التشيلي نيكانور بارّا :شاعرالأرباض الفقيرة


*محمّد محمّد الخطابي* – غرناطة

تحتضن المكتبة الوطنية الإسبانية بمدريد منذ 30 مايو المنصرم (2013)معرضا كبيرا حول الشّاعر التشيلي الذائع الصّيت نيكانور بارّا، ويضمّ هذا المعرض مختلف الأعمال الإبداعية لهذا الشّاعر الذي أثار كثيرا من الجدل حول نوعية الشّعر الذي يكتبه منذ سنوات طويلة، والذي لا يخضع للأشكال والأنماط التقليدية المتعارف عليها فى الشّعر الإسباني ، ومع ذلك حقّق شهرة واسعة فى العالم الناطق باللغة الإسبانية، كما يضمّ هذا المعرض العديد من الطبعات الأولى لأعماله، وبعض المخطوطات الأصلية للعديد من قصائده،فضلا عن فيديوهات مصوّرة حول مختلف مراحل عمرالشاعر وإبداعاته، ومن المنتظر ان يستمر هذا المعرض مفتوحا فى وجه الزوّار وعشّاق الأدب الأمريكي اللاتيني حتى فاتح سبتمبر القادم . ونقدّم بهذه المناسبة للقارئ الكريم عرضا حول هذا الشاعر الكبير.

يعتبر “نيكانور بارّا ” من أكبر شعراء شيلي في العصر الحديث ، وهو يقف في مصافّ كبار الكتاب والمبدعين في هذا البلد الأمريكي اللاتيني مثل بلديّته الشاعرة “غابرييلا ميسترال ” (التي كانت أوّل إمرأة والوحيدة حتى الآن التي تفوز بجائزة نوبل في الآداب العالمية في أمريكا اللاتينية عام 1945)، و”بابلو نيرودا”، و”بيثينتي ويدوبرو”، و”غونثالو روخاس”، و” إيسابيل أييّندي”، و”خورخي إدواردز” وسواهم . لقد أسهم الشّاعر “بارّا ” بقسط وافر فى إثراء وإغناء اللغة الشّعرية فى إسبانيا وفى مختلف بلدان أمريكا اللاتينية ،كما أنه يتمتّع بروح مرحة، وسخرية لاذعة، ونظرة نقدية ثاقبة للمجتمع والحياة.
شاعرالضواحي الفقيرة
يقول بارّا: ” إنني أرى هؤلاء الشعراء المعروفين بالبلاغة والتحذلق والتنميق اللفظي وكأنّهم جميعا متشابهون وهم يعدّون أو يبدون بذلك وكأنهم شاعر واحد “. يطالب بارّا إيلاء العناية بالشعراء الذين لا يقطنون الحواضرأو المدن الكبرى، أو ما يسمّى بلغة الهنود من سكان شيلي الأصليين “بشيّان “. ويقول: “إنه ما زال مسلحا من قمّة رأسه إلى أخمص قدميه لمناهضة ما يسمّى بالشعر المنمّق، أو ما يطلق عليه “باللغة الشعرية الخالصة” ، وهو مقابل هذه اللغة يوثر أو يميل الى إستعمال اللغة البسيطة والكلام اليومى المتداول بين الناس الذي يندرج تحت باب ما يسمّى بالسهل الممتنع، إذ يهمّه في المقام الأوّل ما يدور بين هؤلاء العامّة من حوار، وما تخالجهم من هموم، وما تملأهم من آمال، وتحدوهم من رغبات وتطلّعات.
يحبّ الشاعر نيكانور بارّا أن يسمّي نفسه بشاعر الضواحي و الأرباض الفقيرة والأحياء الخلفية للمدينة،وكان صديقه الراحل الشاعر”غونسالو روخاس”قد عبّرعن إعجابه بنيكانور بارّا وبشعره، وقال عنه: ” إنّه يعتبر من أكبر شعراء أمريكا اللاتينية، ويتميّز شعره بشكل خاص بالعنصر اللغوي الشفوي الدارج، وهو يقف بذلك مناهضا للشعر التقليدي الذي يراه موغلا في الرموز والشحوب والغموض،أو ما يسمّى بالشعر الأسود أو الميتافيزيقي” وقال “روخاس”مازحا عندما فاز “بارّا” في مناسبة أخرى سابقة بجائزة الملكة صوفيا للشّعر الإيبيروأمريكي منذ ما يقرب من عقدين من الزمان :” إنّ هذه الجائزة الشعرية الكبرى تليق بنا نحن الإثنين خاصة ونحن ما زلنا في ريعان شباب الثمانين حولا” ،(يبلغ الشاعر “نيكانوربارّا” اليوم99 عاما).
ضدّ التيّار
الشعراء الشباب يأخذون العبرة من هذا الشاعر الذي لا يتورّع من الإختلاط بالطبقات الكادحة والشرائح العسيفة فى المجتمع ،فكل شئ قد أصبح ينقل الى الضاحية أو الرّبض حتى الجوائز الكبرى مثل حالة “نيكانور بارّا ” نفسه، (والغرابة أنّ كلمة “الرّبض” بوضع اللام في آخرها المستعملة في شيلي والأرجنتين وفي باقي بلدان أمريكا اللاتينية الأخرى هي بنفس المعنى في اللغة العربية، إذ تنحدر هذه الكلمة من لغة الضّاد) .
ويقول “بارّا” إننا في الشّعر الجديد المتحرّر المناهض للشّعر التقليدي تسمع لنا أصوات متعدّدة ومتجدّدة ومتنوّعة، وليس صوتا واحدا متكرّرا، بمعنى أنّ الشاعر يغدو كاتبا دراميا ،و كاتبا مسرحيا وليس شاعرا وحسب، كما أنه بهذا المعنى هو ليس شاعرا واعظا ولا مبشّرا.
ويعلّق الشاعر الاسباني “خورخي رودريغيس بادرون “مازحا: ” انه من مفارقات الحياة أن يحظى الشاعر “بارّا” بهذه العناية الفائقة وهوالشاعر المناهض للشعر الكلاسيكي ، ويخشى أن يتحوّل بارّا بهذا الإطراء والثناء الى شاعر كلاسيكي بالفعل ، فقد كان يسبح دائما ضد التيار، إنه يتطلّع إلينا بمحيّاه المدبوغ وكأنهّ ملاكم قديم محترف . إنّ بعده عن الصرامة والجديّة يدنيه من روح السّخرية اللاذعة التى تميّزبها شعره السلس، وطبعه المرح في آن واحد، وإن شعر ما بعد الحداثة يسير عكس كلّ ما هو سام ورفيع وعاجيّ بحثا عن مواطن الهزل والتهكّم والإزدراء،وهكذا فلا شموخ الغناء الشّعرى عند صديقه وبلديّه “بابلو نيرودا”، ولا مهارة ولا حذاقة خليله “فيسنتي ويدوبرو” أمكنهما التأثير عليه وتغييرمساره و إتّجاهه الشعري،بل ظلّ موثرا ومخلصا وميّالا للتعبير التلقائي والعفوي البسيط للحياة الذي ربما قد إستوحاه من الشعر الانجليزي”.
انبعاث
ويشيرالناقد الاسباني”غريغوريو سالفادور” أنّ “بارّا” يمثّل في الوقت الراهن اتجاها شعريا متمرّدا ومتجدّدا حيال الأشكال والأنماط الشعرية التقليدية المتوارثة الأخرى. و قال الشاعر الاسباني الكبيرالرّاحل “خوسّيه ييرّو” إنه معجب بالالتزام الشّعري عند “بارّا” ، إلاّ أنّ أسلوبه المناهض للشعر التقليدي لا يروقه في شئ، ” إذ أن نقرض شعرا لا يشبه الشّعر لهو أمر لا أستسيغه ولا أفهمه ” .
والشّاعر “بارّا” سبق أن حصل على الجائزة الوطنية في الأدب التشيلي ، وعلى الجائزة الشعرية ” سانتياغو دي شيلي” ، وعلى الجائزة الدولية لكتّاب أمريكا اللاتينية ،و على جائزة ” خوان رولفو” الأدبية، وجائزة “سيرفانتيس” التي تعتبر بمثابة نوبل فى االآداب الإسبانية عام 2011 ، بالاضافة الى حصوله على العديد من الجوائز الهامة الشعرية والادبية الاخرى داخل بلاده شيلي وخارجها . من أعمال “نيكانور بارّا” “أغاني بدون عنوان “قصائد ،وقصائد مناهضة”، “العقبة الكأداء” ، “قميص القوّة “أوراق بارّا” ( علما أنّ كلمة “بارّا” وهي إسمه العائلي ، تعني في اللغة الاسبانية الكرمة أو الدالية أو العريش ، و” أوخاس دي بارّا ” معناها: ورق العنب).وقد نشرت مؤخرا أعماله الأدبية والشّعرية كاملة. وننقل الى لغة الضّاد فيما يلي(من ترجمة كاتب هذه السطور) إحدى قصائد بارّا ، وهي بعنوان ” إنبعاث”، يقول فيها : 
ذات مرّة، فى حديقة من حدائق نيويورك 
أقبلت نحوي حمامة
لتموت تحت قدمي
احتضرت بضع ثوان، ثمّ ماتت
إلاّ أنّ الذي حيّرني
وهو أمر لا يصدّق 
أنّها عادت للإنبعاث فورا
دون أن تمنحني وقتا للقيام بأيّ شئ
ثمّ انطلقت طائرة
كما لو أنّها لم تمت قطّ
من بعيد رنّت،أجراس نواقيس 
ومكثت أنا،أحدّق النظر فيها مشدوها 
وهي تحلّق في إتجاهات متعرّجة
بين مجسّمات المرمر
والبنايات الشامخات
مرّت بخلدي أشياء كثيرة 
كان يوما من أيّام الخريف
ولكنّه بدا لي يوما ربيعيا رائع
_______________
*كاتب من المغرب يقيم فى إسبانيا .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *