نفس الكفن القديم


* إبراهيم البوزنداكي

(ثقافات) 

كان الخبر قاسيا عليه، صاروخ من صواريخ الشؤم التي تتبعه أينما ذهب و مضى. هذه القوانين الطبيعية التي تصطفي أمثالهم لتصب مصائب على رؤوسهم، واحدة تجعل الأخرى نسيا و كأنها لم تكن. لماذا هو بالذات من عليه أن ينقل الخبر؟
جر قدميه جرا نحو زبون يصيح باسمه: غارسون! غارسون!
لحقه بجسده المنهك، و روحه ما زالت هائمة تعلو و تعلو باحثة عن حل. تحدث الزبون بصوت عميق و كأنه يأتي من قاع جرة: ناولني كوب قهوة سوداء.
يصيح كل هذا الصياح من أجل كأس قهوة! يا للعجب!
عاد أدراجه إلى (الكونتوار) ليحضر القهوة دون أن يحدث صوتا. ماتت لديه الكلمات، لم يعد بحاجة إليها. كانت تعينه على إيصال المعنى إلى الآخرين أما الآن فهو مشتت مضطرب و الكلمات لا تجد طريقها إلى لسانه.
لماذا يريدون قتل الأدب؟ لم يغتالون الثقافة أمه بجعلها ثكلى؟ كيف يخبر أحبابه أن لقاءاتهم ملغاة منذ اليوم، محظورة؟
جلس فوق كرسي عال من دون مسند ظهر يفكر في طريقة سلسة يخبر بها الأساتذة عن القرار الفجائي الخطير المفروض عليهم. أدار في رأسه أفكارا كثيرة كلها صادمة و ليس بينها واحدة لبقة.
تدبر سحنة سعيد خادم (الكونتوار) القصير الذي لا يهمه الأدب من قريب أو بعيد، ربما يكون هو الحل. لكن لا، سيخبرهم بقسوة منقطعة النظير فهو لا يبالي بشعور الآخرين. نفضه من ذهنه و أسند جانب حنكه بيده في عصر مستميت لدماغه من أجل إيجاد الطريقة المثلى لإخبارهم.
في النهاية هم أصحاب ذوق عالي و أهل فن راقي و من غير المستساغ إسقاط النبإ على رؤوسهم بطريقة إسقاط القنابل على الأحياء السكنية من الطائرات. شتم في سره الظروف التي حتمت عليه مثل هذا العمل.
انتفض مع ذكر الفن و الأدب، جال في خاطره أن السر الأكبر للتعامل مع الأدباء و محبي الأدب كامن في الأدب نفسه. خامرت ذهنه فكرة سرعان ما تلقفها بلهفة عجيبة و هو يهب من الكرسي العالي بسرعة كاد معها أن يفقد توازن قدميه. 
أسرع يثب في السلالم عندما وجد المصعد مشغولا بنقل غيره. يقفز درجتين عوض الواحدة و كأنه يخشى أن تهرب منه الفكرة التي خرج بها من الجهد الفكري الذي بذله. دخل الغرفة و انقض على كتبه باحثا عن ورقة بيضاء تصلح أن يكتب عليها. عندما وجدها تناول القلم و جلس جلسة من يريد أن يطيل و شرع يخط على البياص.
******** 
تقاطروا واحدا إثر الآخر كما عهدوا دوما أن يفعلوا. اجتمعوا في ركنهم الخاص بهم و نادوا على النادل.
الدكتور حمودة هو من بدأ الحوار و هو يسأل الآخرين عما سيشربونه في محاولة منه للدخول في الموضوع دون تلك الثرثرة الجانبية التي عادة ما كانت تبتديء بها جلستهم. أتاهم النادل مترنحا متجهم الوجه يدير عينيه في وجوههم و كأنه يراهم لأول مرة أو انه سيراهم لآخر مرة.
مجددا أخذ الدكتور حمودة زمام الحديث موجها إياه للنادل و قد استشف ما تخفيه قسماته المتجهمة:
ما بك يا صالح، أما زلت تبكي الجامع الذي احترق، تب إلى رشدك و تذكر أن التاريخ لا يموت باندراس آثاره.
كان من جانب الدكتور حمودة تدخلا رائعا في مشاعر صالح النادل لذلك وجد صالح على أتم الاستعداد ليشكو، فأجابه:
بل يموت يا سيدي، كيف سيتذكره أبناؤنا إذن؟ لكن هذا ليس موضوعنا. اسمحوا لي رغم أنني مجرد نادل بسيط أن أتحدث قليلا.
أشاروا إليه بالحديث، فأكمل و قطرات من العرق تتجمع على جبهته:
أنا أتتبع اجتماعاتكم و احضرها بحسب ما يسمح لي به عملي، و أنتم تعرفون حبي للأدب و للثقافة، و حب الأدباء يسري في دمي.
سكت ليستشعر وقع كلماته على الحاضرين، لكن نظرة إلى أحمد أستاذ الفلسفة الشاب تنبئه أن التبرم غير بعيد. لذلك سرع من أسلوبه في الكلام.
اليوم كما أعرف ستناقشون قصة الدليل لكاتبها تقني البلدية الشاب، لكن ألتمس منكم أن تؤجلوها و تقرأوا عوضا عنها هذه التي في يدي. إقرأوها فحسب دون أن تكلفوا أنفسكم عناء مناقشتها.
بدا الاستغراب في وجوه الجميع جليا إلا صاحب قصة الدليل الذي نهض غاضبا و تحدث بصوت عال:
من أنت حتى تحل قصتك محل قصتي، أنت تعرف القواعد و ما عليك إلا إتباعها، يجب أن تنتظر دورك.
لم يدافع عن نفسه ضد الهجوم و إنما سلم الأوراق للدكتور حمودة و نكص على عقبيه لإحضار المشروبات المطلوبة.
و في حدة بدا التقني صاحب القصة التي كان من المقرر أن تناقش في الجلسة غاضبا، أرغى و أزبد واتهم النادل بالقفز على أدوار غيره. حاول أصدقاؤه أن يثنوه عن إحداث الجلبة و إفساد الجلسة و التعامل مع الأمر بعقل و خصوصا أن النادل ليس له سوابق في هذا الأمر و كذلك اكتفاؤه بقراءة قصته دون مناقشتها.أقنعوه في آخر الأمر، و تم تفريق الأوراق، و أحضرت المشروبات، و اختفى النادل.
قرأوا القصة، و هناك من أعاد قراءتها مرتين أو ثلاثا و خصوصا الدكتور حمودة، إذ وجد فيها شيئا غير مألوف في قصص الشباب الآخرين. تنهد في صوت مسموع و قال:
قصة جميلة ذات مغزى.
ثم انكب على الورقة يقرؤها من جديد.
قال أحد الشباب الحاضرين: 
بل هي قصة سخيفة غارقة في التشاؤم .
لم يجبه الدكتور حمودة و هو يقرأ بدءا بالعنوان الغريب: نفس الكفن القديم 
كان الكهول في اجتماع سري يناقشون أمورا تتعلق بما أوكل إليهم من مهام، عندما أقبل الساحر في بزته المعروفة وأبهته المعهودة ناشرا أمامهم قرار القاضي بنبذ ما يقومون به من اجتماعات و الاكتفاء بما يتوصلون إليه من فرديات. أصابهم القرار المفاجيء بعقم صوتي لم يستطيعوا إثره النبس بحرف واحد و كأنهم تماثيل زينة كانوا من قبل رجالا عظاما أحالهم مثل هذا القرار إلى التقاعد فتحولوا إلى أحجار صنفت على أنها إرث تاريخي لا يجوز لأحد أن يمد يده لينفض عنه الغبار. انصرف الساحر و في نفسه زهو منطلق يجوب أرجاء الدنيا. عقب من لدنهم و هو يحس بنشوة فوز على الكهول الحمقى المدعين الغافلين المتوركين لقراءة كتاب يصبون عليه أنواعا من التقديس ليست فيه و لا عليه و لا إليه…
هذا الكلام الناضج الرجراج المكتوب على هذه الورقة البيضاء أوقع في نفس السائح أثرا بالغا فنهض من فوره و قال:
أشم رائحة غير عادية في هذه القصة. لو أردتم رأيي فالنادل أراد أن يخبرنا أن جلساتنا لم يعد مسموحا بها فصبها في قالب قصة، و إلا لم قال اقرؤوها فحسب دون أن تجهدوا أنفسكم بمناقشتها؟؟
لما أداروا الكلام بينهم وجدوه محقا، فاستحضروا صاحب المقهى و بالغوا في الإلحاح حتى حضر. ذلك أنهم لما طلبوا النادل لم يجدوا له أثرا، سألوا عنه خادم الكونتوار فأخبرهم أنه ترك العمل في المقهى قبيل لحظات و اختفى.
تساءلوا جميعا أمام صاحب المقهى : 
مالذي يجري؟
فقال دون أن ينظر إليهم :
اجتماعاتكم أصبحت محظورة، و كل اجتماع من أكثر من خمسة أشخاص لا بد له من ترخيص مسبق، و كنت كلفت ذلك النادل الغبي أن يخبركم إلا أنه فضل سياسة الهروب على سياسة المواجهة.
قال ذلك بوجه فظ دون أن يعير استنكاراتهم أدنى اهتمام، و مضى في مشيته المختالة نحو مدخل المصعد.
******** 
بعد بضعة أشهر، مر الدكتور حمودة بالحي الذي يتواجد به المقهى الثقافي الذي منعوا من الاجتماع فيه، فدب في دواخله حنين لرؤية المكان الذي طالما سهر فيه مع أصدقاء الفن و الأدب فعرج إلى الشارع المسمى علال بن عبد الله وفي نفسه أمل أن يكون فيه بعض من أصدقاء الكلمة و الفضيلة. خطوات ثقيلة ملأى بالأمل الذي يحدوه أن يكون الأدباء يجتمعون مجددا دون إخباره، يرفع قدما و يؤخرأخرى. استغرب و هو يرى الديكور الجديد الذي ظهر به المقهى من بعيد. أضواء مشعة و لافتة إلكترونية لم يستطع أن يقرأ ما كتب عليها لضعف بصره. لم تفارقه نقطة الأمل التي بقيت من الكأس التي انطلق بها في حياته فأسرع الخطو متجاوزا الوراقة المغلقة ذات الصيت العالي التي كان يشتري منها القصص و الروايات في صغره.
وصل المقهى و بدت اللافتة الآن ملفتة مكتوب عليها : كازينو.
لم يقاوم الدخول و هو على العتبة التي يحرسها شاب مفتول العضلات مكتوب على جبينه : شقاوة. لم يمنعه الحارس الضخم من الدخول، و كان مما استغربه. لما دخل و جد طاولات كثيرة و أناسا يعدون بالمئات، مجتمعين من أجل سويعة بهجة تقذفها في قلوبهم مغنية شبه عارية تدور و تبرم كفلها في تحد صارخ لكل القيم، فانبجست القطرة الباقية في كأس أمله وانسكبت و لطخت أرض الملهى.
____________
*كاتب من المغرب 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *