*جوزف باسيل
في بحثه عن النظام الدولي الجديد الذي قد يولد اذا تغيرت موازين القوى وصعدت دول كبيرة عتيدة الى مرتبة العظمى، رأى حسين كنعان، من منطلق الاقتناع بالنظام الاميركي ودوره في العالم، “أن احد العوامل الرئيسية لأفول القوى العظمى هو عندما لا تستطيع فرض الحلول العادلة للأزمات العالقة (كالقضية الفلسطينية) وتطبيق قرارات الشرعية الدولية”.
يتحدث كنعان في كتابه من جورج واشنطن الى اوباما – الولايات المتحدة الاميركية والنظام الدولي (195 صفحة، دار النهار) عن تكوّن الرؤى السياسية لدى رؤساء اميركا السابقين واللاحقين ، استناداً الى تركيبة النظام الديموقراطي فيها ومسار عمل آلياته، منذ زمن جورج واشنطن وصولاً الى مرحلة رئاسة باراك أوباما. والمسار الديموقراطي تموّهه شوائب تمارسها اجهزة الاستخبارات وتحركها اللوبيات، فيأتي الرئيس “منتوفاً ومهيئاً” بحسب رغبة هذين الطرفين وخلفهما لوبي العائلات الاقتصادية والشركات الكبرى.
يلقي كنعان الضوء على تاريخية المشكلات والعقبات التي واجهت أوباما في رئاسته الأولى وستواجهه في رئاسته الثانية، ويرى انها ليست آنية، ولا انوجدت في وجهه، انما هي نتاج حقبات انتجتها السياسة الاميركية باداراتها المتعاقبة، لكن الدستور الاميركي يحفظ وحدة أميركا ومسارها.
ويصف الظروف التي أدت الى وضع أوباما على رأس السلطة “في وقت عصيب تغلي فيه عملية عدم الرضا والاكتفاء، خصوصاً من النواحي الاقتصادية المتعثرة التي لم تعرفها الولايات المتحدة منذ انهيار الاقتصاد في الثلاثينيات جراء سياسة الحروب في افغانستان والعراق واستراتيجية التدخل العسكري التي قادها المحافظون الجدد في زمن الرئيس جورج بوش”.
ويرى المؤلف ان سياسة اوباما لا تركز على الاقتصاد فحسب، بل على لعبة الأمم وادارة الصراع والعمل على القوى الاقليمية وتحقيق الأهداف التي تفيد الجميع في جعل العالم في حال استقرار مستمر وسلام دائم.
استطاع باراك اوباما ان يصبح رئيساً بسبب معرفته وفهمه تركيبة النظام الاميركي والقوى الداخلية التي تحركه. وبالمقارنة استطاعت اسرائيل في غياب الدور العربي ان تستفيد من فهمها لتركيبة النظام الاميركي وتأثير القوى الضاغطة عليه في الداخل، والاستفادة منها لمصلحتها وطغيانها.
لماذا يطلعنا كنعان على دستور الولايات المتحدة وقوانيها؟ بالطبع لأن اميركا تحكم العالم باقتصادها كأكبر قوة اقتصادية (ثلث اقتصاد العالم) تسيطر باستعمار جديد وأساليب جديدة على مقدرات أكثر من نصف الكرة الارضية وتمتص خيراتها خصوصاً النفطية، متبعة أسلوب فرض الديموقراطية على الشعوب حتى بالحرب والقوى المسلحة، فالديموقراطية ذريعة والهدف الاستغلال الاقتصادي. حقيقة أميركا تظهر بين السطور في المعطيات التي يقدمها المؤلف والشرح التفصيلي.
يشرح بالتفصيل تعقيدات نظم الانتخابات، خصوصاً للرئيس، فيشبه نظام انتخابه بانتخاب البابا، ويقول في هذا المجال: إن الحكومة الفيديرالية لا تتعامل مع المواطن الاميركي مباشرة، انما تتعامل مع الشعب في معظم القضايا الداخلية من خلال الولايات التي تكوّن في مجموعها البلاد. لذلك تجرى الانتخابات الرئاسية على مستوى الولايات (المندوبين) وليس على مستوى المواطن. إذاً الانتخابات الرئاسية غير مباشرة… وتوصيت المندوبين يحسم حقاً نتيجة الانتخابات.
ويفصّل صلاحيات الرئيس، وهي واسعة، ودوره، وليس بينها اعلان حال الحرب على دول اخرى، وإن كان القائد الأعلى للقوات المسلحة. الكونغرس يعلنها. لكن بعض القادة خالفوا تعليمات الرئيس فأقالهم، و”تحايل” بعض الرؤساء للتورط في حرب ودفع الكونغرس الى مجاراته. وأخيراً أخذت الولايات المتحدة تتلطى بالشرعية الدولية لشن حروبها الحديثة، كما فعل بوش الأب والأبن.
ولعل أبرز مثال على تفرد الرئيس في اتخاذ القرار ما يرويه كنعان ان الوثائق “تدل على ان الاختصاصيين في سياسة اميركا الخارجية، وبتكليف من الرئيس ترومان، اجتمعوا في مقر وزارة الخارجية لدرس جدوى المصالح الاميركية من الاعتراف بالدولة الصهيونية او عدم الاعتراف بها. وتوصل المجتمعون وعلى رأسهم وزير الخارجية الى اتخاذ قرار بعدم الاعتراف بدولة اسرائيل بعد مناقشات طويلة دامت ساعات، لأنهم وجدوا ان هذا الاعتراف يتنافى مع المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، ولكنهم فوجئوا قبل تقديم تقريرهم للرئيس وقبل مغادرة مكان الاجتماع بأن البيت الأبيض اتخذ قرار الاعتراف باسرائيل وأذيع قراره على الملأ بواسطة وسائل الاعلام والاعراف الديبلوماسية وذهب جهد المجتمعين في الخارجية الاميركية وقرارهم سدى”. واتخذ ترومان قراره بتأثير المصالح الانتخابية التي ما زالت تتحكم برأس الادارة الاميركية حتى اليوم.
ولأن الأسلوب هو الرجل، تربع على رأس الادارة رؤساء يمارسون دورهم القيادي كروزفلت وواشنطن وكينيدي فيقررون وينفذون، فيما بيوكنن وماديسون وايزنهاور يصادقون على القرارات التي تتخذها الشخصية القوية في الادارة، وغالباً ما يكون وزير الخارجية.
لكن مهما كان الرئيس ضعيفاً يبقى صاحب القرار، اذا اتخذه. ومن قراراته إقالة أي وزير، ولو كان سنده في الخارجية، فلا يغترّن اي وزير بمنصبه.
فضلاً عن ان الرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، هو أيضاً صانع القرارات في السياسة الخارجية، تصل اليه القرارات الصعبة التي تحتاج الى الكثير من التمعن والمعلومات الدقيقة والصائبة والتحليل العميق والرؤية السديدة قبل ان تصدر. ويصف قرار الحرب على العراق بأنه نتيجة “معلومات خاطئة” تتعلق بأسلحة الدمار الشامل، واعتقد انها “معلومات مضللة “للتذرع بها لشن الحرب. خصوصاً اذا كان مستشاره في هذا الأمر هو هنري كيسنجر.
ولئلا يتبع الرئيس أهواءه وغرائزه… انشئت مؤسسة الأمن القومي لمساعدته على اتخاذ القرارات، فحصل تضارب في الصلاحيات بين رئيسه ووزير الخارجية، خصوصاً اذا كان الاول ذا نفوذ ومقرباً من الرئيس، استطاع المستشار كيسنجر ان يطيح وزير الخارجية وليم روجرز ويحل محله، كذلك فعلت كوندوليزا رايس مع كولن باول.
في ما يتعلق بقضية الشرق الأوسط، لا تكفي النيات الحسنة ولا الأقوال الجميلة، التي وضعها كنعان على لسان أوباما، لايجاد حل، حتى اذا كان مقتنعاً به، وهل هو كذلك؟ انما الاعمال بالوقائع لا بالنيات، فما هي الوقائع التي تفترض انه يسعى لحل القضية الفلسطينية؟ وهل هو قادر على ذلك اذا رغب؟ اعتقد ان الموضوع اكبر من رئيس أسود في البيت الابيض، ولو كان رئيساً للولايات المتحدة الاميركية. الكلام الواقعي أورده كنعان: “ان سمعة اميركا وتعاملها مع دولة اسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني ينكران عليها كل ما تدّعيه من مبادئ انسانية”.
وفي مجمل المواقف السياسية العالمية يستدرك كنعان حين يقول: “أوباما رجل مثقف بدرجة عالية ولديه قدرة قوية على الاقناع، ولكن أياً يكن مدار هذا الاقناع، فانه في النهاية يصطدم بواقع الموضوعية ولعبة النظام السياسي في الداخل الاميركي ولعبة النظام الدولي القائم حالياً”.
يلقي الكتاب الضوء على العلاقات السياسية في الداخل الاميركي، وعلى موقعها على رأس النظام الدولي، ويفنّد مراوحتها بين البراغماتية السياسية والمبادئ الحقوقية والانسانية، والموازنة بينها يسمى “المنطق الوضعي”.
________
*(النهار)