رائحة تقود إلى الحب



مروة عصام شوَاش*

 مبتدئةً من العنوان «تلك الرائحة»، أقف بين يوسف إدريس ومحمود أمين العالم؛ نائية بنفسي عن محاكمة صنع الله إبراهيم في اقترابه أو ابتعاده عمّا أراد بتعبيره: «تلك الرّائحة»، لأقرأ القصّة انطلاقا من عنوانها قراءتين: أولاهما، كما أراد يوسف إدريس لتلك الرّائحة أنْ تكون؛ التباس الإحساس العصيّ على الاختزال في حاسّة الشّمّ. وأخالف إدريس في حيرةٍ شديدة أوقعَ نفسه فيها إذ حاول اختزال الإحساس بكلمة ما، بعد أنْ صرّح بفشل صنع الله في تسمية قصّته «تلك الرّائحة» للخطأ نفسه الذي أتاه يوسف: النّزوع إلى اختزال الإحساس العامّ المنبعث في القصّة ومنها بكلمة واحدة.
ومن حيث نظرَ محمود العالم، أعيد قراءته للعنوان لأخالفه في قوله إنّها جملة «ناقصة تساؤليّة»، إذ تبدو لي إجابة مُراوغة متأخّرة لرائحة تحضر عندما ننسى اسمها، وتغيب عندما نكون أكثر قربا منها!
تلك الرّائحة التي طغت بقراءة يوسف إدريس، رائحة الإنسان كما هو، تحديدا كما كتب اقتباسا من جيمس جويس: «ولسوف أعبّر عن نفسي كما أنا». رائحة الإنسان كما بدا في سطور صنع الله إبراهيم:
«فإذا نظرت إليه لا تعرف ما إذا كان يحقد أم يتألّم. وهل يوجد إنسان لا يحقد ولا يتألّم؟ من الرّغبة في السّيطرة ومن الضّعف في مواجهة العالَم. من الافتقاد للحبّ ومن العجز عنه. من احتقار النّاس ومن الحاجة إليهم. من الإحساس بالقهر ومن ممارسة الاضطهاد. من معاناة الألم ومن الاستمتاع بإيلام الآخرين. من الثّقة الكاملة ومن الشّعور بالفشل. من التّغنّي بحبّ النّاس ومن استغلالهم كقطع من الطّوب تبني بها بيتك. من الاعتقاد أنّ الجميع يحبّونك ويؤمنون بك، ومن رؤيتهم يتخلّون عنك». هذه هي الرّائحة المنبعثة من القصّة: رائحة لا وصف لها، تعبّر عن إنسان وصل حدّاً من النّضج الملعون، أدرك به وَحشته في عالَم متبدّل.

كانت البداية بالوَحدة

يقول البطل في الأسطر الأولى: «لا أعرف. ليس لي أحد. لقد كنتُ أعيش بمفردي»، فنظنّ أنّه عرف الوَحشة قبل أنْ يُسجن، نظنّ ذلك قبل أنْ ندرك خطأَ ظنِّنا ذاك بعد أسطر يقول فيها: «هذه هي اللّحظة التي كنتُ أحلم بها دائما طوال السّنوات الماضية. وفتّشتُ في داخلي عن شعور غير عاديّ، فرح أو بهجة أو انفعال ما، فلم أجد. النّاس تسير وتتكلّم وتتحرّك بشكل طبيعيّ كأنّني كنتُ معهم دائما وم يحدث شيء». ومن هذه اللحظة فصاعدا، ندرك أنّ بطل صنع الله إبراهيم اختبر أشدّ أشكال الوَحدة شناعة وقسوة، التي يوصف مختبِرها، لمعرفته إيّاها، بأنّه أكثر نبوغا من سواه المنكرين: «وَحدةُ من يكون وحيدا ليست هي الأسوأ، إذ يبقى لديه الأمل، لكنْ وَحدة من يكون مرافَقا ولا يُستجاب له؛ لا يبقى له غير اليأس» (أنطونيو غالا، «المخطوط القرمزيّ»).
بطل صنع الله إبراهيم، هنا تحديدا، اختبر ما اختبره فريدريك في «التّربية العاطفيّة» عندما «كان يتوقّع فرحة دافقة. لكن المشاعر تزوى إذا اغتربت».
هذه الوَحدة، أو وَحشته في عالَم لا يكون فيه أبدا بمفرده، تتكرّر ليبعث «تلك الرّائحة» تحديدا في:
«أنا حزين يا طفلتي. حزين ووحيد.
بلا أحد أتحدّث إليه
بالكتب كلّها وقد قرأتها
بلا أحد أضحك معه
إنّه الموت
بل أفظع
إنّها الحياة والموت..
إنّها ليست حياة على الإطلاق
سوى أنّي لم أمت بعدُ…
لكنّي خائف
فهم سيرحلون ويتركونني من جديد
للحياة والموت!».
هنا، تنبعث الرّائحة التي أُريد من «تلك الرّائحة»، هذه هي الرّائحة التي يُريد صنع الله إبراهيم! وأظنّ أنّها الرّائحة نفسها التي سمّاها درويش «الخوف» إذ يقول:
«في كلّ مترٍ
من خُطاه وداعُ شيءٍ ما 
يلاحقه كرائحة القرنفل غامضاً
ويخاف ألاّ يستعيدَهْ!».
رائحة تُبعث من صفة لصيقة بالإنسان، ممزوجة بصفات آخر؛ رائحة رغبة الإنسان أنْ يكون، أنْ يحيا بتعريف نيتشه: أنْ يلقى باستمرار بعيدا عنه، شيئا ينزع إلى الفناء. لذلك هو، عند درويش، يودّع شيئا ما، يودّع جزءا منه يلاحقه كرائحة القرنفل غامضا: رائحة النّزوع إلى الفناء، حيث يكون الإنسان عندئذ، أبدا، كما كتب صنع الله، في حالة: «إنّها ليست حياة على الإطلاق، سوى أنّي لم أمت بعد»، حيثُ يكون «باباً غرقاناً بريحة الياسمين»، يمشي إلى غده ويترُك وداع كلّ شيء، وما ينزع منه إلى الفناء، «فوضويّاً كرائحة الياسمين»؛ تلك الرّائحة التي لنْ تستطيع استعادته يوما ما.
ومرّة أخرى، هاجس الإنسان ألاّ يكون وحيدا، بدا عندما يظنّ البطل أنّ أسعد لحظات «صخر» كانت إذ يشعر أنّ ثمّة شخصاً يعرفه لسبب ما، ففي ما مضى كان يعتقد أنّ الجميع يعرفونه، ثمّ اكتشف الحقيقة تدريجيّا. هنا، تنبعث من «صخر» رائحة: «من الاعتقاد أنّ الجميع يحبّونك ويؤمنون بك، ومن رؤيتهم يتخلّون عنك». وقد كان قبل ذلك، بطل صنع الله إبراهيم، في موضع الحديث عن الحبّ، قد تساءل: «ثمّ من ذا الذي يعرف على وجه الدّقّة ما يدور داخل إنسان آخر؟»، كحديث «آنّا كارنينا» الذي تمرّدت فيه على نفسها:»لقد ظنّ أنّه يعرفني. وهو لا يعرف عنّي إلّا النّزر القليل كأيّ إنسان على هذه الأرض. أنا نفسي لا أعرف نفسي. إنّني أعرف (شهواتي) كما يقول الفرنسيّون».
كاد هذا الهاجس يدفع ببطل صنع الله إبراهيم إلى الجنون: «عندما تزمّ شفتيها وتركن إلى الصّمت مهما حدث، وأكاد أجنّ لأعرف لماذا». لا أعرف لماذا أتذكّر هنا المتنبّي إذ يقول:
«يجنّ شوقاً فلولا أنّ رائحةً
تزوره من رياح الشّرق ما عقلا». 
ربّما، لأنّ شوق بطل صنع الله إبراهيم، بعث رائحة منه، وشوق المتنبّي أسكنته رائحة! 
لا بدّ من الإشارة إلى «مجدي»، الذي انبعثت منه الرّائحة بأوضح ما تكون: «أنت قويّ بالنّاس. أمّا بمفردك فأنت ضعيف». كأنّي أسمعه يقول: «بمفردك، وليس وحدَك، لأنّك أبدا وحيد، حتّى وأنت بين النّاس ومعهم».

ثمّ بالحبّ

هنا، انطلاقا من القراءة الثّانية التي ترى الرّائحة تلك، جزءا مفقودا من القصّة. القراءة الأكثر شبها بقراءة محمود أمين العالم منها بقراءة يوسف إدريس، في أنّها ما جرّدتها من الاسم؛ فقد بقيت رائحة ولم تنسحب ليُقصد بها إحساس. هي رائحة الحبّ، التي لم تَفُح، لا مثل حُبّ نزار: للحبّ رائحة وليس بوسعها ألاّ تفوح.
أين هي هذه الرّائحة؟ وأين الحبّ الذي: «ربّما لم يكنْ كلّ هذا الحديث عنه والتقاء الأعين ورعشة الأرواح غير كلام روايات، ربّما وجدت السّعادة معه. ربّما جاء الحبّ. لم يبق شيء في القلب. ولم يكن قد امتلأ مرّة».
عند الحديث عن الحبّ، لا بدّ من المرور بالوَحدة، وسأبدأ بنصوص من القصّة لأعلّق عليها في ما بعد:
«وعندما فتحتُ الباب وجدت نجوى أمامي. احتضنتُها وضمّتني هي بعنف وألصقتْ جسمها كلّه بجسمي. لكنّي لم ألتصق بها. وأبعدتُها عنّي». 
هذا المشهد، الذي يجري الآن، بعد خروجه من السّجن، يقابل مشهدا آخر، هو أقلّ شبها به، إذ لمْ يكن قد عرف «وَحدة من يكون مرافَقا» بعد:
«ولم أكن أشبع منها. ولو استطعت أنْ أظلّ محتضنا إيّاها طول اليوم لفعلت. وفي الظّلام كنّا نرقد، ونلتصق بعضنا ببعض في عنف لننسى العالم وكلّ شيء ولا نعود نفكّر في أيّ شيء أو نخاف من أيّ شيء. لا تصبح أهميّة لأيّ شيء».
ثمّ يكمل، حاله الآن معها:
«وجذبتها ناحيتي. لكنّها ابتعدت. هناك شيء ما ضاع وانكسر. وانتظرتُ أنْ تستدير فجاة وتحتضنني. لكنّها لم تفعل».
ثمّ عن غيرهِ يقول:
«وقال إنّه لم يحبّ أبدا. وقال إنّه أمس أراد أنْ ينام مع زوجته لكنّها رفضت. هل كان يحبّني حقيقة؟. قلتُ: هل تعرفين ما هو الحبّ؟. الحبّ ليس سهلا».
هذا الامتلاء بالرّغبة بالحبّ، والارتباط بنزعة ملحّة لطرد الوَحدة، صار حاجزا بينه وبين نفسه بعد خروجه من السّجن، هنا يفتقد بطل صنع الله إبراهيم الحبّ ويعجز عنه، لأنّه عرف «تلك الرّائحة»، بقراءة أشبه ليوسف إدريس، ولأنّه لم يجدْ «تلك الرّائحة»، بقراءة أشبه لمحمود العالم. وهو يعاني جرّاء ذلك ألماً يكبر، لأنّ الرّغبة عنده لا تشبع، واللذة لا تأتي لتخفّف ألمه، فرغبته أبدا تتضاعف وألمه أبدا يكبر حتّى يعجز هو عن مقاومته.
«تلك الرّائحة» مرّة أخرى، ومرّات أُخَر، ستدفعني لأقرأها على أنّها «مجاز شانتال»، في «هويّة» كونديرا: شبقها أنْ تكون عطرَ وردة منفتحة، لتعبر كلّ الرّجال وصولا إلى ضمّ الأرض كاملة. كشبق بطل صنع الله إبراهيم في الكتابة، كوسيلة لإشباع الرّغبة في السّيطرة، الكتابة التي لم يستطع إليها سبيلا، وكشبقه في الحبّ اّذي عجز عنه، ليجد نفسه ممتلئا بالرّائحة الكريهة والمجاري الطّافحة. حقيقة أو ما يشبهها، انتهت ب «شانتال» إلى تصحيح مجازها باعتراف جريء بأنّ ما يعبر العالم ليس عبيرَ وردة شاعريّاً، وإنّما هو لُعاب ماديّ مبتذَل، هو ما ملأ بطل صنع الله إبراهيم برائحة لا تُطاق، لأنّها تذكّره، أبدا، بأنّه أكثر شبها ممّا لا يرضى الاعتراف به. رائحة تذكّر الإنسان أنّه جسد، يملؤه شعورا بالابتذال والشّيوع فيفقد ما يمكن أنْ يعرّف به نفسه، ويقترب بخوف من الإقرار بأنّه أقلّ عظمة ممّا يظنّ؛ بأنّنا محكومون بالأكل والجماع والورق الصحيّ؛ بأنّنا محكومون بالخجل من متطلّبات الأجساد التي لنا، تماما كخجلنا من «تلك الرّائحة»: مهانة مرئيّة واضحة أنّنا أقلّ حريّة ممّا ندّعي! 

– الرأي الثقافي

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *