متعة وألم أن تكون أديباً


* زياد خداش
ممتع ومؤلم أن يكون الإنسان أديباً، يرى ما لا يرى الناس، فتكتوي عيناه بالنار وتزدهر بالماء، يحسّ بشكل مركّز فتلدغ يديه العقارب الخفية، وتنمو في باطن كفيه الأغاني، ينتبه بشكل أعمق، فتصدم روحه الحدود القصوى للأشياء وتعيث في عينيه المدن خراباً جميلاً، يتوقف عند أشياء وأمور تبدو للآخرين عادية جداً وبسيطة، لكنه يهزّ عاديتها برنين وعيه المختلف، فتسّاقط منها رطب المعاني الغريبة، ممتع ومؤلم أن يكون الإنسان أديباً، يتألم نيابة عن الناس، ليحوّل الألم إلى رؤية، يخاف قبلهم ليحيل الخوف إلى معرفة، يسافر إلى البلاد الأخرى، البعيدة ليقترب أكثر من بلده، ليعرفها ويحبها أكثر، ممتع ومؤلم أن يكون الإنسان أديباً، يكتب روح الشيء لا الشيء، يصير روح المكان لا المكان، يصدم ذائقة، يدمر نسقاً، يخترع شلالاً، ويبني ذاكرة. ممتع أن نبنى ذاكرة شخصيات غير موجودة في الحياة، ثمة ذاكرة «لكمال عبدالجواد» في ثلاثية محفوظ، وأخرى «لسانشو» رفيق «دون كيشوت» في رحلة وهمه الكبيرة، و«هولدن» في «الحارس في حقل الشوفان» لسالنجر. في زمن قديم تمنّى شاعر فرنسي أن يصبح كل الناس أدباء، كرهت أمنيته، لم أفهمها، كيف يمكن أن يزول من الحياة القارئ؟ «أقصد القارئ الذي ليس أديباً»، كيف ستتحمل الحياة كل هذا السيل من الحساسية؟ من سيقرأ أدبنا؟ من سيعطينا معنى لألمنا وجمالنا؟ من سيغذّي نصوصنا بالدهشة والمعرفة والأسئلة؟ يقع اختيار الطبيعة على بعض الناس، لمنحهم حساسية خاصة، شفافية نادرة، وقعاً لا شبيه له، فيمضون في رحلتهم الحلوة المعذبة ليرووا لنا من خلال مناظير قلوبهم المرتعشة مفارقات حكايات الحياة، يفضح الأدباء شكل الوقت في بلادهم، يعيدون تشكيله وفق الأعدل والأشمل والأجمل، يهدرون في زمانهم كباخرة مستعجلة في بحر كسول وصامت ليحموا الناس من ركود الموج، وموت الشواطئ، يستعيرون للناس عواصف مجنونة لتحصين الأرواح من ابتذال الرمال ولون القوارب المكرر الكابي، ولمنح أسماكهم ولادات جديدة، مؤلم وممتع أن يكون الإنسان أديباً، إلهي، من ينسى ألم دستوفسكي؟ من يتجاهل رؤاه المدمرة وهي تأكل وقته وتسبيح روحه؟، لا أثق بأديب لا يتعذب، كما لا أثق بإنسان لا يبكي في الليل، عذاب الأديب أو الفنان هو الوجه الآخر للعذوبة التي يهديها لنا ولنفسه، العذوبة التي لا تعني بالضرورة النشوة أو الفرح، هي أقرب إلى روح الاكتشاف والطفولة والاندهاش والتجدد واليناعة القلبية والاخضرار، في رسائله إلى شقيقه ثيو يكتب الرسام العالمي الشهير فان جوخ: «لا فرصة أمامي للتوقف عن الرسم، الرسم ملتصق بي التصاق الاسم بالإنسان، لكني في المقابل لا أقدر ببساطة على تحمل كل هذا الحنين والألم الغامض الذي يسبق ويعقب كل لوحة».
_____________
* كاتب وقاص من فلسطين
(الإمارات اليوم)

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *