*مصطفى الرادِقي
(ثقافات)
” أنا هو الموتُ الذي يَجيءُ كالميلاد”.
( بُلَند الحَيْدَري)
” مَا لاَ يَقتلُني يَجعلُني أكثرَ قُوة “.
( نيتشه)
على سبيل التعريف:
يُعتبرالشاعر رفعت سلام (من مواليد 1951، خِرِّيج قسم الصحافة بجامعة القاهرة) أحد أبرز شعراء جيل السبعينات الشعري بمصر،إلى جانب كوكبة مُضيئة من مُجايليه،مثل حلمي سالم، و محمد إبراهيم عيد،وأمجد ريان، ومحمد آدم،وأحمد زرزور،وجمال القصاص…،وآخرين.أصدر مجموعة من الدواوين المتميزة ،بدءا من (وردة الفوضى الجميلة)،(إنها تومِىء لي)،(هكذا قلتُ للهاوية)،(إلى النهار الماضي)،(كأنها نهاية الأرض)،(حجَرٌ يطفو على الماء)…إلى آخر ديوان له(هكذا تكلم الكركدن) الصادر سنة 2012.
ترجم لكبار الشعراء العالميين،كبوشكين،و ماياكوفسكي،و ليرمينتوف،و ريتسوس،و كفافي،و بودلير،و رامبو..؛ كما كتب في مجال النقد الأدبي مجموعة من الدراسات القيمة ؛ وأسس وأصدر مجلة (كتابات أدبية)؛ وساهم في تأسيس مجلة ( إضاءة 77).
وهو حائز على جائزة كفافي الدولية للشعر عام 1993.
هنا قراءة أولية،عاشقة ومتواضعة، في ديوانه الشعري (إنها تومِىء لي ).
نَصُّ القِراءَة :
قراءة واحدة كانت كافية، بالنسبة لي، لكي أتلمّس شعرية هذا الديوان المُلتهبة. والذي يمكن حصر تيماته الأساسية فيما يلي: شعرية المواجهة – الإنقذاف في الهاوية – اقتحام الحياة والوجود- العلاقة مع الآخر(خاصة المرأة).
1 / – يهدرالخطاب الشعري لرفعت سلام صاخبا،مُدويا،في واقع مُتشظّ ،وزمن مرعب. وهوبهذا يؤشرعلى تاريخيته وانغراسه في الراهن،دون القول باستنساخ هذا الراهن مما قد يُسقط المقول الشعري في رؤية مرآوية أصبحتْ متجاوزة.
تتبدّى المواجهة من خلال إنجازالذات الشاعرة لفعل المشي في فضاء تُسيّجه الظلمة،ويميز تضاريسه التقعّر.فضاء محفوف بالمخاطر،حيث الموت يترصّد الخُطى،مما يرفع إيقاع الحركة إلى مستوى التحدي والمغامرة؛ وحيث لاتملكُ الذات إلا جرأتَها / جنونَها في التوكيد على حرية الإختلاف و شرعيته.
يقول :
أمشي”
على حدِّ انتصاف الليل
صاخبا
جريئا.”
ليل كبير “
وأشجارمن النحيب والعواء.”
أتركُ- في الوراء- غابة من الصراخ”
ومصّاصي الدماء
قطعانَ سُعارٍ وَعُواء.”
في المشي على الأرض؛في المشي في الحياة ترفع الذات براءتَها عاليا كعلامة على الإقتحام التراجيدي،والدخول إلى عالم الموت،تماما كأبطال المأساة الإغريق: برومثيوس،أورفيوس..أو كعقول جبارة سارت وهي تُنشد نشيدها الديونيزوسي الباذخ:سقراط،أمبدوقليس،نيتشه،كلايست..هذا الأخيرالذي كان يعتبرالموت كمجرد الإنتقال من غرفة إلى أخرى،نظرا لِعشقه إياه،حدَّ تمنيه لأصدقائه وأقاربه(أخته أولريكه) موتا جميلا ؛ ودعوتُه لبعضهم للموت صحبتَه.وهو ما تحقق له فعلا رفقة إحدى رفيقاته. حيث الموت الثوري- بالمعنى الوجودي والفني للكلمة- فرح واحتفال،قد يكون أجمل وأغنى من حياة تافهة ومجذبة تخنق الكائن بأثقالها الرهيبة.يقول كلايست:” الموت الرائع هو دائما أفضل الحيوات”(2). بهذه الرؤية النافذة لايصبح الموت ذلك الشبح المرعب والبشع والمُهاب الجانب،بل يتم إدماجُه في الحياة ذاتها، أو هو الوجه ُ الآخرُ لها ،وبالتالي النظرإليه كحقيقة بديهية تحمل دلالات خاصة،كما هوالأمر في الديانة البوذية مثلا،
يقول :
” وأمضي سادِرا
حتفي على كفي.
على خاصرة الأرض، أمضي
جميلا
كفاي: فارغتان
قلبي شاسعٌ للطعنة المفاجئة .”
التأهب الدائم للموت واستدعاؤه تحَدّ بطولي لعقليات الإرهاب والقتل الأعمى،حيث الظلام يُسيّج العقل والقلب،وحيث قانون الإستبداد يُعلي من نفسِه كحقيقة مطلقة،فيُلغي قيم الإبداع والحرية والإختلاف..ويُشرِّع للتحريم والإقصاء والتصفية.
2 / – يتّشِح اليومي في الديوان بوشاح المرارة كطعم وكإحساس مُستحكِميْن في تضاعيف وتلاوين الحياة.وعليه،تبدوالذات الشاعرة في ممارستها المريرة لحيويتها الوجودية وهي تكتوي بشواظ ولهيب الواقع،
يقول :
” حان موعدي المرير.
عاريا
أصوغ لي جهنّم الجديدة.
وقتي من حَميم.”
لا مناص إذاً،في واقع قاتم كهذا،من الإنقذاف في الهاوية كوجه آخرللجنون واللايقين،حيث الذات تبدوعارية،وكأنها تتحلّل من أثقالها البالية وتنخرط في البحث*
عن أشكال حياتية جديدة تتّسم بالعمق والإمتلاء.
يقول :
” كنتُ ألهو برماد الوقت،وقتا
وأهوي في سماء من هشيم.
قشة
فقشة من الهباء
أبْتَني عشي الوريف
على سماء الهاوية.
وأهْمي:
حَجرَانطفاء.
فأهوي- في انكسارالوقت-
وقتا شائكا.”
3 / – ماذا يتبقّى للشاعر في سفره المُغامِر،أوديسّاه النبيلة؟*
لاشيء،غيرمراراته المُتّشحة بالسخرية.
يقول :
” وتُغمِضان العين
كي أهوي
على انتصافِ الويْل
ضاحكا
مُضيئا.”
فالراهنُ الذي تمّ تسميمُه لايتّسع له ،مما يفتحُ الآتي على العزلة و الغربة والإغتراب،
يقول:
” لا آن لي
ولي: آنٌ قتيل.
وحيدا
خُطايَ تمضي بي إلى الغريب.”
ويَضيقُ عنه الوجود إلى حدّ الإختناق،فلا يبقى له من مَلاذ يستأنس به إلا أشياءَه الحميمة:السيجارة،فنجان القهوة،والسيدة المُراوِدة:القصيدة؛دون نسيان فضاء الحانة حيث يحتفي الشاعر بالحياة.
هذه الأشياء الصغيرة،في ظل الرعب والقتامة المُخيِّميْن على الذوات والأمكنة،تأخذ ممارستُها بُعدَ الإقتحام للتدليل على الحق في الإختلاف،والإقامة في أُتون الخطر(عِشوا في خطر،ابنوا مدنكم بجوار البركان) على حدّ تعبيرنيتشه .
يقول :
” طافيا
ألهو بأشيائي الصغيرة
أشعلُ الكبريت في الوقت الهباء.”
وأيضا:
” نسيتُ فيها جسدي
وتاريخي
وأشيائي الصغيرة.”(ص70)
هكذا: استندتُ إلى فضائي
لملمتُ أشيائي.”
4 /- تتلامح صورة المرأة في ديوان رفعت سلام صورةً مُركّبة، على أكثر من مستوى، مُلتبسة، يصعب القبض عليها ،إذ تُراوح بين الواقعي والأسطوري.كتجارب حياتية، في ارتباطها بصياغة ذاكرة جديدة، وكحُلم . تارة يأتي التعبيرعنها بصيغة جمع التنكيرغيرالمُتعيّن : عاريا : / أصوغ ذاكرة جديدة./ أدسُّ فيها مَن سيُقتلون في الصباح،/ و ما تيسّر من نساء حامضات،/ و ما سيسقُط في يدي من شائعات،/ (ص18) ؛ و تارة بصيغة المفرد الغائب.
وفي كلتا الحالتين، فهي تقترن بأجواء الشبق:( تُرخي عليّ ماءَها،/ وتَهْمي شهوةً مقتولة .) ص24.( فتدخُلني شِراكٌ من شَبَق .) ص33
وأجواء الدفء والفقد :(ثم تدخُلني- رويدا- وردةً من النعاس والجنون.)ص 31 (مَرأة ظل./ آوي إليها في القيلولة )ص95
( هل أنتِ سيدتي القتيلة،/ أم غمامٌ مارقٌ من لسعةِ الخنجر؟)ص17
( كانتْ تُرفرفُ في فضائي:/ حقلا من الليمونِ والسَّلوى / و غيمةً من الحُلم الطفيف./ لا أذكرُ الآنَ وداعا أو دُموعا.)ص36
و أجواء المأساة 🙁 تُبيحُنِي./ و بيننا احتِضارٌ مُرْجَأ،/ بيننا عَصْفٌ وَبيل .)ص26
(سنلْتقي في الأمس،/ حين ينفجرُ الفضاءُ / إلى عزاء .)ص33
( هل أُسميكِ خسارتي القادمة ؟)ص68. ( على هاويةٍ / يلتقيان .)ص 107
و أجواء التيه 🙁 امرأةٌ تُشابهُ وردةَ التّوَهان .)ص55
و أجواء النهوض:( لي في كل مَرأةٍ قيامة.)ص37
و يُعمِلُ رفعت سلام إزميلَ اللغة الشعرية، لِينحتَ ببراعةٍ فائقة شكلَ امرأتِه ،مُحدِّداً نتوءاتِها وأبعادِها،مازجا بين المتخيل والواقعي،في صُوَرٍ رمزية ،شفافة وآسِرة :
(صوتُها العادي/ يُطلقُ في فضائي زُرقةً والِغة،/ وأسرابَ سرابٍ دامِغة )ص33
( خِصرُها يَختصرُالأرض،/ ويُفضي لِسماواتٍ أُخَر/…./ لي مَرأةٌ من مَطر.)ص43
(فراشة مُرتعشة / تَحُط فوق أطلالٍ من الشموس الغاربة./…./ وتَرْمِيني بِمرأةٍ من الصهيل .)ص58
( جسدٌ من لاَرَنج )ص89. (لأصابعِها طعْمُ الصباح. ولَها ليْلٌ يَجهلُ الظلمة )ص90
(مَرأةٌ / تَختصرُ/ سبعة آلآف سنة / منْ نِساء )ص107
في المحصلة، مَن هي يا تُرى هذه المرأة البادخة، المُستعصِيَة،و المُؤججة لكيان الشاعر المُلتهِب ؟ أ هيَ القصيدة ؟ (ماجَتْ- هنيهة- وفَرّتْ./ و في يدي: / رمادُها استلقى وَنامْ.)ص10
أ هيَ المرحلة ؟ (ليست امرأة./ هيَ وقت :/ وقتي )ص99
أ هيَ المَحْروسَة مصر، أرض الكِنانة وما تحبَل به من مَخاضات؟ ( ذاكرَةٌ تَحتلُّ مَرأةً فادحة / مَن يُحررُها؟)ص92
أمْ هيَ كلُّ هذا ؟ مُشَكِّلةً أيقونةً مُنسجمَة ومُتكامِلة لا تخلو من فوضى. لِنَقُلْ هي جمالية الفوضى الخلاّقة التي تَليقُ بقصيدة النثر: ( لَمْ تَقُلْ شيئاً ،/ وغابتْ في حقولِ السّهْو و الفوْضَى.)ص13
_ على سبيل الخَتْم :
ديوان رفعت سلام ( إنها تومِيءُ لي )، كتاب شعري ثري و عميق؛ لغتُه مُشفّرَة ، تُلمِّح أكثرمما تُصرِّح،ومن الأكيد أنه سيمنح قارئه الفَطِن والمُنصِت، أكثر من مُتعة : مُتعة الكتابة الشعرية ،وما تُحيلُ عليه من دلالات مُنفتحة على أكثرمن أفق .وعليه ،فهو يحتاج إلى أكثر من قراءة مُنتِجة و مُخصِّبة .
_ المراجع: (1) – ديوان ” إنها تومِيءُ لي” ، سلسلة نوافذ ، القاهرة 1993
(2)_ ستيفان زفايغ : ” الصراع ضد الشر” ، ص 88.
____________________
*(شاعر و مترجم من المغرب)