فيلسوف فرنسي يبحث في ديمومة ونموذج الأنوثة المرأة الثالثة


قد يبدو عنوان الكتاب “المرأة الثالثة” غريبا وملتبسا بالنسبة للقارئ، لكنه ما أن يبدأ بقراءة مقدمة الكتاب حتى يكتشف المعنى الدلالي لهذا العنوان، بوصفه تعبيرا عن مفهوم المرأة الجديد بعد التغيير الاجتماعي الذي طرأ على صورة المرأة ووضعها الاجتماعي في المجتمعات الغربية الحديثة، ما يعني أن هناك نمطين من صورة المرأة قد عرفتهما تلك المجتمعات في سيرورة تاريخها، وهو ما يحاول الكتاب أن يبدأ منه، لكنه قبل هذا يحاول البحث أولا في الإشكالية التي يطرحها مفهوم المرأة الثالثة، ومن ثم يتحدث في مقدمة الكتاب عن أهمية ترجمة هذا الكتاب باعتباره من أهم الكتب المعاصرة التي تناولت الحالة النسائية، وباعتبار مؤلفه الفيلسوف الفرنسي جيل ليبو فيتسكي من الفلاسفة المعروفين في الفكر الغربي المعاصر، إضافة إلى تناول الكتاب للواقع الأنثوي من جوانبه المختلفة. 
آليات التمايز الاجتماعي
يوضح المؤلف منذ البداية أسباب اختياره لعنوان الكتاب النابع من رؤيته مما طرأ على وضع المرأة من مظهر اجتماعي جديد في المجتمعات الغربية المعاصرة، يؤسس لقطيعة مهمة مع تاريخ النساء، في الوقت الذي يكشف فيه عن تحول ديمقراطي يطال وضع النساء وهويتهن، يدلل عليه بأن النساء لأول مرة لم يعدن ينتظمن في وضعية اجتماعية كاملة بصورة مسبقة، ولا تتناسق مع النظام الاجتماعي والطبيعة، وذلك بعد أن أصبح هناك عالم منفتح واحتمالي يؤسسه منطق اللاتحديد الاجتماعي والحكم الفردي الحر، الذي يماثل في صورته العالم الذكوري ذاته. ورغم هذا التوصيف الذي يقدمه المؤلف فإنه يرى أن صعود المرأة إلى مرتبة الفرد الفاعل لم يلغ آليات التمايز الاجتماعي بين الجنسين عبر إعادة تشكيل الفصل الاجتماعي وتفعيله تحت مسميات جديدة. 
يتألف الكتاب من أربعة أقسام تتوزع على أربعة عناوين هي الجنس والحب والغواية، والجنس الجميل، وتتويج المرأة ربة منزل، ثم هل نتجه نحو تأنيث السلطة. يتجاوز البحث إطار البحث الاجتماعي إلى تجليات التحول الذي طرأ على وضع المرأة في مجال الشعر الغربي الذي يرى أنه أكثر أنواع الإبداع في العالم من حيث تفرده في التعبير عن حساسية العلاقة بين الرجل والمرأة وأساليبها، إذ اهتم منذ القرن الثاني عشر بالحب وتغنى به، وأعاد صياغة الطريقة التي يكون فيها الرجل رجلا والمرأة امرأة، وكيف يغذي أحلامهم الأكثر جنونا، ما جعله أكثر الأنواع تعبيرا في المغامرة الغربية الحديثة. يجد المؤلف في دراسته لوضع المرأة في القرن العشرين أنه قد جرت عملية إعادة توزيع للأدوار في العلاقة العاطفية بشكل غير متكافئ رغم المعارضة الاجتماعية القوية، في حين سارعت الحركة النسوية التي برزت في ستينيات القرن الماضي إلى اعتبار الحب مجرد تخدير للمرأة وسجن لها، كما هو حال الزواج الذي رأت المرأة فيه شكلا من أشكال العبودية والجنسية العاطفية، ولذلك سارعت إلى التنديد بالخرافات الشائعة عن الحب وانتقدت الأدوار النمطية التي تروع المتخيل، وتجعل المرأة تعيش حالة من الاغتراب حتى عن نفسها. 
ومن الملاحظات التي يسوقها على مستوى هذه العلاقة هو التحول من السمة العاطفية نحو السمة الجنسية إذ لم يعد العشق هو المسألة الجوهرية فيها، لكنه رغم ذلك لم تتخل النساء عن أحلامهن في الحب، واستمر تعلقهن بالحب الأكبر حتى وإن كان خارج الزواج. لقد دخل الحب في هذه المرحلة في دائرة غير مسبوقة من التسييس والثورية الثقافية. ويتوقف المؤلف عند ثنائية القلب والجنس كاشفا عن أن تقلبات الثورة الجنسية والاندفاع وراء المساواة لم ينجح في القضاء على الوضع التقليدي السائد للنساء على صعيد العشق فقد ظل دورها العاطفي في تلك العلاقة هو الذي يحكم الجميع، ولذلك يقابل اتساع مطالب المرأة بالمساواة عدم وجود للمساواة في الأدوار العاطفية لكل من الرجل والمرأة رغم تراجعها عما كانت عليه سابقا. 
الحب والحداثة والفردية
يحاول المؤلف تفسير ظاهرة استمرار تركيز النساء الزائد على الحب ودوره في تشكيل هوية المرأة مقابل تزايد مطالبها بأداء أدوار الرجل وأنشطته. فالأدوار الهامشية التي أعطيت للمرأة ساهمت بصورة حاسمة في ارتباط هويتها كأنثى في الحب لكن هذا الانخراط للمرأة في الحب هو الذي أعطاها مزيدا من هوامش الحرية لاسيما على صعيد اختيار الشريك وبذا فإن شريعة الحب الجديدة عملت على إقصاء مظاهر السلطة الذكورية إذ باتت المرأة هي من تملك زمام المبادرة في هذه العلاقة. 
ويشير الكاتب إلى مسألة بالغة الدلالة حتى في تعلق النساء بالحب تتمثل في أن المرأة لا ترى في الحب اعترافا وتقييما لذاتها بوصفها كيانا فرديا غير قابل للمبادلة، بل هي بوصفها كيانا محتفى به من قبل الرجل ومميزا عن الآخرين بفضل سماته المتميزة. من هنا يجد أن التركيز النفسي للمرأة على الشعور العاطفي ليس مجرد رغبة في تذويب الذات، وإنما هو تعبير عن رغبة في إعادة الاكتشاف والتثمين لذاتها كشخصية فريدة تشبع دوافعها النرجسية. وعن مستقبل الحب ومعنى الحياة يجد أن طموحات النساء العاطفية لم تزل تختلف عن الرجل وأنها لا ترتبط بالتوافق الذي تقيمه مع متطلبات الاستقلالية الحديثة، بل لأنه يمنح الأمل في خلق قدرة عظيمة على العيش عبر تجاوز المرء لذاته في اتجاه الآخر ما يجعل منه مصدرا لا ينفد لمعنى يثري الحياة ويوفق بين استقلالية ذاتية والذاتية العشقية.
يعود المؤلف في الجزء الأخير من الكتاب إلى البحث في مفهوم المرأة الثالثة التي تلت مرحلة المرأة الأولى أو المحتقرة حيث كانت هيمنة الرجل على الأنثى، وكانت المرأة هي مجرد تابع دوني ورغم ذلك كانت للنساء سلطة حقيقية ورمزية دون أن يتمكن من ممارسة المهام الأكثر رفعة والوظائف السياسية والكهنونتية والحربية. أما المرأة الثانية أو المرأة المحتفى بها فبدأت صورتها تتشكل منذ العصر الوسيط الثاني حيث جرى تقديس السيدة المحبوبة وجرى تكريم المرأة الجميلة وامتداح خصال الأنثى، كما أعجب الناس بالتأثير الخير للنساء على الأخلاق، وفي القرن التاسع عشر تم تقديس الزوجة الأم ورغم ذلك يؤكد أن واقع التراتبية الاجتماعية لم يلغ فظلت القرارات المهمة للرجال ولم تلعب المرأة أي دور سياسي، وكان عليها أن تطيع زوجها. 
المرأة الثالثة هي النموذج الجديد المتميز باستقلاليته وحقوقه السياسية والاقتصادية والجنسية. من خلال هذا التقسيم الثلاثي يرى المؤلف أن الوجود الأنثوي انتظم وفق طرق يحددها المجتمع والطبيعة مسبقا كذلك فإن نموذج المرأة الثالثة الذي يقيم قطيعته مع تاريخ النساء لم يستطيع أن يلغي جميع الفوراق، فبقي هناك إنتاج منتظم لتلك الفوارق وإن كان هناك خفض لمؤشر التباين بين الجنسين، في حين يقر المؤلف بأن الجنسين يجدان نفسيهما بعد كل هذا في حالة تشابه بنيوي على صعيد بناء الذات، في الوقت الذي حل فيه الممكن محال الفرض الجماعي. 
الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *