قراءة في رواية ” سجاد عجمي ” لشهلا العجيلي




د.إبراهيم خليل *


تتداخل في رواية سجاد عجمي لشهلا العجيلي(الضفاف، بيروت: 2013) حكايات العشق وتتقاطع، فثمة حكاية للبانة التي تزوجت من البغدادي ليهجرها إلى أعجمية في خراسان، تاركا لديها طفلا هو (قيس) (ص16) لكي تنتظر أوبته من سفره سنوات أربعًا دون فائدة قبل أن تقرر العودة إلى بلدتها دير زكا على كثب من الرقة لتقع مرة أخرى في غرام سليمان بن زياد السلمي، في حين يتعلق بها آخر هو عمر من أبناء الرقة، تاركا قريبته وابنة عمه خود، بعد أن وقع في حب لبانة من النظرة الأولى على طريقة أهل الحب العذري، على الرغم من أنه رآها تصطحب طفلا في السادسة من عمره، وهذا يعني أنها متزوجة لا خالية القلب، ومع ذلك أصابت حبة قلبه، فراح يتعمد البحث عنها، وعن أخبارها، وعن كيفية الوصول إلها، لتسعفه في ذلك محبوبة صاحبة الفندق(ص12).
وأما ريا فكانت قد عشقت هي الأخرى (حسن السعدي) وحسن هذا خطبت له وتزوجا لكن العريس فقد عقله في الليلة الأولى وجنّ، وانتهت علاقتهما بالطلاق، للتتزوج من آخر فتنجب منه أربعة أطفال، وتنتظر مولودًا أخر جديدًا، ومع ذلك لا يفتأ سعد – وهو من قادة جند الوالي – يتحين الفرص للتحدث إليها، ومراودتها عن نفسها، وهي التي تميل إليه ميلا شديدًا، وتعتقد أن قلبها يتفتح للحب للمرة الأولى، ولكنها تتمنّع.. وينتهي الأمر بها لتقاد بقوة الشرطة إلى مقر سعد في حادث يعد شبيها بالفضيحة التي تصبح موضع حديث أهل الرقة، وما جاورها من بلدات، كالرصافة، ودير زكا. (ص50) 
وثمة حكاية عشق أخرى وقعت قبل بدء القصة، وهي العلاقة الغرامية بين محبوبة، صاحبة الفندق ومالك الأشجعي، تلك العلاقة التي استمرت حينا من الدهر انتهت بتحرير الجارية التي تعلقت بعاصم شقيق مالك. ويتجدد العشق لدى لبانة عندما تقابل سليمان بن زياد السلمي مثلما سبق، وتتكرر اللقاءات، ولكن الجارية (ديجور) واسمها الحقيقي جيهان، وهي من الجواري الفارسيات يبدو أن في قلبها بعض الحب الذي تضمره لسيدها سليمان، تحاول إفساد العلاقة بين صانع السجاد والحبيبة لبانة وتنجح، فقد اختلست الرسالة الأخيرة التي بعثت بها لبانة لسليمان محددة موعدًا للقائهما خارج البلدة، ولأن سليمان لم يتسلم الرسالة، ولم يأت لموعدها المضروب، فقد ظنت لبانة أن عدم قدومه للموعد دليل على أنه غير وفي في حبه لها ولا صادق، وأنه لا يريد من ذلك العشق الذي يدعيه سوى التسلي بامرأة جميلة، وعندما يغدو الأمر جديا فإنه ينأى بنفسه هاربا من نداء الحب الحقيقي. ولهذا تنشأ القطيعة التامة بينهما بدلا من الحب الجارف.
وحتى(خود) تقع هي الأخرى في حب حارثة، بعد يأسها من ابن عمها عمر، الذي نشز عنها إلى لبانة، التي لا تهتم به، ولا تعنى ، وحارثة هذا من جند الوالي الذين لا يتمتعون بسمعة طيبة بين أهل الرقة، فهم يخشون نذر الحرب منذ جاء الوالي الجديد، وألقى فيهم خطابا يشبه خطب الحجاج بن يوسف الثقفي، أو زياد بن أبيه، أكثره وعيدٌ، وتهديد.، فقد مالت بعد أن يئست من حب عمر لهذا الجندي الذي قدح زناد حبه في قلبها فأورى(ص61) ولا يخلو المهمشون المسحوقون في (الرقة) من أن تكون لهم حكايات ولهٍ، وحكايات عشق، فها هي ريحانة- ابنة السبعة عشر ربيعًا – الجارية في بيت آل إياد السلمي، ولا تعي أن لها أحدا غير هؤلاء الذين تجد نفسها في بيتهم، وبين ظهرانيهم، تعشق حامدا الصياد، وتتمنى أن يتزوّجا وإن يفارقا (الرقة) لمكان لا يرقبهما فيه عذولٌ، أو رقيب، ولا ينغص عليهما هناءة حبهما قريبٌ أو حسيب ( ص81) فما الذي يربطهما بالرقة غير هذا العمل الشاق؟ ولم لا يستجيبان لنداء الحب الذي يضطرم في قلبيهما الفتيين؟ أما (ديجور) وهو اسم أطلقوه على الجارية الفارسية (جيهان) (ص45) فيبدو أنها هي الأخرى تعشق سيدها سليمان، مثلما سبق، وإلا فما الذي يدفع بها دفعا لاختلاس الرسالة التي بعثت بها لبانة لسليمان محددة الموعد الغرامي للقاء به خارج البلدة (ص111) وما غايتها من ذلك إن لم تكن إفساد العلاقة بين الحبيبين ليخلو لها الجو بعد القطيعة التامة والجفاء الشديد بين الاثنين؟
باختصار نستطيع الالتفات لما في الرواية من حكايات عشقية تبدو للقارئ متوازية، لكنها – من وجهة نظر السارد أو الساردة – حكايات متقاطعة تشبه في تقاطعها وافتراقها تقاطع خيوط السجاد حين تنسج في تواصل عضوي ما بين اللحمة والسداة. 
فعندما نتحدث عن لبابة نجد أننا في مكاشفة مع ريا، وأخرى مع خود ، وثالثة مع محبوبة، ورابعة مع عمر، وأخرى مع سليمان. فتركيب الحبكة – ها هنا – تركيب عنقودي لكل حكاية حبكة، وكل حبكة متصلة بغيرها، في نقطة تماسّ محددة. في هذه الأجواء لا بد من إطار سردي يحيل هذا التعدد والتنوع في الحكايات لبنية نصية متماسكة لا تخلو من الاتساق. وهذا الإطار ينبثق من أمور عدة، الأول هو المكان. فالحوادث تجري جميعا في (الرقة ) مع تنقلات نادرة بينها وبين دير زكا، والرصافة، وكلها في الواقع تنتمي لبقعة جغرافية واجتماعية واحدة. والصحيح أن السارد لا يفتأ يشير لبغداد ويشير لفارس ،ويشير لخراسان، ويشير لأمكنة أخرى، كطبرق في ليبيا ، وإلى مدن في المغرب، وفي الجزائر، وإلى مصر.. لكن هذه الإشارات إشاراتٌ عابرة وإن اضطر في واحدة منها على الأقل للتوقف فيما يكاد يكون انقلابا في البنية المكانية للنص، وأعني عند رحيل لبانة صحبة عبد الرحمن الطبرقي، ففي هذا الموقع يفارق السارد الرقة فراقا يبدو ألا رجعة بعده. في إشارة رمزية لتخلي أهالي الرقة عن مدينتهم الرائعة بعد الذي جرى فيها من فتنة وحروب سببها ما يقال عن مصحف فاطمة الذي يفرق ولا يجمع.(ص 69،104،144- )
والأمر الثاني الذي يؤطر هذه الحكايات هو الزمن فالرواية رواية تاريخية. على الرغم من أن المؤلفة لم تقل لنا إن روايتي ” سجاد عجمي ” رواية تاريخية، ولم تحدد لنا الحقبة التي تقع فيها الحوادث، ولم تذكر من أسماء الشخوص ما يحيل لعصر تاريخي محدد، فهي تكتفي بذكر كلمات مثل الوالي، والخليفة، وصاحب الجند، والكتاب الذي تعلمت فيه لبانة نسخ المخطوطات. ومن إشاراتها للأمكنة، ومن تجوالها في فضاء الحكاية، يتضح للقارئ أن هذه الرواية رواية تاريخية متحررة من أي مدونة مسبقة. فيكفي أن تروي ما جرى ويجري ليلحظ القارئ العادي فضلا عن غيره أن هذه الرواية تقع أحداثها في حقبة تاريخية سادتها الخلافات العميقة بين مذاهب إسلامية كبرى، وفي مقدمة ذلك الخلاف السني الشيعي. وما ورد عن مصحف فاطمة (ص69 ) يؤكد لنا ذلك تأكيدا. 
أمر آخر يضفي على هذه الحكايات المتعددة الاتساق هو لغة السارد ولغة الشخوص في الحوار. ولأن الرواية رواية تاريخية فقد أجازت المؤلفة العجيلي لنفسها أن تقترب بلغة السرد من لغة العصر الذي تقع فيه الأحداث وتجري. فاللغة التي كتبت بها لغة كلاسيكية ولا يخفى على القارئ ما فيها من توعر في بعض الأحيان وهذا شيء ينكره المتلقي إنكارا شديدا لو أن الرواية لم تكن تاريخية. فها هي لبانة تخاطب عمر الذي ساعدها في تناول الطفل من المركب عند نزولها منه لليابسة قائلة: “شكرا لك ايها السيد، هلا أكملت جميلك، فأرسلت إلينا من يحملنا إلى نزل نرتاح فيه، أخشى أن حال الأماكن قد تحولت، وقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ” ص 13 فمثل هذا الحوار لا ريب في أنه يمعن في التوعر بحيث أن المتكلمة تسبتدل النزل بالفندق وتستبدل العناء والتعب بالنصب وتستبدل الاسم أو الشخص بكلمة أيها السد وهو تركيب لا يجري على السنة الناس عامة أو خاصة في الرواية المعاصرة، والذي يغفر للكاتبة هذا أنها رواية تاريخية. والحوار بين محبوبة صاحبة الفندق ولبانة يمضي على نسق واحد، فلا يجد القارئ فرقا بينه وبين الحوار الذي سبق ذكره. تقول لبانة في سرد ما جرى لها مع الزوج البغدادي: ” حينما كنت أدرس النسخ والترجمة في بيت زكا أحببت العالم الذي وفد إلينا من بغداد، وتزوجته، ورحلت معه، وهناك أنجبت قيسا، كنت سعيدة جدا، وكان هو من درر الرجال علما ودينا وخلقا، وقد ذاع صيته في بغداد، فأوفده الخليفة إلى خراسان ليقيم مكتبة هناك على شاكلة مكتبته في بغداد،فسافر وانقطعت عنا أخباره، مر على غيبته سنوات أربع وبقيت على أمل عودته، لكن أخبارا وصلت بأن المقام طاب له هناك، فبنى بامرأة خراسانية،يقول بعضهم هي ابنة الوالي والله أعلم. ” ص16
ومن يدقق النظر في هذا الحوار الذي يجري بين لبابة بطلة الرواية ومحبوبة يتوقف عند كلمات مثل: أنجبت، ومن درر الرجال، وطاب المقام، وبنى بامرأة خراسانية، وعبارة والله أعلم. وإذا أمعن في ذلك وتوقف إزاء التراكيب فسيلاحظ ما فيها من محاكاة لأساليب السرد القديم : من درر الرجال علما ودينا وخلقا.. ووانقطعت عنا أخباره، وولكن أخبارا وصلت، وقول الراوي في النهاية: والله أعلم ، فكل هذه التراكيب إنما تقرب لغة الكاتبة من السرد القديم لكنها في الوقت نفسه لغة لا تغيب عنها روح العصر؛ فهي في مواقع تمزج بين المستويين ففي هذا المشهد السردي نجد اللغة الكلاسيكية تتحلل من طابعها القديم التقليدي: ” كانت جائعة جدا وكان جسدها كله يؤلمها. وروحها كانت متعبة. ولم تكن تقوى على السير عكس الريح.. أكلت وغسلت وجهها ويديها بماء من ليمون وورد، حضَّره لها سليمان..الذي جلس إلى جوارها وأسند رأسها لصدره.. وطفق يمرر أصابعه على ظهرها رويدا رويدا..فاستسلمت لذلك الدفء كله.. ونامت مثل جنين أرهبته الحياة ففضل العودة إلى رحم أمه. “ص 56 فمثل هذا المشهد السردي يمثل اقترابا بالرواية من اللغة السائدة في السرد العربي الحديث. ومع ذلك فإن الشيء اللافت في الرواية هو تجانسها اللغوي بمعنى أن القارئ لا يجد فروقا كبيرة بين لغة المشهد الوصفي، أوالسردي، أو الحوار، أو الوصف. فالمؤلفة لا تفتأ تحاكي لغة السرد القديم دون أن تتورَّط في التصنع. 
على أن الرواية في نهاية الأمر تسرد التاريخ بوصفه حاضرا جرى إنجازه في الماضي وقد استعارت حكاية مصحف فاطمة والفتنة واستنجاد بني الأزرق بالروم(ص148) والإيقاع بين العامة وطالبي السلطة (ص149) واجتياح الجنود التابعين للوالي للرقة وظهور جثث بعض الصبايا في ماء الفرات وقد ألقين عاريات بعد أن جرى اغتصابهن (ص149) وما أعقب ذلك من كساد، وإغلاق الأسواق، وبدأت لبانة تفكر بالرحيل. وجاءها عبد الرحمن الطبرقي من حيث لا يعلم ليُيَسّر عليها أمر النزوح من الرقة أولا ، ومن دير زكا ثانيا، إلى طبرق، في إشارة رمزية لتخلي الكثيرين من أهالي الرق خاصة وسورية بصفة عامة عن مدينتهم الرائعة، وبلادهم الجميلة، ليستقر بهم المقام في المنافي هنا وهناك حيث لا يجدون المأوى الدافئ، ولا النسمة العذبة؛ فالرواية – بهذا المعنى – تروي حاضر سورية فيما يبدو أنه شيء حدث وجرى في الماضي، وهذه هي إحدى مزايا الرواية التاريخية في سجاد عجمي.

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *