حوار : إيهاب الملاح
منذ صدورها منتصف العام المنصرم، ورواية “يا مريم” للروائي والشاعر العراقي سنان أنطون لا تكف عن حصد الانطباعات والآراء الطيبة والتقدير والإعجاب الشديدين بفنيتها العالية ولغتها الخاصة، وخلال أقل من عام استطاعت الرواية أن تراكم حولها خطابا نقديا محترما، مشيدا بها وبكاتبها الذي رسخ اسمه في المشهد الروائي العربي، كأحد أهم الروائيين العراقيين على الساحة حاليا.
شخصيات “يا مريم” الرئيسية عاشت فترة تفاقم الاحتقان الطائفي والعنف ضد المسيحيين في السنين الأخيرة، وهي تتعرض لموضوعة العنف والخطاب العنصري، لكنها، وبحسب كاتبها ذاته “لا تقدم رؤية أحادية للموضوع بل رؤيتين تتعارضان. واحدة ترى تاريخا من الاضطهاد والقمع ولا تؤمن بإمكانية التعايش مع المسلمين، والأخرى تحمل الأمل وترى الأحداث الدامية في السنين الأخيرة من منظار سياسي لا ديني”.
“يا مريم” رواية الهم العراقي ومحنة الأقليات الدينية، حلت في القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لهذا العام، حيث تبدو قوة الرواية في نسيجها المتماسك رغم أنها ليست في حقيقتها إلا حصاد ذكريات تنتهي بمأساة كنيسة النجاة عام 2010، براعة كاتبها في التمهيد لهذه اللحظة من زاويتين للنظر في أوضاع المسيحيين بالعراق: يوسف العجوز الذي عاش سنوات أكثر تسامحاً، يرفض الهجرة متمسكاً بالبيت والذكريات، ومها الشابة التي تحلم بالهروب مع زوجها، بعد أن فقدت جنينها في حادث إرهابي، وبعد تهجير عائلتها من بغداد.
هنا حوار مع سنان أنطون حول عمله السردي:
◆ سنان أنطون ينتمي لجيل روائي عراقي مهاجر، عانى تجربة الهجرة الاضطرارية ونضجت كتابته على نار التهميش والقمع. ما السياق الذي تشكل فيه هذا الجيل من الكتاب؟
◆ ◆ في بلد مثل العراق عصف به التاريخ بلا رحمة في العقود الثلاثة الأخيرة، وشرّد الملايين من مواطنيه، ومنهم الكتّاب، في المنافي، يصعب وضع حدود فاصلة ومحددة لإشكالية تصنيف الأجيال، أو فكرة التحقيب عموما، خصوصا مع قمع السلطة ووحشيتها في السبعينات وحتى التسعينات من القرن الماضي التي شهدت سني الحصار الاقتصادي الإجرامي الذي فتك بالعراقيين وحطم نسيجهم الاجتماعي، وصولاً إلى الغزو والاحتلال والاقتتال الطائفي.
أضف إلى كل هذا أن الثقافة العراقية في الداخل كانت تحت وطأة منظومة الحزب الأوحد والقائد الضرورة وأدب الحرب؛ أي أن الإبداع الحقيقي كان محاصرًا ومقيدًا. أما في المنافي فكان هناك تهميش من نوع آخر. الحرب الأخيرة والغزو دمّر مؤسسات الدولة التي كانت ملكاً للشعب وليس للنظام، ولم يبن محلها مؤسسات تعمل. والحقل الثقافي بالذات وصل وضعه إلى الحضيض. يكفي أن نقول إن وزير الدفاع هو وزير الثقافة حاليا!
الكاتب، كالمواطن، يعمل في ظروف قاهرة واستثنائية، كل هذا ضروري لنفهم السياق العام الذي يتم في إطاره الإنتاج الثقافي في الداخل؛ لأن الأدب والإنتاج الثقافي لا يحدث في فراغ. لذا من الضروري أن نفهم الأطر التي ينتج من خلالها، كل هذا التعقيد والظروف التاريخية أنتج أيضا فوضى وضبابية في محاولات قراءة المشهد المعقد.
الكثير من الأسماء التي ظهرت مؤخراً تستفيد من تراث ثقافي غني ومن “رواية عراقية” لها جذورها وأعلامها، كما تستفيد من اطلاعها وانفتاحها على الأدب العالمي. لكن ظل الكوارث التي حلت بالعراق وأهله يخيم على هموم وهواجس الكثيرين وهذا سيف ذو حدّين.
النقد العربي يهمل الثقافة العراقية، وخصوصاً الرواية، وفي ذلك إجحاف وخسارة كبيرة. لكنني أقول إن الرواية العراقية قادمة وبقوة ولأسباب موضوعية وسيضطر النقاد إلى الاهتمام بها.
◆ وبم تفسر غلبة الهاجس الطائفي ومعالجاته في الرواية العراقية المعاصرة؟
◆ ◆ موضوع “الطائفية” وانعكاساتها هو الموضوع الأهم في العراق، وحتى في المنطقة كلها اليوم. هناك “فقدان ذاكرة جمعي” مخيف واضطراب في العراق؛ بسبب تدمير وتفكك الدولة وتلف النسيج الاجتماعي الذي أنتجته الديكتاتورية والغزو والاحتلال والحرب الأهلية. هناك حكايات تضيع وتنسى وتواريخ تمحى وتزيّف. وأنا مهووس بموضوع الذاكرة، ومحو التاريخ وإعادة كتابته، وضياع أصوات المهمّشين.
◆ “يا مريم” رواية أثارت الشجون والمواجع في نفوس كثيرين الذين تفاعلوا معها وتأثروا بها. كيف أعددت للرواية؟
◆ ◆ الرواية باختصار هي امتداد بصورة أو أخرى لـ “وحدها شجرة الرمان” التي كانت تبحث عن وضع المهمشين في عراق صدام حسين، أما في “يا مريم” فتقوم على الموازاة بين صوتين، أحدهما يبحث عن عراق “كان”، والصوت الآخر يحاول الفرار من العراق “الآن”.
جدل “يوسف ومها” يفتتح الرواية، وفراقهما يختمها، لا الماضي استطاع أن ينقذ الحاضر، ولا الحاضر قادر على أن ينطلق إلى المستقبل، “اغتراب يوسف” مثل “اغتراب مها” وإن اختلف رد الفعل، يحلم بكابوس يتحول فيه منزله إلى متحف، عندما يشرح للزائرين بقايا آثاره، يزيحه رجل غامض يتولى الشرح بدلا منه، وتحلم هي بأنها تحاول أن تسقي طفلها من سحابة لا تصل أبداً إلى مائها، فتسقيه من دموعها، لا يبقى للاثنين في النهاية سوى الصلاة لسيدة الآلام والنجاة، والهتاف باسمها: “يا مريم”.
هذا الخط استدعى المفارقة اللافتة التي بنيت عليها الرواية بين صوتي السرد الرئيسيين بها. حيث رؤيتان متناقضتان تماما لشخصيتين تنتميان لعائلة عراقية مسيحية، تجمعهما ظروف العراق الحاضر تحت سقف بيت واحد في بغداد.
شرعت في كتابة الرواية في صيف العام 2010، حيث بدأت بشخصية “يوسف” العجوز التي كانت تراودني منذ زمن بعيد، وكنت أتمنى أن أكتب عنها. شخصية “يوسف” استوحيتها من شخصية أحد أقاربي، كان وحيدا ويمكث في بيته الذي بناه، وهو بيت العائلة في الوقت ذاته، معظم الوقت. بعد رحيل الجميع وهجرتهم بسبب ظروف الحصار والحرب، يرفض هو مغادرة البيت الذي بناه في بغداد، يتمسك بالبقاء ويتشبث بجذوره وتاريخه وذكرياته، منتظرا الموت في المكان الذي شهد ميلاده.
في خريف العام ذاته وقع الهجوم على كنيسة معروفة في بغداد هي كنيسة “سيدة النجاة” قتل فيه الكثيرون وتم احتجاز المصلين كرهائن لساعات، كان لهذا الحدث تأثير كبير عليّ شخصيا وعلى أحداث القسم الأخير من الرواية.
◆ “يا مريم” حققت نجاحا كبيرا وحظيت باحتفاء لافت في الأوساط الأدبية والنقدية ومن قبلها نالت “وحدها شجرة الرمان”. كيف ترى استقبال القراء والنقاد لأعمالك؟
◆ ◆ “يا مريم”، منذ طبعتها الأولى (صدر منها حتى الآن ثلاث طبعات والرابعة في الطريق)، والتعليقات والمراجعات عليها لا تنقطع، وهي في مجملها إيجابية جدا ومشجعة، وقد كتب عنها كثيرون من العراق وخارجه، نقاد ومثقفون ومحررو الصحف الثقافية وقراء عاديون. وكلهم أبدوا إعجابهم بالرواية وأشادوا بها. مما يسعدني جدا ويفرحني كثيرا ما أتلقاه كل يوم من رسائل على بريدي الإلكتروني من مناطق وبلدان عربية مختلفة، يعربون فيها عن شعورهم تجاه الرواية، وإعجابهم بها، بالتأكيد هذا يرضيني ويفرحني. المراجعات إيجابية جداً إلى الآن وقد كتب عنها نقاد عراقيون وعرب وأشادوا بها.
وهناك دائماً توجّس بعد الانتهاء من كتابة عمل ما، كما أن هناك أملا بأن يلقى صدى طيبا، وحالة من الترقب لردود الأفعال. ما لقيته “يا مريم”، ومن قبلها “وحدها شجرة الرمان” من حفاوة وإقبال وحماس كبير من النقاد والقراء معا، يضاعف المسؤولية على الكاتب ويرفع من سقف التوقعات والطموحات إلى مدى أكبر.
◆ في الكتابة والإبداع والفن “لكل شيخ طريقة”، ولكل كاتب تصور خاص عن مغزى كتابته والهدف منها، والرسائل التي يبتغي إيصالها إلى قرائه. ماذا تمثل الكتابة لك وللعالم من حولك؟
◆ ◆ أحدهم قال ذات مرة إن “الموسيقى تغسل غبار الحياة اليومية”، وهذا ينطبق على الفن والأدب أيضا، كما أن الحيز الثقافي يتفاعل دائماً مع الحيز الاجتماعي والسياسي، وهذه جدلية أساسية. كل فعل إنساني وإبداعي له “تأثير” ما على المتلقي، وبالتالي فهو يصب في النهر الكبير الهادر. تمثيل الحياة، كما هي، أو كما كانت عليه في الماضي القريب أو البعيد، وكما يجب أن تكون، هو حاجة ماسّة للبشر.
لا أريد أن أضخّم دور الكاتب أو الروائي، ولكن لا يمكن لأحد أن يلغيه. أما جدوى الكتابة لديّ، فإنها من القليل الذي يعطي حياتي، معنى. ولا أتخيل مغزى وجودي هنا بدون كتابة وإبداع؛ لأنني أتحاور من خلالها مع العالم ومع الموتى والأحياء. أراني أنقش على كهف الوجود رسومي لكي يراها الآخرون وهم يمرون في هذا النفق. ليست هناك رسائل محددة، هناك “حيوات” وهناك “حكايات” تتبلور فيها ومنها. لا أعرف عن صنع المستقبل، فأنا مشغول في رثاء الحاضر في معظم الأحيان!
◆ ما الجديد الذي يسعى أنطون إلى تقديمه عقب “يا مريم”؟
◆ ◆ قبل أن أشرع في كتابة رواية “وحدها شجرة الرمان” كان ثمة رواية قبلها شرعت فيها واكتمل فصل منها، بالتحديد في 2007، حيث كنت بدأت التخطيط لها. لكنني وجدتني أتوقف فجأة وأنصرف عن كتابتها إلى “وحدها شجرة الرمان”. حاليا أعود إلى تلك الرواية المهجورة، وأعكف على كتابتها من جديد.
( الاتحاد الثقافي )