من التخطيطات الذاتية بالقلم الرصاص . فكانت تلك الرسوم تمريناً جديداً لرسم البورتريه من الذاكرة ومن دون نقل صورة الوجه عن المرآة . ولطالما ارتبط الألق والهدوء في صورته الذاتية على ممارسة من زهور وحياة ساكنة . كان اجملها وأغناها فرحاً ولوناً ذلك الفاز الحامل لأنواع من الزهور ولوحته بحجم 5 .37 * 46 سنتيمتراً . حيث اللوحة موجودة حالياً في متحف أمستردام .
قطع الأذن
في شهر يناير/كانون الثاني من عام ،1889 عاد فان غوخ إلى منزله وهو مصاب بحالة من الغضب الشديد، كان قد تشاجر أيضاً مع صديقه وضيفه الفنان بول غوغان وفي ثورة هياجه وغضبه حدق في المرآة، فركز على أذنه متذكراً أن امرأة في الحانة قالت له إنها جميلة . لذلك أمسك “بالموس” المخصّص للحلاقة وقطع جزءاً من أذنه حيث حملها إلى امرأة الحانة التي بدأت بالصراخ لمجرد رؤيتها الأذن المقطوعة . لكن بعض الذين كتبوا سيرة فان غوخ يؤكدون أنه لم يأخذ أذنه المقطوعة إلى المرأة في الحانة، بل سقط على الأرض مغشياً عليه . حيث حمله صديقه غوغان إلى المستشفى لمعالجته وإيقاف النزف . وقد غادر المستشفى بعد خمسة أيام .
ولكن عندما عاد إلى منزله، الذي وجده نظيفاً ومرتباً، حيث قام بذلك ضيفه الفنان بول غوغان الذي ترك رسالة وغادر إلى باريس . وهناك أبلغ شقيق الفنان فان غوخ أي ثيو بأن شقيقه دخل مرحلة خطرة وقد يقدم على الانتحار . وهذا ما حصل بعد أقل من عام .
الصورة البورتريه للفنان بأذنه المقطوعة تعتبر في نظر النقاد، واحدة من أبرز معالم التعبيرية الانطباعية عند فان غوخ . إنها ترتكز على مقومات لونية غير مسبوقة . فالمعطف الأخضر المحاط بخلفية حمراء، الوجه يميل إلى النورانية التي تزيدها وضوحاً القلنسوة من الفراء الأسود وهي محاطة باللون البرتقالي الأنيق . هذه اللوحة هي أقرب إلى فنون التصوير الياباني وقد سبق للفنان أن تأثر بالرسم الياباني عندما رسم صيف 1887 الجسر على نهر الرين، ورسم في شهر سبتمبر/أيلول العام نفسه ما أسماه ب (لابسة الكيمون) لوحة محاطة بإطار من الكتابة اليابانية .
_______
* ملحق (الخليج) الثقافي

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *