سقطت نجمةٌ في اللّيل


*رشيد أمديون

(ثقافات) 

معزوفةُ اللّيل… نباح كلابٍ، ونقيق ضفادع البركة المجاورة كفرقةٍ موسيقية راق لها العزف. انسحبَ السكونُ الليلةَ من الدوّار بعدما تسلّلَ صوتٌ جديدٌ إلى هذا العزفِ الليليّ فغادر النّومُ عيونَ كل الأهالي. 
دارُ “عبدِ السّلام ولْدْ رحمة”، مُتزيّنة بمصابيح ملوّنة، أخضر، أحمر، أصفر. باحتها الأمامية تحولت إلى معتركٍ تُثير فيها الأقدامُ النّقْعَ. فوق الرّؤوس تشكلت سحابة من بياضٍ مُغبرٍ تُرى من بعيدٍ، يعكسها ضوء المصابيح المتوهجة التي تحوم حولها حشرات طائرة وبعض خنافسِ الدوّار التائهة. خرجت من مخابئها باحثة عن مصادر الضوء المشع… خرجت مع من خرجوا لتلبية الدعوة.
اشتدّ الرفس بالأرجل والضرب على الطّبل، والدفوف تتراقص في الهواء فرحةً سعيدة. والغايطة تنادي صارخة أنْ هلمّوا إلى “الْهَيتِ”*. فامتلأ سطح الدار وساحتها… 
نسوة تسوق زغاريدًا حادة تركبُ أمواجَ الضجيج.
رجالٌ في ركن يتحلّقون حول صينية كبيرة ينتظرون امتلاءَ الكؤوس. وقنينة غازٍ صغيرة عليها مقراج نحاسي عملاق ينفخُ البخار بغضبٍ شديد كبدين أنهكه الركض.
العرْبي نشطٌ، كأنّ نجمة السّماءِ المضيئة الليلة في يده. همس إلى رفاقه، أنّه مستعدٌ لشرب برميل خمرٍ…
فهذه ليلتي التي انتظرتها…
دارتِ الكؤوس في زاويةٍ ما. مشى السّكارى واهتزت أجسادهم بلا استقرار…
الحشراتُ الوافدة من الظلام ترقص محتفلة بضوء المصابيح إلى أنْ تسكرَ فتسقط على الأرض وعلى رؤوسِ الضيوف.
حضورُ طعامِ العَشاءِ أخرسَ ضجيجَ فرقة “الغايطة والطبّالة”*، وشلّ حركة المترنحين. وحده النباحُ المتقطع، وصوت سرب الضفادع المستمر امتزج بسكون الليل الرتيب. 
انفضّ الناس بعدما شبعوا. غادروا إلا بعضهم. أطفِئت المصابيح. فتلاشت الخنافس والحشرات ابتلعها مكانٌ ما. وبرز نور نجمة السماء، فاختفى العربي بمنكبيه العريضين داخل غرفة وأغلق عليه الباب. جمهور من عائلته وعائلة العروس في انتظاره. 
كانت العجائز أمام الغرفة يجلسن على الأرض ينتظرن… اشتد لغطهن إلى أن دبّ المللُ في نفوسهن، فصاحت إحداهن بدا أنها جدة العربي: 
– أوْلاد اليوم ما تيحمْروشْ الوجَهْ…*
ردّت عليها فاطْنة كأنها تنهرها:
– وانتِّ اصبري. مالكي على هاذ الزّرْبة*… الرجل يالله دْخل..
هزّت كتفيها الهزيلين، وأطبقت فمًا بلا أسنان، لتُحدثَ صوتا:
– أشمن راجل؟ الرجولة مشات مع جده… سوْليني أنا.
أصاب هذا الحديث آذان رفاق العربي، وكانوا في الخارج عاكفين، فهمس عليّ في أذن جاره مازحًا:
– موحالْ هاذ المسخوط واش اقضيها… لم يمنع عن نفسه خمرا ولا حشيشا.
قامت جدة العربي بعد صبرها المرير تطرق الباب من الضجر. كفها مخضّبة بالحناء حتى اسودّت راحتها. تتمتم: تأخر هذا المسخوط…
بدأ الليل يفقد سوادهُ تدريجيا ويستسلم لبعض ملامح الفجر حين انفرج الباب، فاستعدّ الجميع… 
النساء تأهبن ليطلقن الزغاريد إعلانا عن تحقيق النصر المنتظر. أخيرًا سيرفعن العلم عاليا أمام أعين الحاسدين المتربصة التي تتمنى لعائلة “عبد السلام ولد رحمة” الشماتة… وها هن الشابات يستبشرن، وعلى شفاههن أثر نشيدٍ ينتظر الانطلاقة. نشيدٌ يرد بالحجةِ الكيدَ والعار.
انفرجَ الباب، خرجت رائحة العرق، فظهر العربي يترنح. بقع الدم على قميصه بارزة الاحمرار. ينادي على والدته العجوز… أمي و… أمي.
اقتربت منه، سائلة:
– ماذا هناك، واش صافي؟
– لا لا، دخلي شوفي هذي مالها؟
تهمّ باقتحام الغرفة، فتسبقها أمّ العروس… 
تطلق من داخل الغرفة صرخة هيّجت نباحَ الكلاب في الخارج، وأخرست غمغمات الحاضرين ووشوشاتهم القبيحة.
صباحًا أرْقَدوا العروسَ في قبرها، كانت كنجمة انطفأ نورها.
تحدث ناسٌ لم يحضروا العرسَ، أنّ العربي البغل، مزّق رحم عروسه باحثا عن الشّرف.
رشيد أمديون
21/05/2013
—————–
* رقصة شعبية يختص بها أهل غرب المغرب في البوادي.* نوع من العزف الشعبي، يستخدم فيه آلة نفخ وطبلة. * لا يرفعون رأسك (كناية عن الافتخار بهم) * الاستعجال
_______
*كاتب من المغرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *