*أدونيس
I. مسرح
وضعُ العالم (ومن ضمنه، على الأخصّ، العالم العربي) مسرحيّة – رواية تتداخل فيها أنواعُ شطارةٍ وسِحْرٍ وبهلوانيّة لا نرى ما يشابهها إلا في الخرافات.
والبطلُ واحدٌ، لكنّه يتكلم بألْسنةٍ عديدة، ويعمل بسواعدَ متنوّعة.
يمكن الكرسيّ في هذه المسرحيّة – الرواية أن يتحوّل إلى دبّابة.
يمكن الجبلُ أن ينقلب إلى عصفور، والطائرة إلى حديقة سماويّة، والصاروخ إلى مزمار.
كيمياء المال مقرونة بفيزياء السياسة. مختبرٌ كونيٌّ للتحوّل تتمّ فيه مختلف أنواع العمليات التكتيكية والاستراتيجية: شراء، بيع، إقصاء، تهميش، معاقبة، مراقبة، خطف. خصوصاً قتل، لكن ذبحاً.
الدمُ هو كذلك غواية. مسرحٌ أكثر من شكسبيريّ.
وما أشقى هاملت.
ما الزمن، يا هاملت؟
هل مروره يعني التغيّر، كما اعتدنا أن نقول؟ أم أنّه هو الذي يجرفنا كأنه طوفان يؤرجحنا في أمواجه، ويقذف بنا أنّى شاء، وكيفما شاء؟
وما طبيعة هذا الزمن، خصوصاً في صورته العربيّة؟
أهي مؤسّسةٌ على الإيمان بما هو خارج الزمن، أو بما لا علاقة للزمن به؟
أهو زمنُ خاصّ يحرّك ولا يتحرّك؟ يربط الإنسان بحباله ويلقيه في غيابة جبٍّ
مغلق؟
أهو زمنٌ لا يمنّ علينا إلا بما مضى منه، قائلاً لستُم في حاجة إلى الحاضر، ولستم في حاجة إلى المستقبل، وتاريخكم مكتوبٌ سلفاً.
أنتم في حاجة إلى أن تُعيدوا بناء ما مضى. وما مضى ليس نقطة، أو كأس ماء، أو مخدّة. ما مضى هو التكوين وهو ما تكوّن، مرّةً واحدةً وإلى الأبد.
وما يُسمّى الزمن ليس إلا سجّادةً تطفو على سطح الأشياء لكي تستقبل خطوات الماضي. الزّمن مناسبة للاحتفاء بهذه الخطوات. والخطوات إيقاع نرْد.
هاملت، هل تحبّ أن تلعب النّرد؟
النّردُ هو كذلك غواية.
II. أصوات
أسمع على هذا المسرح أصواتاً. بينها صوت العالِم البيولوجي إيف كريستين
Yves Christen في كتابه الجديد: «هل الحيوان فيلسوف؟ صيصان
كانطيّة وشامبانزيات أرسطيّة».
1 – ربما كانت العدالة في العالم الحيوانيّ أوفرَ منها في العالم الإنسانيّ. «الغابُ ليس شريعةَ الغاب».
2 – «تنهض الأخلاق على مجابهة المشكلات، لا على نفيِها».
3 – «أعرف أنّ التاريخ سلسلة من المجازر والأعمال الشريرة بين الأجناس وداخل كلّ جنس».
4 – «أفضّل أن أتبنّى برنامج ديزموند موريس الذي أسرّه إليّ يوماً في شكل مَزحة: «الارتقاء بالإنسان إلى مرتبة الحيوان».
وأعتقد حقّاً أنّ الحيوانات يمكن أن تساعدنا في وضع الأشياء في أماكنها، والتقدّم نحو مزيدٍ من الكرامة والعدالة والعَظمَة.» (مجلّة «لوبوان»، 23 مايو 2013)
5 – «هناك اليوم أكثر من 50 بالمئة من الإسرائيليين اليهود يؤمنون بمجيء المسيح. وهذا يعني أنّ السلام لن يجيء غداً..» ( شارل أنديرلن، نوفيل أوبسرفاتور، 16 مايو 2013).
هاملت،
أعرف أنّ مشكلتك في هذه المسرحية – الرواية ليست في السؤال: «ماذا أعمل؟ «وإنما هي في السؤال الأكثر صعوبة: «من أنا» ؟
شخصٌ لا يعرف من هو، يخضع لكلّ إملاء. ورقةٌ في مهبّ الرياح.
قولوا لهذا الشخص ما شئتم. وسوف يكون، في كلّ مرّةٍ، كما تشاؤون.
هاملت،
مرّةً ثانيةً، مَنْ أَنْت ؟
III . فواصل
أن نحيا شيءٌ، وأن نبقى أو نستمرّ في الحياة ونواصل البقاء شيءٌ آخر.
أن نحيا هو أن نبتكر المستقبل انطلاقاً من ابتكار الحاضر. أن نحوّل ما مضى إلى عتبةٍ للدخول إلى ما يأتي.
أن نبقى هو أن نقاوم، وهو أن نصمد. لكن هو أوّلاً أن نخلق معنى لهذه المقاومة. نعطي لهذا الصّمود أفقاً.
*
أنا العربيّ، أتوهّم، إذاً أنا أحيا.
*
ما أراه الآن كنت رأيتُ أمسِ طيفاً له.
لأقلْ، بتعبيرٍ آخر: هذا الذي أراه الآن ليس إلا ظلاًّ لأصلٍ قديم، عرفتُه سابقاً، ومنذ الطفولة.
*
الذاكرة باعثٌ. ضوءٌ. لكن العمل الفنّيَّ غيرُها، وإن كان في بعض شهقاته ينتمي إليها.
كلٌّ منّا يشيّد البيت الذي تقيم فيه ذاكرته.
لكن، هل الذاكرة هي كذلك الوطن؟
إن كان الأمرُ كذلك، فإنّ سؤالي الأوّل سيكون: هل لي وطنٌ، حقّاً؟ ذلك أنّ ذاكرتي مدائن من العذابات والسجون والفواجع والهجرات.
*
منذ البداية أستعين بالتوهّم لكي أبني وطناً.
ولم يكن الشعر إلى جانبي.
الشعرُ ترحُّل. الشعرُ هجرةٌ دائمة.
في البيت تُقيم. في القصيدة تسافر.
سِرْ – لا تَسِرْ، اكتبْ – لا تكتبْ إلاّ على ضفّة الهاوية، يقول لك الشعر،
هل يكون وطن الشعر هو كذلك هاوية؟
هل يفقد العمل الفنّي معناه، إذا صار بيتاً؟
*
مثلك، هاملت، أتنصّتُ إلى حكمة الرّيح.
IV. رمية نرد
لرمية النّرد هي أيضاً موسيقى. موسيقى ارتجالٍ وعفوية. حركة في اتّجاه ما لا يُعرَف. في اتّجاه المجهول. يجيء ما لا نتوقّع. وربما يجيء ما لا نريد، وهو الأرجح.
لكنّنا نظلّ أكثر قرباً إلى حساب المخيّلة. إلى طلّسْم الحياة. ألاّ نعرف كيف جئنا ومن أين أمرٌ يتضمّن أنّنا لا نعلم أين نمضي، وكيف ومتى –
تحت سماءٍ أجملُ ما فيها أنّها بشرةُ الأرض،
فوق أرضٍ أعمق ما فيها أنّها جسدُ السماء.
_________
* شاعر من سوريا
(الحياة)