*أحمد بزون
من يتجول بين أعمال النحات بيار كرم يأخذه مشهدان، واحد يجمع تماثيل لشخصيات عامة يلتزم بدقة تقديمها، وآخر يعبّر فيه عن مشاعره وأحلامه ورؤاه الفنية. فيبدو في الأول كلاسيكياً ومتيناً ومطمئناً وراضياً وهادئاً، وقد اشتغل بحِرَفية عالية، وفي الآخر حداثوياً مسكوناً بتوتر الإبداع وقلق الخلق. هنا يعبّر عن حقيقة يغلب عليها الخارج، وهناك يعبّر عن حقيقة يغلب عليها الداخل. والمسافة بين الأمرين هي مسافة بين زمن مضى لا يزال الفنان يحنّ إليه، وزمن حاضر يرضي ذاته وعصره وقناعاته الجديدة.
أول ما يلفت في تجربة كرم أنه ينحاز بشكل واضح إلى النحت بمادته الأولى، الحجر، كأنه يذهب إلى نبل النحت، إلى أساسه، إلى تاريخه والتصاقه بالطبيعة، إلى فتنة الخلق من جماد صلد، إلى تحدي الصعوبة. فهو لم يذهب إلى الخشب أو أي مادة نحتية أخرى، حتى أنه فضل أن ينحت ويجسّم، بعيداً عن البناء بالصلصال الرخو، إلا إذا كان ذلك مطلوباً. أي أنه يفضل أن يمارس عشقه للحجر، حتى وإن كانت المغامرة أصعب في صنع تمثال.
خص كرم بتماثيله رجال دين وفنانين وسياسيين وأدباء، وجلهم من الرموز اللبنانية المعروفة، فكان دقيقاً وحرّيفاً في إجادة الشبه، وإبراز ملامح الوجه تماماً، متحدياً التفاصيل الدقيقة منها، علماً بأنه اعتمد في تجسيم بعضها على صور لراحلين، وكان عليه أن يجسّم الصور، ويختار اللقطة المناسبة، أو اللحظة التي تختصر شخصية صاحبها. فلم يكن تشخيصه هادفاً إلى إجادة الشبه وحسب، إنما أيضاً إلى تصوير السمات الشخصية، التي غالباً ما توحي في شخوصه بعظمة ووقور. فلم يكن ناقلاً وأميناً للواقع ومهتماً بإبراز معالم الوجه وصانعاً حذقاً وحسب، إنما كان أيضاً صائداً للحظة مكثفة ومعبرة وجامعة للكثير من الصفات الشخصية.
الجانب الآخر من أعمال بيار كرم يقوم على هدم القديم و«تشويهه»، وانتهاك التجسيم الأكاديمي، والسخرية من طبيعة الأشياء والأجسام، فهو يعبّر أولاً وآخراً عن أشكال يكتشفها داخله، ويقدم حصيلة مغامرة يرفض فيها الواقع كما هو، فيجرده من تفاصيله ساعياً نحو جوهره، ونحو الفكرة التي يريدها أو تتحرك داخله، لا الطبيعة الماثلة أمامه، مبتعداً عن مقولة «أفضل الفن أصدقه»… ومع ذلك فتجريده ليس صادماً، بمعنى أنه لا يلغي وضوح الشكل الإنساني، إنما يعمل على الاقتراب من جوهره وحقيقته. لذا نراه يوحي بالشكل من دون أن يؤكده، ويختزل التفاصيل ما أمكن، بل يكتفي بأن يضيء الكل بالجزء أحياناً.
أكثر ما يصور في منحوتاته الحديثة العري، بشقيه الأنثوي والذكري، وإن كان الميل إلى المرأة العارية أكثر حضوراً، بل هو يقدم جسد المرأة كأنه لعبة موسيقية مرة، ثم تقسو خطوطها بزوايا حادة مرة أخرى، تبعاً للحالة التي يعبر عنها.
يهتم الفنان بلعبته فيعالج المادة الحجرية بطول أناة، مدارياً الملمس وحركة الضوء، وصائغاً حوارات لا بد منها بين سطوح مختلفة، مستفيداً من قدراته التقنية العالية، وحرفته ومهنيته، همّه أن ينقل المنحوتة من جمال يوناني هادئ وساكن إلى حركة عارضة معترضة، حركة تتأسس عليها حرية الفنان، فينتقل بالعري من الكلاسيكية الرفيعة المحافظة إلى التحرر من أي قيد، أي من التمثال الأمبراطوري الصارم إلى الحرية المفتوحة على آفاقها الواسعة. ذلك أنه يتعامل هنا مع حسه، دافعاً الجسد ليتأرجح بين جمالية عذريته وجمالية بوحه وفجوره. يفعّل الشكل وهو يحذف منه أو يختزله، معتمداً على التناقض بين أصله ودرجة تطوره، أو يقدم حواراً في أعماله بين الشكل الممتلئ والآخر الذي يدخل الهواء إليه، بل يكتفي بأجزاء منه. وكثيراً ما يبقي الجسد العاري متصلاً بالحجر الذي خرج منه، ليبدو خارجاً منه للتو، أو مولوداً لحظة تراه.
([) مقاطع من مقدمة لكتاب يضم منحوتات بيار كرم، يوقع في خلال معرض يضم خمسين منحوتة له، يفتتح السادسة مساء غد الخميس، في الباحة الخارجية لجامعة الروح القدس زوق مصبح، ويستمر لغاية 19 الجاري.
_____________
*(السفير)