هاشم غرايبة*
بيدر عدس. غرفتان مبنيتان من الحجر البازلتي يفتح باباهما تجاه الشرق ..
ثمة مرحاض يقف وحيدا على حافة البيدر، وما بينهما بنّاء (معمرجي) تقليدي يرسم مخططا لغرفتين إضافيتين على قفا علبة سجائر ماركة ‘ريم’ .. ويشرح خطته محركاً يديه في الهواء، ومخططا بقدمه على الأرض لتوضيح نواياه لصاحب البيت ..
تعابير وجه الرجلين صارمة أثناء النقاش.. هناك عاملان عند كومة رمل ابيض ينتظران نهاية النقاش بصبر نافد..
ثمة رجل مسن يجلس هادئا في ظل شجرة الكينا .. لكنه سيعترض في النهاية على القرار الذي سيتخذه صاحب البيت..
ودوى القصف..
فانطفأت حمرة الدحنون، وذبل الأقحوان، واصفر العشب، و’استوى العدس′..
في البدء قصف الرعد،
‘سبحان من سبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته’.
يهطل المطر مدراراً، ومع أول صحو، تخرج حوارة للمثلث، وبين الوديان الثلاثة (الصوا، وأبو حسن، والغربي) ينمو النبت ويتلون العيش بلون زاه لذيذ ريان.
دوى القصف: في الحرب الكونية الأولى
دوت مدفعية الأتراك، وقصف (الطوبجي) طلائع المتطوعين الذين تجمعوا هنا للحاق بالثورة ضد الأتراك.
في الحرب العالمية الثانية دوت طائرة انجليزية فوق المثلث فلوح لها جدي بعباءته وصاح:(اهوي ع اليهود اهوي).
لم تنقض طائرة الإنجليز على اليهود..
ما لبث أن قصف الديناميت صخور مثلث حوارة لتمر طريق حيفا بغداد الدولية.
تلاحق بعد ذلك قصف المثلث:
قصف الجيش العراقي هناك عام 1948.
قصف الجيش السوري هنا عام 1956.
عام1967 هدرت طائرات العدو الصهيوني قليلاً ولم تقصف. لكن القصف استمر بعدها طيلة السنوات التالية في حرب استنزاف للمثلث..
كان آخرها عام 1973.
الاثنين 5 حزيران 1967
الرياح الشرقية تثير حفنة رمل وتزحف مسرعة بين الدروب الترابية، تلم بضع أوراق يابسات ، وتنضم للجوقة أكياس فارغة، تسير الريح الهوينا.. ثم لا تلبث أن تتسارع حركتها وترتفع إلى الأعلى زوبعة نشطة..
يفرك الولد عينيه رافضا بإصرار التخلي عن الطائرة الورقية..
كنت ولدا يطيّر طيارة ورقية..
حافلة الأطفال الوهمية التي يقودها علي تنزاح إلى يمين الطريق مفسحة مساحة كافية لمرور طلائع القوات العراقية..
علي كان يمسك غطاء علبة معدنية صدئة، ويقود الحافلة المصنوعة من قطع قماش موصولة على شكل حبل مستطيل مشدود عند خصر ندى في آخر الحافلة،
سلمى وحسن في وسط الحافلة.. حسن يلتصق بها بخبث لا تخفيه نظارته المربوطة بدكة سروال حول رأسه.. لكن النظارة لا تخفي عينه الحولاء جيداً،
يطل الفتى صاحب الطيارة الورقية من خلف الحافلة مبتسماً لنفسه.
تقف ندى في مؤخرة الحافلة، تمسك خطي الحافلة الجانبين وتطلق صفيراً تحذيرياً للمارة المتوهمين.
تهدر طائرة على ارتفاع منخفض فوق رتل الحافلات العراقية المتجهة غربا مجتازة المثلث
ندى تنفض شبشبها ‘الزنوبا’ متخلصة من حصى الطريق، ثم تنتصب محافظة على انتظام الركاب داخل الحافلة المزعومة.
يندفع علي تجاهي متخلصاً من الحبل الذي يؤطر المجموعة.. ويطبل على الغطاء الصدئ :
الحرب .. ولعت الحرب’
تنهار حافلة الأطفال..
وتهوي طائرتي الورقية على بيدر العدس.
* أديب من الأردن
( عن القدس العربي )