جهاد هديب *
ليست “اسطنبول”، مجرّد مكان يصلح للعيش أو السكن فحسب لأنها مدينة جميلة وتمتاز بموقع جغرافي يكاد يكون خرافيا واسثنائيا قياسا بمدن العالم الأخرى جميعا. إنما وعلى الرغم من أنها واحدة من أهم الحواضر الاسلامية في اللحظة الراهنة، إلا أنها بالنسبة للترك، فضلا عن ما سبق، هي وجه تركيا الحديثة؛ تركيا الكمالية أو الأتاتوركية؛ تركيا التي إنْ انتزعت من سياقها العثماني فلن يكون لها جذر حقيقي في التاريخ، إذ أن هذا الاسم تركيا: “ما تركيا؟ إنه ذلك الاسم الذي لا يعني شيئا”، بحسب ما قال واحد من أهم مؤرخي القرن الماضي، البريطاني المعروف أرنولد توينبي في السطر الأول من كتابه “تركيا: الماضي، والمستقبل” الصادر لأول مرة في العام 1924، وهي السنة ذاتها التي تمّ فيها إعلان انتهاء الخلافة العثمانية على يد كمال أتاتورك.
الآن، انزع من تركيا الراهنة حواضرها الاسلامية، فستبدو حائرة ومتأرجحة بين استقطابين حادّين بعد مرور قرابة تسعين عاما على مشروعها الأتاتوركي: فلها وجه إسلامي يجعلها مشدودة بعنف إلى القوس الحضاري العربي والإسلامي، ولها وجه آخر أوروبي القَسَمات علماني الطابع وله أيضا جذور ضاربة في المجتمع التركي.
روح الجمهورية
باختصار، إذا كانت تركيا هي الدولة الحديثة بكل مقوماتها ومعطياتها واستراتيجيات حضورها في المنطقة والعالم، فإن حواضرها هي التي تمنحها مشروعية ذلك الإرث الثقافي بكل ما يشتمل عليه من تعدد وتنوع واختلاف، بالاتجاهين: الاسلامي والمديني الحديث.
ومكانة اسطنبول في المشروع الحداثي التركي كانت حاسمة منذ بداياته، إذ تشكلت في رحمها كل المظاهر المدينية للمجتمع التركي الحديث بطابع أوروبي على مسحة ارستقراطية إلى حدّ بعيد: ساحات عامة وميادين وحدائق ومقاه وحانات وفنادق تتجاور مع منظمات مجتمع مدني، وأحزاب سياسية مختلِفة التوجهات الايديولوجية ونقابات، وحرية مرأة يصونها القانون، وبنية ثقافية تحتية راسخة متعددة الألسن: التركية أولا، ثم الفرنسية والانجليزية، وحضور خجول للألمانية.
بهذا المعنى، فإن اسطنبول هي روح الجمهورية التركية، ولن يترك أثرا أحد ما في هذه الجمهورية إن أهمل هذه المدينة، فكيف سيكون الأمر إنْ اعتُديَ على الذاكرة الثقافية والسياسية لهذه الروح.
أما بالمعنى “الأركيولوجي ـ الاجتماعي”، فإن اسطنبول مدينة متعددة الطبقات، ثقافيا وتاريخيا، وعلى الرغم من أنها ليست مدينة كوزموبوليتانية مثل نيويورك أو لندن أو باريس، إلا أنها واحدة من المدن الكبرى المؤثرة في الوجدان الفردي على نحو يشبه القاهرة المصرية، أو البندقية الإيطالية مثلا، أو غرناطة الاسبانية، أو حتى العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس، أو ساوباولو البرازيلية، تلك الحواضر التي انتقل تأثيرها في الوجدان الفردي إلى المخيلة الأدبية، عندما قُدِّر لبعض الكتّاب والروائيين والشعراء والرسامين أن ينقلوا إلى إبداعاتهم أوجها متعددة لهذه المدن.
ويحسب المرء أن أكثر المدن قربا، لا شبَها، إلى اسطنبول هي البندقية. إنما ليس من باب وفرة المياه فيهما بل لناحية حضورهما في إبداع كل من إيتالو كالفينو الأيطالي وكتابه “مدن لا مرئية” الذي صدر منه عدة ترجمات إلى العربية من بينها واحدة أنجزها ياسين طه حافظ وصدرت عن الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد، وكتاب “اسطنبول ـ الذكريات والمدينة” للكاتب والروائي التراكي الحائز على جائزة نوبل للآداب أورهان باوموك من ترجمة لعبد القادر عبد الكريم عن دار المدى.
مدينة متناثرة
غير أن الفارق بين الكتابين هو أن صورة البندقية لدى كالفينو تبقى فردية تماما من فرط ما إنها متخيلة يمتزج فيها الواقعي بالخرافي والأسطوري ليخرج المزيج واقعيا سحريا على طريقة كالفينو وحده، بينما المكان والحدث في أعمال باموك، بحسب ما هي عليه في ترجمات عربية متفرقة، مزيج من التاريخ بأطيافه العديدة والواقع الراهن بأبعاده السياسية. لدى كالفينو شخصية واحدة تجوب العالم إذ تجوب أنحاء البندقية، ولدى باموك مدينة واحدة تتناثر الشخصيات على مساحاتها مثلما تتعدد ـ أي المدينة ـ في الصور وحكاياتها. “بندقية” كالفينو صنيعة المخيلة وحدها، و”اسطنبول” باموك هي تأويل لاسطنبول.
الكتابة السردية لدى كالفينو هي تعبير مضمر وعميق عن نقد اجتماعي غير معلن بوضوح لكنه موارب، أما لدى باموك، فالكتابة السردية هي موقف سياسي، بمعنى ما وليس وفقا للمعاني كلها. يشعر قارئ روايات باموك بأن شخصياته محمّلة بإرث سياسي ومن غير الممكن لها أن تتعامل مع التاريخ بخفّة أو بمرور عابر.
إيتالو كالفينو وأورهان باموك هما ثمرتان لمدينية مدينتيهما. فقد استطاع الكاتبان أن ينقلا عوالمهما إلى العالم كله. وفي حين أن كالفينو لم يُعهد عنه ممارسته السياسة إلا في شبابه المبكّر، إلا أن باموك، الذي لم يمارس أي نشاط حزبي سياسي، بحسب سيرته الذاتية كما هي متوفرة في كتبه وبعض المواقع الالكترونية، ينتمي إلى نوع من المثقفين الذين يتابعون المجريات اليومية للسياسة ويتخذون منها موقفا نقديا مثقفا واضحا ومباشرا، مثلما أنه يستفيد منها ـ أي من مجريات السياسة ومواقفه من تحولاتها ـ في رواياته.
وعي باموك
ووسط هذا كله يشعر المرء بأن هذا المثقف التركي هو في الأساس مثقف “اسطنبولي” قبل ذلك، فالمدينة هي فضاؤه الثقافي والتاريخي والشخصي وليست فضاء سياسيا فقط رغم أنه ينكر أن يكون تداوله للسياسة أمرا مقصودا بحدِّ ذاته. بل ربما لا مبالغة في القول بأن أورهان باموك هو، سياسيا، قد تشكّل في هذه المدينة ومنها ينطلق فهمه للحراك السياسي في تركيا انطلاقا من الحساسية السياسية الفائقة التي تتمتع بها هذه المدينة في حياة المبدعين من أبنائها. يمكن إدراك ذلك من خلال قراءة الكتاب المميّز لأورهان باموك: “اسطنبول ـ المدينة والذكريات” الذي يعتبر واحدا من بين أبرز ما كتب الرجل من إبداع في حياته. يقول باموك في هذا الكتاب: “قدمت لى المدينة حكمةً وفهماً أعمق من كل ما يمكن أن أكتسبه فى غرفة الدرس، استطعت ان ارى عبر النوافذ المرتجفة فى السفينة، المنازل الخشبية القديمة الخربة، والحي اليونانى القديم في نيسانتاسي، وكان الحي شبه مهجور بسبب الإضطهاد القاسي، ويبدو، بين هذه المباني الخربة، قصر طوب قاب ومسجد السليمانية والصور المظللة لتلال اسطنبول ومساجدها وكنائسها الأكثر غموضاً مما لو كانت تحت غيوم معتمة.. هنا بين الصخور القديمة والمنازل الخشبية.. عاش التاريخ في سلام مع خرائبه. غذَت الخرائبُ الحياةَ وقدمت حياة جديدة للتاريخ”.
وربما يكتسب هذا الكتاب أهميته من مقدرة أورهان باموك على تحليل فضاءات تخييلية وواقعية متعددة ومتجاورة، ومؤتلفة ومتناقضة وتجمع ما بين سيرة الشخص بكل أبعادها الفردية وسيرة الجماعة بكل أبعادها الجمعية والنفسية التي تخصّ هذه الجماعة. فضلا عن أنه كتاب “اعتراف” يتحدث فيه الروائي التركي الأشهر في العالم والأكثر تأثيرا في الغرب ثقافيا عن تلك المؤثرات الثقافية والوجدانية، الغربية منها والشرقية، التي أفرزت شخصيته المنفتحة الأقرب إلى الغرب والتي تأخذ خصوصيتها من وجود بُعد إسلامي “تنويري” بملامح تخص تركيا الإسلامية وحدها.
وعبْر هذا الكتاب، الذي ربما يكون موجّها بمعنى ما أو صيغة ما للقارئ الغربي والثقافة الغربية فقط، يمكن للقارئ أن يتلمس مدى نأي أورهان باموك عن الطروحات المضادة لمشروع حزب العدالة والتنمية وأبعاده الإسلامية العثمانية ومدى قربه من الطروحات الديمقراطية الأكثر ليبرالية لدى أحزاب المعارضة التركية التي استطاعت أن تضع حدّا لتطلعات رجب طيّب أردوغان في المنطقة والعالم منذ اندلاع احتجاجات ميدان تقسيم في “اسطنبول” في محاولة لإعادة الرجل إلى “رشده التركي” إذا جاز التوصيف، أيضا.
شجاعة سياسية
أيضا، هذا النزوع الثقافي ـ السياسي باتجاه الغرب يتلمسه المرء في الأطروحات السياسية التي ينادي بها أورهان باموك بين فترة وأخرى عبر الصحافة الغربية أكثر مما عبر وسائل الإعلام التركية، حيث ينطوي البعض من هذه الأطروحات على شجاعة حقيقية تجعل المرء يحترم هذا المثقف سواء اتفق معه أم خالفه الرأي.
كان من بين هذه المواقف مجاهرته بالقول لمجلة سويسرية في العام 2003: “هناك مليون أرمني و30 ألف كردي قتلوا على هذه الأرض، لكن لا أحد غيري يجرؤ على قول ذلك”، وهذا الأمر صحيح إلى حدّ أن الرجل بات غير مرغوب فيه سواء من قبل القوميين الأتراك أو من قبل عثمانيي النزعة الجديدة الذين يتمثلون بحزب العدالة والتنمية الحاكم؛ وكذلك من دولة الاحتلال “اسرائيل”، التي لا تريد لمذبحة أخرى أن يذكرها التاريخ سوى “الهولوكوست”.
وذلك فضلا عن أنه الكاتب التركي، وربما الإسلامي، الوحيد الذي أدان الفتوى الخمينية بإهدار دم الروائي البريطاني من أصول هندية سلمان رشدي. وذلك كله، بالإضافة إلى أنه في فبراير من العام 2007 بعد مقتل أحد الصحفيين الترك من أصل أرمني لكتاباته التي تندد بمذابح الأرمن تلقى أورهان باموك شخصيا تهديدات بالقتل وأخبرته السلطات الأمنية أن هذه التهديدات جدية، ما دفعه إلى الانتقال إلى الولايات المتحدة الأميركية أستاذا لدرس الكتابة الابداعية في جامعة كولومبيا، ليستمر هناك، في منفاه الطوعي النيويوركي، في الكتابة وممارسة السياسة معارضا حكم حزب العدالة والتنمية إنما من باب الهواية أكثر مما أنه من باب الاحتراف، أي أن باموك يمارس دورا يعتقد أنه ليس دوره.
نصيحة لأردوغان
وفي حوار أجرته معه جريدة “النيويرك تايمز” الأميركية نهاية العام الماضي ولمناسبة صدور روايته “البيت الصامت” بالانجليزية لأول مرة، وسبق لـ”الاتحاد الثقافي” أنْ نشرت مقاطع منه آنذاك، سأل المحاوِر الأميركي باموك: لو أن بوسعك أن تزكّي كتابا للرئيس الأميركي فما هو؟ أيضا، لرئيس الوزراء التركي؟ فردّ الرجل بالقول: “قبل سنوات طويلة، انتخَبَ أوباما رئيسا، لقد عرفته بوصفه مؤلف “أحلام من أبي”، كتاب جيد جدا. بالنسبة إليه أو لأي رئيس أميركي، أرغب في أن أرشّح ذلك الكتاب الذي أمنحه أحيانا هديّةً لأصدقاء، آملا أن يسألونني: لم هذا الكتاب، أورهان؟ “البوذية وفنّ صيانة الدرّاجة الهوائية: سؤال في القِيَم”. هو كتاب انبنى بسعة أميركا وعلى فرد يبحث عن قيم ومعنى في الحياة. هذا الكتاب الرومانتيكي الرفيع ليس رواية، لكنه يفعل شيئا ينبغي على كل رواية جادّة أن تفعله، بل هو يفعل ذلك بأفضل من الروايات العظيمة: يصنع فلسفة بعيدا عن التفاصيل القليلة للحياة اليومية.
لقد احترمت سياسات رئيس الوزراء التركي في دفع الجيش إلى الثكنات بعيدا عن السياسة، على الرغم من أنني لست سعيدا بسبب محاكمة آرائي السياسية مثل الكثير الكثير من الآخرين خلال فترة تولّيه السلطة. لقد قاضى رسّام كاريكاتور لأنه صوّره قطّةً، على الرغم من أن أي شخص يأتي إلى هنا يعلم أننا في اسطنبول نحب القطط. أنا أكيد من أنّ أردوغان سوف يستمتع بكتاب “أنا قطّ” للكاتب الياباني العظيم ناتسومي سوسيكي، فهذه الرواية تهجو “الأخطار الشيطانية” المبالغ فيها إذا ختار المرء أن يصبح المرء غربي الثقافة، مسرودة من قِبَل قط ماكر”. فأجاب باموك: “على أبعد تقدير، كنت أفعل ذلك بوصفي مواطنا متورّطا. لا أملك قناعات سياسية منظّمة، ولست كاتبا لديه وعيا سياسيا ذاتيا. غير أنّ كتبي سياسية لأن شخصياتي تعيش أزمنة مضطربة بسبب عدم الاستقرار السياسي والتغيرات الثقافية، أحبّ أنْ يرى قرّائي أنَّ لدى شخصياتي خيارات في الأزمنة كلِّها وأنها شخصيات سياسية بطريقة أدبية في رواياتي”.
ويضيف: “ما من أفكار سياسية أبدا كانت تحرِّضني. لقد اهتممت بالظروف الانسانية والقصص الهزلية. أما الاشكاليات السياسية التي واجهتها في تركيا ليست بسبب رواياتي إنما بسبب تلك اللقاءات الصحفية التي أُجريت معي من قِبَل صحافة أجنبية”.
ويتابع باموك: “مرة، شكوت لبول أوستر الشاب، هذا الكاتب الذي يعجبني وكنت التقيته أثناء ما تُجرى معه لقاءات صحفية مثلي، في أوسلو بهدف الترويج لكتبه. كانوا يسألونني أسئلة سياسية طيلة الوقت، ولعل الأسئلة السياسية تكون أسهل إنْ كنتَ كاتبا أميركيا. قال إنهم أيضا كانوا يسألونه عن حرب الخليج طيلة الوقت. كان ذلك عن حرب الخليج الأولى! قرابة عشرون عاما مرّت على ذلك، ربما تعلّمت أن الأسئلة السياسية هي نوع من القَدَر بالنسبة للأدباء، خاصة إنْ لم تكن قادما من العالم الغربي”.
ويقول: “الروايات السياسية، ليست سياسية لأنّ الروائيين يحملون بطاقات حزبية ـ البعض يفعل ذلك ـ بل لأن الرواية الجيدة هي التي تتحدث عن التماثل مع أناس متفاهمين وليس بالضرورة أنْ يكونوا مثلنا. ووفقا لطبيعة الروايات الجيدة فهي سياسية لأن التماثل مع الآخر سياسي. في القلب من “فن الرواية” تضطجع المقدرة الإنسانية على رؤية العالم من خلال عيون الآخرين. الحنوّ هو القوّة الأعظم للروائي”.
المدينة المسكينة
أما مدينة اسطنبول، مركز العشق الأول عند أورهان باموك، وهي التي تغيرت كثيرا في الآونة الأخيرة على نحو قبيح، بحيث انعكس ذلك في الأعمال الأدبية التركية، فيقول عنها في الحوار ذاته:
“انشغلت أجيال عديدة من الكتّاب التُرك بالحياة والاستبداد الاجتماعي في الأناضول الزراعية، في حين “اسطنبول” المسكينة قد كبرت في الخمسينات ـ من القرن الماضي ـ من مليون نسمة إلى أربعة عشر مليونا خلال حياتي. جيرة الضواحي التي كانت قرى صيّادي سمك باتت جزءا من عاصمة الدولة الآن: المصايف الفاخرة من أجل الطبقات المستغربة (أي التي تقلد مثيلتها في الغرب الأوروبي والأميركي)؛ ومساكن العمال والطبقة العاملة التي وصفتها كثيرا في “البيت الصامت” بشبانها الغاضبين القوميين، والعلمانيين بمشاكلهم السياسية. أشعر أنني محظوظ جدا لأنني راقبت هذا التضخم والنموَّ المروِّع من الداخل، ولأن أغلب هذا التضخم قد حدث في السنوات الخمس عشرة الأخيرة فإن من العسير أن يدركه المرء كثيرا. لكن مثلما فعلت قبل سنوات، لكي أكتب “البيت الصامت”، ما زلت أمشي طويلا في أحياء مختلفة من المدينة وأراها، وهي تكبر وتكبر، مراقباً البنايات الشاهقة التي أخذت مكان ضواحي الصفيح؛ ومجتمعات المحلات التجارية الفاخرة التي بنيت على الحدائق القديمة للسينما الصيفية؛ وكل أنواع المتاجر الجديدة وسلسلة مطاعم الأكل السريع المحلية، تقدّم جميعاً الكثير من الجماهير ومن الحشود اللانهائية في الشوارع”.
* الاتحاد الثقافي