قراءة تأويليّة في خطاب أمين معلوف الفكريّ والسردي


*د. ضياء الكعبي

تشكّل الهويات السردية seititnedI evitarraN بتنوعاتها وتمثيلاتها الثقافية الخطاب المركزي في مشروع الروائي اللبنانيّ أمين معلوف؛ إذ تمثل رواياته: «القرن الأول بعد بياتريس» و«سمرقند» و«صخرة طانيوس» و«ليون الإفريقي» و«حدائق النور» و«موانئ المشرق» و«رحلة بالداسار» جدل الهويات القاتلة وتمثيلاتها وتحبيكاتها الثقافية وتأويلاتها. 

تسعى هذه الدراسة لرصد هدفين أساسيين: الأول تحليل خطاب الهويات السردية كما أطّرها معلوف نظريًا بخاصة في كتبه الأربعة: «الحروب الصليبية كما رآها العرب» و«الهويات القاتلة» و«بدايات» وكتابه الأخير «اختلال العالم» الذي يوظف فيه مصطلح «تجاوز الحضارات» في دعوته لاندماج الحضارات وانصهارها في بوتقة واحدة دون النظر إلى المحددات الضيقة التي تؤدي إلى خلل العالم مثل: اللون والعرق والدين والطائفة والطبقة. أمّا الهدف الآخر لهذه الدراسة فهو رصد وتحليل تحبيك أمين معلوف الثقافي واختلاقاته السردية لتواريخ الأمم والشعوب والثقافات والحضارات والديانات وتأويلاتها في رواياته الممتدة ونخص بالذكر روايته «ليون الإفريقي» من خلال توظيفه لشخصية الحسن بن الوزّان متعددة الهويات المركبة والمعقدة في آن واحد إلى جانب مواضيع رواياته الأخرى وشخوصها القائمة أساساً على هذه النظرة الكونية الجامعة للهويات.
تستفيد الدراسة من مقاربات منظري ما بعد الحداثة وما بعد الكولونيالية في دراستهم للهويات ما بعد الحداثة ولا سيّما التاريخ في تعالقه وتقاطعه مع الهويات المختلقة والمحبوكة عند طائفة من المنظرين والنقاد والفلاسفة والمؤرخين في سياق ما بعد الحداثة مثل: بول ريكور وهايدن وايت وإدوارد سعيد وسواهم ممن اشتغلوا بصناعة التأويل وتشكلّات الهويات وتفكيك السرديات الكبرى والتعددية الثقافية، كما تستفيد هذه القراءة كذلك من منجزات الدراسات التأويلية والدراسات الثقافية والنقد الثقافي.
التأسيس الأول: في تحبيك التاريخ وتأويله:
يبين هايدن وايت etihW َملٌّفب أن التاريخانية الجديدة نظام ثقاف metsys larutluc ينظر إلى النص في تناصه مع السياقات الثقافية والاجتماعية. كما أنّ التاريخانية الجديدة تستفيد من مقاربات الباحثين في سوسيولوجية الثقافة erutluc_oicos ومنظري النسوية والثقافة المادية tsilairetam larutluc وغيرها من المقاربات الأخرى. etihW،293 مما يؤكد تقاطع التاريخ في هذه الدراسات وانفتاحه على عدد من الدراسات البينية .seidutS yranilpicsidretnI
تحوَّل التاريخ في التاريخانية الجديدةmsicirotsiH weN ehT ودراسات مابعد الكولونيالية msicilainoloC_tsoP من الاهتمام بدراسة المركز إلى دراسة تاريخ الهامشيين وما أسماه بعض الباحثين(بالتاريخ المُفتت). إذ يذكر فرانسوا دوس essoD.F أن خطاب التاريخ الجديد يقدم «تاريخاً ثقافياً وإثنوغرافياً بالأساس. وهو وصف باهر للثقافة المادية ضمن مقاربة رومانسية جديدة يجالس فيها المجانين الساحرات، وتحل فيها الهوامش محل المركز وتقدم فيها الجمالية الجديدة وجهاً مغايراً للسلطة التكنوقراطية المحيطة (…) وهذا التاريخ يستبطن الأحلام الجوفاء والمكبوتات ليحقق إجماعاً حول بناء حداثتنا. ومهمة المؤرخ هي أن يجمع كل أولئك المنحرفين ليأتي بهم إلى محيط خليط حيث لكل واحد مكانه ضمن مجموعة اجتماعية خالية من التناقضات». (فرانسوا دوس،373). وفي بحثه عن «تاريخ الهامشيين» يساءل جان كلود شميت timehcS edulC naeJ تاريخاً رسمياً زوأدبا عاِلماً زمركزياً لسير السلالات الحاكمة الأوروبيّة والسجلات المكتوبة لتواريخ الكنيسة ورجالاتها. وهو ما شكّل ثقافة المركز في حين غُيِّبت وأُقصيت ثقافة الهوامش لأنّها لا تندرج في أنساق ثقافات المتون والتواريخ الرسميّة. «فقد كان التاريخ قبل كل شيء عملاً تبريرياً للتطورات التي شهدتها العقيدة أو العقل، وللتطورات التي عرفها النفوذ الملكي أو النفوذ البورجوازي. لذلك ظل التاريخ يُكتب، لفترة طويلة من الزمن، انطلاقاً من «المركز» لأنه يبدو أن الأدوار التي تقوم بها نخب السلطة والثروة أو الثقافة هي التي كانت وحدها تحتسب. وتتلخص تواريخ الشعوب في تاريخ السلالات الحاكمة والتاريخ الديني في تاريخ الكنيسة ورجالها. وليس ثمة أدب خارج ما يكتبه كبار الكتاب وخارج الآداب العالمة» (شميت،437).
أنتج منظور ما بعد الحداثة اشتغالاً تاريخياً مغايراً لما كان سائداً في مدرسة الحوليات التاريخية التي كانت مهيمنة في مجال كتابة التاريخ الأوروبي وتأريخه. وقد وفّر هذا الاشتغال وهذا المنظور المغاير عناية كبرى بتواريخ الهوامش والتوابع والهويات وبخاصة أن عدداً لا بأس به من منظري ما بعد الحداثة ومابعد الكولونيالية يأتون من عرقيات آسيوية مما يكسر طوق المركزية الغربية النقدية. ويحضر في هذا المجال أسماء كل من إدوارد سعيد وهومي باباahbahB imoH وإعجاز أحمد وجياتري سبيفاك kavipS irtayaG وبارتا تشاتيرجي eejretthaC ahtraP وغيرهم. والجدير بالذكر أن كلا من هومي بابا وسبيفاك وديبيش تشاكرابارتي ytrabarkahC hsepiD يصنفون ضمن مدرسة أو جماعة دراسات التابع seidutS nretlabuS. «وقد انطلقت هذه الجماعة من دراسة الدور التاريخي للجماعات التابعة مثل الفلاحين والعمال والنساء في صناعة التاريخ الهندي، وهو دور تجاهله المؤرخون الغربيون والهنود ذوو التوجه القومي إلى الاهتمام بمسألة أوسع هي كتابة تاريخ الهند أو مناطق أخرى غير غربية بأشكال تخالف وتنتقد رؤية للعالم تتخذ من أوروبا مركزاً ومحوراً لها» (ميتشل،100). «وهذه الجماعة تقوم بتفكيك التاريخ انطلاقاً من تحليل الخطاب المضاد للكولونيالية الغربية ومن خلال دراسة التاريخ بوصفه استراتيجية خضعت للعبة السلطة وللعبة القوة التي مثّلها مؤرخو التاريخ الرسمي» (سبيفاك، 138). وإلى جانب هؤلاء النقاد شكّل الخروج على المركزيات التاريخية عمل عدد من المنظرين والنقاد والفلاسفة والمؤرخين الأوروبيين والأمريكيين مثل ميشيل فوكو tluacuoF lehciM وجاك دريدا adirreD وجيل دولوRezueleD وبول ريكورdruociR وهايدن وايت وتودوروف vorodoT وغيرهم.
ـ في سردية التاريخ وتحبيكه من منظور ما بعد الحداثة: 
ليس التاريخ حوادث ووقائع مجردة من سياق السرد والقص والتأويل ولا سيما سرد الهويات من منظور ما بعد الحداثة؛ فقد جعل هومي بابا الأمم مثل السرد الذي يفقد أصوله وجذوره في خضم الزمن وأساطيره ولا تستعيد أفقها إلا في الخيالس.فوقفو،1). وهذه الصورة للسرد، كما يرى هومي بابا، ربما تبدو قريبة الشبه من الرؤية الرومنطيقية كما أنها قد تحمل نوعاً من أنواع المفارقة. ولكنها رؤية متواشجة مستمدة من تقاليد الفكر السياسي ومن اللغة الأدبية في الفكر الغربي. كما أن هذه الرؤية تنظر إلى تاريخ الأمة بوصفه قوة رمزية. بيد أن هذا لا يعني الاحتفاء بالخطابات القومية التي تنظر إلى سرد الأمة بوصفه سرداً لانهائياً للتقدم القومي. ولكنه يعني من منظور عالمي أو كوني أشمل قوة السرد وروحه المؤثرة التي تملكها أية أمة من الأمم. فوقفو، .1 وقد أشار إدوارد سعيد في تعليقه على الكتاب الذي حرّره بابا عن (الأمة والسرد) أنَّ «القوة على ممارسة السرد أو على منع سرديات أخرى من أن تتكون وتبزغ لكبيرة الأهمية بالنسبة للثقافة والإمبريالية. وهي تشكّل إحدى الروابط الرئيسة بينهما. والأكثر أهمية هو أن السرديات الجليلة الكبرى للتحرر والتنوير قد جنَّدت الشعوب في العالم المستعمَر وحفزتها على الانتفاض وخلع نير الإمبريالية. وخلال هذه العملية هزّت تلك القصص وأبطالها العديد من الأوروبيين والأمريكيين أيضاً فقاموا بدورهم بالصراع من أجل سرديات جديدة للمساواة والروح المجتمعية الإنسانية». (سعيد،17,1997). ويطلق هومي بابا على عملية السرد التي يسرد فيها المؤرخ حوادث التاريخ مصط gnitarran مستشهداً ببنديكيت آندرسون nosrednA tcideneB‘ سرده «للجماعات المتخيلة seitinummoc denigamiS¢ ahbah،.1 في حين يوظف كل من هايدن وايت وبول ريكور مصطلحا (التحبيك) tnemyolpmE و(الهوية السردية) .ytitnedI evitarraN والهوية السردية كما يعرفها ريكور قائمة على التشكلال بواسطة تأويل ومتوسطات قرائية يتشابك فيها الماضي بالتاريخ «ففهم الذات هو عملية تأويل، وتأويل الذات بدوره يجد في السرد واسطة بامتياز مفضلاً إياه على بقية الإشارات والعلامات والرموز. والسرد يقتبس من التاريخ بقدر ما يقتبس من القصص الخيالية، جاعلاً من تاريخ حياة قصة خيالية، أو إذا شئنا قصة تاريخية، شابكاً أسلوب العمل التاريخي الحقيقي للسير بالأسلوب الروائي للسير الذاتية الخيالية». (ريكور، 251,2005).
وفي التأويل التاريخي للنص يشير ريكور إلى مفهوم «تملك المعنى»، فمتلقي النص يأتي إليه مزوداً بأعراف مجتمعه وتقاليده القرائية والثقافية. وهكذا يتقابل أفقان لفهم النص: أفق النص الذي أودع فيه وأفق القارئ الذي يريد فتحه على المستقبل. وينصهر هذان الأفقان ليولدا عملية القراءة في تملك المعنى وفهمه. (ريكور،2003 ،17). ويقترب هذا الفهم للتأويل التاريخي مع فهم بول ب.آرمسترون gnortsmrA في حديثه عن دورة اللولب والتاريخ، «إذ لا يقدم التاريخ أرضية محايدة خارج نظرية المعرفة؛ فالتاريخ نفسه تشكيلة هرمنيوطيقية وكل المعارك الخاصة بمصداقية التأويل تعود حين نطرح السؤال عن كيفية تكونها (…) وكل التحليلات التاريخية سرديات محكومة بفهم سابق على التصوّر المجازي بخصوص العناصر المناسبة للموضوع وكيفية جمعها معاً في الحقل المدروس. ويمكن للسرديات المختلفة التي تفضل روايتها مختلف الأجيال عن الأحداث نفسها أن تتغير لأن الفهم يجلب معه لقاء بين أفقي الماضي والحاضر يتنوع فيه معنى الماضي على وفق الفرضيات المسبقة والمصالح المختلفة التي تعرف وجهة نظر الحاضر. لهذا السبب فإنَّ فعل تأويل عمل أدبي هو نفسه متغير تاريخياً». (آرمسترونغ،133,132). وربّما يفسر هذا سبب سرد المؤرخين قصصاً مختلفة. 
وإذا كان المؤرخون يتباينون في تحبيكهم السردي للتاريخ أي في تأويلاتهم فإن الأخطر من هذا كله هو محاولة الجماعة تملك أو استملاك التاريخ الخاص بها أو استعادة هذا الاستملاك كما يرى ريكور. «فلقد كانت الذاكرة الفردية ذاكرة الشاهد هي الرحم الذي وُلِدَ منه التاريخ، ثم سُجِلَت شهادة الشاهد ودخلت الأرشيف المخيف بحجمه وتنوّعه. وجاء المؤرخ كي يعيد إلى المجموعة تصوراً أو بالأحرى تمثيلاً حقيقياً للماضي يضعه أمام الأمة كي تكون عندها ذاكرة جماعية جاءتها من هذا الذي لم يعد قائماً ولا نستطيع أن نستعيده وتتحقق من صدق هذه الاستعادة». (ريكور،18,2009).
ولعلّ هذا الاستملاك الرمزي الجماعي للتاريخ هو ما يجعل الشعوب تحاول إنتاج مروياتها السردية الكبرى أو اختلاق سردياتها الكبرى التي تنتج هي تمثيلاتها الثقافيّة الرمزيّة من أجل الدفاع عن هويتها وتلفيق «تاريخ خاص بها» في معظم الأحيان. والمرويات الكبرى هي إحدى الطرائق المركزيّة التي يتشكل ويتضح بها المخيال الاجتماعيّ لشعب ما. وهي «كبرى» لأنّ ما ترويه هو عمل المخيال الاجتماعيّ نفسه الذي قد يكون منسوجاً نسجاً رمزياً كما يذكر كورنيليوس كاستوريادي sidairotsaC suilenroC «إذ إن المجتمع بما في ذلك سلطاته مؤسس تأسيساً رمزياً مجازيا» (كاستورياديس،180).
ينظر بول ريكور إلى التاريخ وكتابته على أنه «وثيقة مفتوحة أمام سلسلة من التسجيلات الجديدة التي تخضع المعرفة التاريخية لعملية مراجعة لا تتوقف» (ريكور، 2009، 354). «وبهذا المعنى، هناك تأويل على كل مستويات العملية الخاصة بكتابة التاريخ، فمثلاً على صعيد الوثائق مع انتقاء المصادر، وعلى المستوى التفسيري- الفهمي مع الاختيار بين الأنماط التفسيرية المتنافسة، وبطريقة لافتة أكثر مع تنوعات المقاييس. إنَّ هذا لن يمنعنا من الحديث في اللحظة المناسبة عن التمثيل كتأويل». (ريكور،2009، 355). 
كما يشير ريكور إلى ذاكرة السرد الانتقائي من خلال النسيان والذاكرة المتلاعب بها بسبب الوظيفة التوسطية للسرد التي تنفي إمكانية فكرة السرد الجامع الشامل. «فكل سرد يحوي بالضرورة بعداً انتقائياً. إننا نلامس هنا العلاقة الوثيقة بين الذاكرة الإخبارية والسردية والشهادة والتمثّل المجازي للماضي التاريخي. فإنَّ أدلجة الذاكرة ممكنة بفضل التنوّع الذي يعطيه عمل التصوير السردي». (ريكور،2009، 648).
وقف بعض الباحثين والنقاد الجدد عند تفكيك المرويات الكبرى وعملية اختلاقها فقد وقف مارتن برن lanreB nitraM عند عملية تلفيق المعجزة الهيللينية أو تلفيق بلاد الإغريق. وهو التأريخ الذي نفى وجود أية جذور أفريقية أو آسيوية للحضارة الإغريقية (برنال،1997). كما بيّن إدوارد سعيد في سردية الغرب الكولونيالي في اختلاقه للشرق من خلال السيطرة عليه واستملاكه وهو ما سمّاه «شرقنة الشرق». (سعيد،2001) وجعل سعيد سردية المستعمِر وتاريخه في تقابل مع سردية المستعمَر وتاريخه من خلال اختلاق الذاكرة الجماعية وتشكيلها بالتلاعب بقطع معينة من الماضي القومي وذلك بطمس بعضها وبإبراز البعض الآخر. وبخاصة في اختلاق كلاً من السرديات الفلسطينية والسرديات الإسرائيلية الفلسطينية في تحبيك كل واحدة منهما بالماضي القومي (سعيد، 1997 ).
احتفت مضاوي الرشيد بتحبيك التاريخ البطوليّ وصنعه من خلال مرويات سردية كبرى تخلق زمانها ومكانها وحقائقها التي قد لا تتطابق مع مرويات تاريخيّة أخرى أرّخت لهذه الجماعة إذ «تنقل مرويات آل الرشيد وقصائدهم على السواء رسائل «حقيقة تاريخية» محددة ثقافيًا قد تتطابق أو لا تتطابق مع ما يسميه الانثروبولوجيون والمؤرخون «حقيقة تاريخية». وعند شمر فإنّ تراثهم المحكي يحوي تاريخًا صادقاً عن أفراد وأحداث، وهو غير معني بالكشف عن تاريخ زمني. كما أنّه تاريخ انتقائي بسبب عجز الذاكرة البشرية والعنعنات الشخصية والتغيرات في ما يعتبر مهماً بمرور الزمن». ولذا فإن «تراث شمر المحكي يخبرنا عن حائل وانجازاتها وبطولتها وأدبها المحكي أكثر مما يحدثنا عن حيوات رجال القبيلة الاعتيادين. وهذا أمر له مغزاه لأنه يعكس تصورات شمر عن ماضيهم والأمر لا يتعلق بقوانين عامة أو قوى تاريخية أو مراحل متعاقبة وتقدم مطرد فإن تاريخهم تاريخ حمائل وأمراء وشيوخ». (الرشيد،2003 ،173).
وقد ميّزت الرشيد بين نوعين من المرويات التاريخية؛ مرويات الدولة ومرويات الشعب. فتمثيلات الماضي المدعومة من الدولة، كما تتبدى في المدوّنات التاريخية الرسمية والخطابية السياسية والمهرجانات، تصنع ذاكرة تاريخية تعمل على فرض الطاعة للفئة الحاكمة، وتستبعد المرويات الرسمية الحقائق الخلافية والتأويلات المتنافسة حد أنها تصنع رؤية للماضي بصورها وخطابيتها ورموزها الخاصة لاستملاك الأفكار والمخيلة العامة في حين تستفز مثل هذه المرويات مرويات أخرى مضادة تمثل المرويات الشعبية. (الرشيد، 256,255,2005).
ـ التأسيس النظري للهويات والتحبيك السردي في نتاج أمين معلوف الفكري:
ما يميز نتاج أمين معلوف الفكري والسردي هو اندماج هذين الخطين وانصهارهما في بوتقة واحدة صادرة عن الائتلاف والاتساق في إطار رؤية متناغمة ومتكاملة للذاتي وللشخصي وللكوني مع بعض الاختلاف بين التنظير والتطبيق كما سنشير لاحقاً. وقد قدّم معلوف أربعة مؤلفات فكرية امتدت طوال عقدين من الزمان هي: (الحروب الصليية كما رآها العرب (1989) و(بدايات) (2004) و(الهويات القاتلة) (2004) و(اختلال العالم) .2009 وتزامن ظهور الفكري وتبلوره عند معلوف مع ظهور الروائي متمثلاً في سبع روايات هي القرن الأول بعد بياتريس (1977) وسمرقند (1991) وصخرة طانيوس (1994) وليون الإفريقي (1997) وحدائق النور (1998) وموانئ المشرق (1998) ورحلة بالداسار (2001). إلى جانب مسرحيتين مُثلتا في الأوبرا الفرنسية هما الأم أدريانا (2006) والحب عن بعد (2002). ونظراً لأهمية الرؤية التي صدر عنها معلوف في كتبه الفكرية الأربعة المشار إليها آنفاً، وهي رؤية يتشابك فيها التاريخي بتأويلاته المتعددة المنفتحة مع السياسي والواقعي، فإننا نتغيا في هذا المحور الوقوف عند أبرز المصطلحات التي اجترحها معلوف في تأويله للتاريخ وفي استشرافه آماداً أوسع للهويات الكونية بعيداً عن التحديدات العرقية واللونية والجنسية ساعياً إلى الاحتفاء «بالاختلاف الثقافي» و«بالهجنة الثقافية»، داعياً إلى إلغاء «الهويات القاتلة» مع الإشارة إلى أن للسردي حضوره الكبير في الفكري عند معلوف وللفكري حضوره الكبير في المقابل في السردي. ولا يعني هذا الفصل بين الفكري والسردي أنهما محوران منفصلان. وإنما قمنا بالفصل بينهما طلباً لتفكيك المصطلحات التي انطلقت منها رؤية معلوف الفكرية تمهيداً للحديث عن إبداعه الروائي السردي المندغم برؤيته الفكرية بمحمولاتها الثقافية.
ـ تأويل التاريخ انطلاقاً من سرديات الحروب الصليبية:
كان اختيار معلوف لسردية الحروب الصليبية كما رآها ورواها العرب المعاصرون لها محاولة منه للبحث عن «رواية حقيقية» لأحداث تاريخية جرت ودُوِّنت من: منظور العرب المؤرخين والأخباريين وشهاداتهم التي جمعتها متون ضخمة تتبعت أدق التفاصيل وأرّخت لهذا الحدث الجلل في تاريخ الأمة العربية الإسلامية. يقول معلوف في تقديمه وتصديره للكتاب: «والحق أن ما أردنا أن نقدمه ليس كتاب تاريخ آخر بقدر ما هو انطلاقاً من وجهة نظر أهملت حتى الآن، «رواية حقيقية» هي الحروب الصليبية وعن هذين القرنين المضطربين اللذين صنعا الغرب والعالم العربي ولا يزالان يحددان حتى اليوم علاقاتهما». (معلوف، 1989، 9).
ويؤكد معلوف أن مصادره العربية التي عاد إليها واستقى منها رواية الحروب الصليبية التي حبكها سرداً تاريخياً لا تتحدث عن حروب صليبية بل «عن حروب أو غزوات إفرنجية. وقد كُتِبت الكلمة التي تدل على الإفرنج بأشكال مختلفة باختلاف المناطق والمؤلفين والأزمنة: فرنج، فرنجة، إفرنج، إفرنجة (…)» واخترنا طلباً للتوحيد أكثر الأشكال اختصاراً؛ أي الشكل الذي لا يزال مستخدماً حتى اليوم في المحكية الشعبية لتسمية «الغربيين»، وبصورة أخص «الفرنسيين»: «فرنج» (معلوف،9,1989).
وتكوّن رواية المؤرخ الدمشقي ابن القلانسي (ذيل تاريخ دمشق) الجزء الأكبر من سردية الحروب الصليبية كما رواها العرب والتي اعتمدها معلوف الذي يسوّغ رواية ابن القلانسي بأنه «شاب مستنير من أسرة وجيهة. ولقد كان رقيباً للأحوال منذ الساعة الأولى، فعمره في سنة 1096 عندما وصل الفرنج إلى الشرق ثلاثة وعشرون عاماً، وقد انصرف بانتظام إلى تقييد الأحداث التي كانت تبلغه، وتاريخه يروي بأمانة ومن غير إفراط في الهوى مسيرة الغزاة كما شوهدت في مدينته. وكانت بداية الحكاية بالنسبة إليه في تلك الأيام المفعمة بالكرب التي سرت فيها إلى دمشق أول الشائعات». (معلوف،16,1989).
ولن يورد معلوف سردية الحروب الصليبية كما رواها العرب من منظور المبئر الخارجي؛ إذ يتدخل بالتعليق والتحليل والاعتراض بين مروية وأخرى كما يخضع السرديات المروية لفعل الذاكرة المنتقاة ويتلاعب بسرد بعض الأحداث خالقاً بذلك سرداً انتقائياً. وإذا كانت مرويات ابن القلانسي تتدفق في الكتاب لتسيطر على الصورة السردية فإنَّ مؤرخين آخرين مثل ابن جبير وأسامة بن منقذ لن ينجو متخيلهما السردي من النعت «بالغلو من الوجهة العقدية ومن الانحياز إلى إخوانهم العرب المسلمين» كما يرى الكاتب. (معلوف،25,1989). كما أن معلوف يعلق على وصف ابن منقذ للفرنج بأنهم «بهائم فيهم فضيلة الشجاعة والقتال لا غير» حكم بأنه وصف «يختصر جيدا الانطباع الذي أحدثه الفرنج لدى وصولهم ديار المسلمين: مزيج من الخشية والاحتقار له مايسوّغ صدوره عن أمة عربية متفوقة جدا بثقافتها وإن كانت قد فقدت كل روح قتالية» (معلوف، 1989 ،63 ). 
ويبين معلوف مستقرئاً الحروب الصليبية بأنها «شرارة ثورة حقيقية وثقافية بالنسبة إلى أوروبا الغربية في حين أنها ستفضي في الشرق العربي الإسلامي إلى عصور طويلة من الانحطاط والظلامية الذي لا يزال متأثراً بهذه الحروب حتى بعد مرور ما يقارب السبعة القرون على انطلاقها وينظر إليها على أنها انتهاك واغتصاب لمقدساته. ويتمثل هذا التأثر في العالم العربي بالذات في ذاكرة الرموز الاستعادية؛ فالمسؤولون السياسيون والدينيون في العالم العربي «لايزالون عشية الألف الثالث يستشهدون بصلاح الدين وسقوط القدس واستعادتها. وتُشبّه إسرائيل في المفهوم الشعبي كما في بعض الخطب الرسمية بدولة صليبية جديدة. ومن فصائل جيش التحرير الفلسطيني الثلاثة يحمل واحد اسم حطين وآخر عين جالوت. وكان الرئيس عبدالناصر في إبان مجده يقارن بصلاح الدين الذي كان مثله قد وحَّد الشام ومصر وحتى اليمن. وأمّا حملة السويس في عام 1956 فقد نظر إليها على قدم المساواة مع حملة 1191 على أنها حملة صليبية بقيادة الفرنسيين والإنكليز». (معلوف، 28,1989
________
*أخبار الخليج

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *