المسرح بين الربيعين العربي والفرنسي


* صميم حسب الله

تعد الثورة واحدة من الأفعال الاجتماعية الأكثر ارتباطا بالوعي الجمعي بما فيها من متغيرات تسهم في تشكيل الثقافة المناهضة للسلطة ، إذ تعمل الثورة على إنتاج مفاهيمها المعرفية الخاصة التي غالباً ما تكون منسجمة مع وعي القائمين عليها، وقد كان للشباب الدور الريادي في صناعة تلك التحولات ولاسيما تلك التي أنتجتها ثورة الطلاب في فرنسا عام (1968) والتي انطلقت شرارتها من المتن المعرفي المتمثل بالجامعة لتشمل المجتمع الفرنسي والمجتمعات الأوروبية المختلفة ، وتعود أهمية تلك الثورة التي لم تزل آثارها حاضرة حتى اليوم إلى تفاعل عدد من المثقفين الفرنسيين معها مثل (سارتر وماركيوز وغيرهما ) والعمل على بناء مشروع فكري ينسجم مع طروحاتها، وبذلك جاءت أفكار (سارتر) التي تنادي بأهمية الإنسان وضرورة حضوره الفاعل بوصفه ذاتاً منتجة للمعرفة ، والسعي وراء وجودية الإنسان بوصفه وجوداً مستقلاً في ذاته وذلك تعبيراً عن رفض الحرب التي تنتقص من حرية الانسان وتسعى إلى إقصائه من الوجود، فضلا عن ذلك فإن ظهور المناهج النقدية الحديثة التي دعت إلى مغادرة المفهوم السياقي الذي يعتمد على قراءة المنجز المعرفي بما يتوافق مع حياة المؤلف .

ولم يكن المسرح بعيدا عن تلك الطروحات النقدية بل على العكس من ذلك فإن فاعلية المسرح أخذت تتبلور على نحو خاص من خلال طروحات عدد من المسرحيين الذين يقف في مقدمتهم الكاتب الانكليزي (جون أوزبورن) الذي دعا في مسرحيته الشهيرة (أنظر إلى الوراء بغضب) والتي جاءت تعبيراً عن غضب المجتمعات الأوروبية من الماضي الذي يعيد إلى الذاكرة هيمنة السلطات التوتاليتارية (الشمولية) التي أسهمت في تفعيل الصراعات الاثنية والعرقية بين الشعوب كما هو الحال مع رغبات (هتلر/ النازية) التي دعا فيها إلى سيطرة (العرق النبيل) المتمثل بالشعب الألماني على باقي شعوب الأرض وطموحه في السيطرة على العالم ، الأمر الذي أنتج الحرب العالمية الثانية التي أدت إلى دمار كبير في المجتمعات الأوروبية وما دعوات (اوزبورن) إلا من اجل رفض تلك الطروحات والعمل على تجاوزها من اجل إعادة بناء الإنسان الباحث عن السلام والحرية . 
ولم تكن الثقافة العربية بمعزل عن تأثيرات ثورة الطلاب (الشباب) بل على العكس من ذلك فإن عددا من المثقفين العرب تفاعلوا معها مستفيدين من التحولات الكبرى التي أنتجتها على مستوى الخطاب المعرفي الذي تشكلت من خلاله ثقافة جيل كامل لم تزل طروحاته الفكرية حاضرة في الثقافة العربية.
ذلك إن مرحلة الستينات تعد العصر الذهبي للثقافة العربية المعاصرة بما فيها من انفتاح على الثقافة الأوروبية والتي جاءت بعد مرحلة معقدة من التحولات السياسية التي أطاحت بعدد من الحكومات الملكية كما هو الحال مع ثورة (1952) في مصر وثورة (1958) في العراق، والتي تمكنت فيها السلطة العسكرية من الهيمنة على الحكم ، وقد أدت تلك التحولات إلى عدد من التغيرات في بنية المجتمع الثقافية لاسيما في مرحلة الانفتاح التي منحت المثقف العربي فرصة في التعاطي مع الثقافة الغربية والإفادة منها في تطوير الثقافة العربية بما ينسجم مع تطلعات السلطة العسكرية التي باتت تحكم البلاد مستفيدة من شعارات الحرية والديمقراطية . 
ولم يكن المسرح في الوطن العربي بمعزل عن الثقافة بل على العكس فقد لعب دوراً فاعلاً في تبني التيارات المسرحية الحديثة ، التي بدت حاضرة في تجارب عدد من المسرحيين الذين تشكلت رؤاهم الإخراجية عن طريق دراستهم للمسرح في أوروبا ، الأمر الذي أنتج أساليب مسرحية عربية تمتلك مرجعياتها في المسرح العالمي ، لاسيما مسرح الألماني (برتولد بريخت) الذي كانت نصوصه حاضرة في المسرح العربي فضلا عن تجاربه في المسرح الملحمي والتي لاحقت حضوراً فاعلاً في تجارب بعض المسرحيين العراقيين الذين عملوا على تبني أبرز أفكاره كما هو الحال مع تجارب المخرجين (إبراهيم جلال و عوني كرومي) ، فضلا عن ذلك فإن توجهاً مغايراً نحو مسرحة التراث العربي كان قد ظهر في تلك المرحلة كما هو الحال في تجارب المخرج المسرحي المغربي (الطيب الصديقي) فضلا عن تجارب العراقي (قاسم محمد) التي أسهمت هي الأخرى في إعادة إنتاج التراث العربي على خشبة المسرح ، وفي مرحلة لاحقة ظهرت توجهات جديدة في المسرح العربي أعطت أهمية للشكل المسرحي ، وقد بدا ذلك واضحاً في تجارب مسرح الصورة التي يقف المخرج (صلاح القصب) في مقدمة المشتغلين عليها وذلك من خلال إعادة قراءة للمتن المسرحي العالمي بصرياً وقد تمثلت تجاربه في مسرحيات (شكسبير وتشيخوف وغيرهما) ، وتقف تجارب المخرج (جواد الأسدي) في طليعة التجارب المسرحية التي عمل فيها على المزاوجة بين المتن النصي بما فيه من طروحات فكرية ، والمتن البصري الذي يتكون بفعل السينوغرافيا البصرية وديناميكية الأداء الجسدي الذي أمتلك الممثل فيه حضوراً فاعلاً، ولم تكن تجارب كل من (سامي عبد الحميد ، و فاضل خليل ، وعقيل مهدي ، وغيرهم) بعيدة عن التيارات المسرحية التي شكلت بمجملها أساليب مسرحية استطاعت ان تؤكد على وجود حركة مسرحية قادرة على تقديم التراث الإنساني بأشكال مسرحية متنوعة، ولم يقتصر الأمر على حركة المسرح في العراق بل تعداه إلى تطور كبير للمسرح في دول الوطن العربي الذي باتت تجاربه المسرحية حاضرة في المهرجانات الدولية بما تمتلك من خصوصية على مستوى الشكل والمضمون.
إلا أن الواقع السياسي غير المستقر ألقى بظلاله على المسرح ،الأمر الذي جعل الحركة المسرحية في الوطن العربي تمر بمراحل من الازدهار لحقتها مراحل من الانهيار والسقوط في دوامة المسرح الهابط أو ما يسمى (المسرح التجاري) الذي يسعى إلى إلغاء العقل المفكر مقابل تفعيل الغرائز والشهوات وإثارة الضحك على العقل البشري، والذي غالباً ما كانت السلطة تقف وراءه من اجل تهميش الدور التحريضي للمسرح، الأمر الذي أسهم في انحسار المسرح وتحويله من فن جماهيري يشارك في رصد هموم (الفلاح والعامل والمثقف) إلى فن نخبوي تقتصر المشاهدة فيه على ذوي الاختصاص وبعض المهتمين بالثقافة المسرحية ، فضلا عن ذلك انتشرت ثقافة المهرجانات المسرحية الدعائية التي تفتقر إلى عناصر الخبرة والإبداع ، والتي كان يفترض بها ان تكون رافداً لتقديم العروض المسرحية المثيرة للجدل ،إلا إن السلطة عملت على تحويلها إلى فضاءات فقيرة للتواصل المعرفي تحجب طموحات المسرحيين في إعادة الثقافة المسرحية إلى الوعي الجمعي .
الربيع العربي والمسرح : 
حققت ثورات الربيع العربي صدمة كبيرة للسلطة التي لم تكن تتصور أن الشباب العربي يمكن أن يغير الهيكل التنظيمي الذي تتكئ السلطة عليه ، فضلا عن ذلك فإن شباب الربيع العربي كشفوا عن وعي متقدم دفع بالعديد من المفكرين العرب إلى إعادة تقييم الشباب وهو الأمر ذاته الذي حصل مع شباب ثورة الطلاب الآنفة الذكر إلا ان الاختلاف يكمن في أن المفكر الأوروبي استطاع الالتفاف حول الشباب وتنظيم أفكارهم والتفاعل معهم من اجل أن تمتلك الثورة سبل نجاحها بعد تحقيق الأهداف التي كان يراد منها تغيير الأنظمة التسلطية ، إلا ان ذلك لم يحصل مع ثورات الربيع العربي، ويعود ذلك إلى أسباب عدة منها : أن العقل العربي لم يكن يتصور أن الشباب يمتلكون القدرة على الإطاحة بالترسانات العسكرية التي عملت السلطات الدكتاتورية على بنائها طوال العقود الماضية، والسبب الآخر يتمثل في عدم إيمان العقل النقدي العربي بالجيل الجديد وقدرته على تغيير الواقع الذي لم يتمكنوا هم أنفسهم من تغييره على الرغم من قدرتهم في بناء مرتكزات فكرية ومعرفية فاعلة في المجتمع، إلا أن النتيجة كانت على العكس من ذلك حيث نجد أن المثقف العربي اختار الركون إلى الصمت ليكون بديلاً عن التفاعل مع التحولات الكبرى ، مما أتاح الفرصة أمام التيارات الدينية التي كانت تعاني من القمع والتهميش لتكون حاضرة في ساحات الربيع العربي بوصفها الممثل الشرعي للوعي الشعبي الذي تخلى فيه المثقف العربي التقليدي عن اتخاذ دوره في تحقيق طموحات الثورة ، على العكس من الدور الفاعل الذي لعبه المفكرون والفلاسفة في أوروبا أبان ثورة (1968) والتي لم تزل تجلياتها المعرفية حاضرة ، على العكس من ثورات الربيع العربي التي بدأت تتحول إلى خريف تتنازعه الصراعات الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية والعنصرية والفئوية والحزبية ، والتي اعتمدت سبل الإقصاء والتهميش مستفيدة من المقولات الدينية التي تمنح أسبابا عدة في التكفير والتحريم .
ولم يكن المسرح بعيداً عن مفاهيم التحريم التي أطاحت بالعديد من المنجزات المسرحية وتحت مسميات مختلفة منها ما يرتبط بانتمائه إلى السلطة السابقة ومنها ما يخالف المنظومة الدينية ، وقد باشر القائمون على صناعة الثقافة في حكومات الربيع العربي إلى إلغاء عدد من المظاهر المسرحية التي باتت تشكل ظاهرة ثقافية قارة امتلكت خصوصيتها في الثقافة المسرحية العربية والتي يقف في مقدمتها إلغاء مهرجان (القاهرة الدولي للمسرح التجريبي) الذي كان رافداً مهماً في تقديم التجارب المسرحية العالمية منها والعربية فضلا عن تقديمه عدداً من المطبوعات المسرحية التي أسهمت في تواصل المسرحيين العرب مع الطروحات المسرحية العالمية ، كذلك كان الحال مع إلغاء مهرجان (قرطاج المسرحي الدولي) والذي يعمل عدد من الشباب المسرحي على إعادته إلى الحياة بعد ان تم إقصاءه من الثقافة المسرحية العربية التونسية .
أن هيمنة التيارات الدينية المتطرفة على المؤسسات الثقافية ؛ دفع بالعديد من المسرحيين إلى مغادرة المسرح واللجوء إلى قنوات إبداعية أخرى مثل السينما أو التلفزيون او تقديم البرامج الحوارية ، وبرامج (التوك شو) ، فضلا عن ذلك فإن توجه بعض العروض المسرحية إلى اعتماد الملفوظ اللغوي الشعبي التي بدأت تظهر في الأوساط الثقافية والتي باتت تعتمد على الثقافة الشعبية المكونة من الشعر الشعبي والحكايات الشعبية والأساطير والملاحم التي تقدم على شكل عروض مسرحية ، فضلا عن ذلك فإن عددا من المسرحيين اختاروا التواصل مع المنظومة الدينية من خلال تقديم عروض مسرحية تنسجم مع الطروحات الدينية عن طريق اللجوء إلى التأريخ الإسلامي واستنباط الأفكار والشخصيات والعمل على توظيفها في العرض المسرحي ،والتي نذكر منها العرض التونسي (طواسين) إخراج (حافظ خليفة) الذي اختار اللجوء إلى تاريخ المتصوفة وجرجرتها إلى العصر الحديث والعمل على مشاكسة المنظومة الدينية ضمن رؤية إخراجية امتلكت خصوصيتها الجمالية والفكرية ، والأمر ذاته مع العرض المسرحي السوري (مولانا) إخراج (غزوان قهوجي) الذي أفاد من الشكل الصوفي وعمل على توظيفه في عرض مسرحي جاد ، كما إن العودة إلى المظاهر المسرحية الأولى التي طالما كان المسرح العربي يتكئ عليها بوصفها الجذور الدرامية التي تكون منها المسرح الذي يرجعه بعض الباحثين إلى طقوس التعزية ، الذي بات يسمى اليوم (مسرح التعزية) والذي يعتمد المشتغلون فيه على متن نصي تأريخي يرتكز على مأساة (الإمام الحسين بن عبد الله) والتي عمل عدد من المسرحيين على توظيفها في بنية مسرحية ابتداء من نصوص الكاتب المصري (عبد الرحمن الشرقاوي) في مسرحيات (الحسين ثائرا و الحسين شهيدا) ومسرحية (الحر الرياحي) التي كتبها الشاعر العراقي (عبد الرزاق عبد الواحد ) وصولا إلى مهرجانات مسرحية بدأت تأخذ دورا فاعلاً في تكوين عروض مسرحية تفاعلت مع الطقس الديني ، نذكر منها مهرجان (النص المسرحي الحسيني) ومهرجان (ينابيع الشهادة) في العراق، وتأتي فكرة تقديم الطقوس الدينية على مستويين احدهما امتلاك الحدث التاريخي عنصر الصراع الدرامي المتمثل بالواقعة التاريخية ، فضلا عن أن تلك الطقوس كانت مغيبة في زمن السلطة السابقة، واليوم باتت متاحة أمام الراغبين بتقديمها على خشبة المسرح، وعلى الرغم من انها تعتمد منظومة التكرار الايقوني للحدث التاريخي إلا انها تجد فاعليتها في الوعي الجمعي بوصفها طقساً دينياً .
اما المسرح التجريبي الذي يتخذه الشباب العربي أسلوبا في تقديم العروض المسرحية فقد تحولت توجهاته بعد ثورات الربيع العربي ليتخذ أشكالا مغايرة لما كان عليه ، ومن أبرز خصائص هذا الشكل المسرحي :
1- مغادرة النص المسرحي التقليدي واللجوء إلى النصوص المسرحية التي تتكون داخل البروفات المسرحية .
2- التفاعل مع اللغة المحلية والعمل على إلغاء اللغة العربية الفصحى من اجل تفعيل التواصل مع المتلقي والتفاعل مع اللهجات الشعبية ذات الخصوصية المحلية.
3- عدم اللجوء إلى الأفكار الفلسفية الكبرى والعمل على تفعيل الأفكار التي تتكون من الحدث اليومي ومنتجات الشارع ومتغيراته المتسارعة.
4- بدأ المسرح العراقي بعد التغيير يعالج مواضيع الإرهاب ، والحروب المتعاقبة التي كان النظام السابق يعمل على تفعيلها من اجل إرضاء نزواته ، فضلا عن تناول قصص الضحايا الذين سقطوا جراء المقابر الجماعية وغيرها من الحكايات التي أسهمت في إثارة تفاعل المتلقي معها.
5- امتازت الأشكال المسرحية بالخشونة والعنف البصري وذلك من اجل خلق معادل موضوعي بين واقعية الحياة وقسوتها وبين الحدث الذي يقدم على خشبة المسرح.
6- انحسار دور المرأة في المسرح وذلك لأسباب عدة أبرزها التوجهات الدينية التي تلقي بظلالها على الواقع الثقافي في بلاد الربيع العربي والذي غيب فيه دور المرأة في الميادين كافة.
وعلى الرغم من تلك التحولات التي أطاحت بالبنية التقليدية للمسرح إلا ان التجارب المسرحية التي ينتجها الشباب العربي بدأت تمتلك خصوصيتها التي قد تدفعنا إلى الاختلاف معها بقصد تطوير الوعي الجمالي والفكري فيها، إلا أن ذلك لا يمنع من التفاعل مع المتغيرات الثقافية التي من شأنها إنتاج ثقافة جديدة تمتزج فيها طموحات الشباب ورغباتهم في كسر قيود التابو الديني وصولاً إلى مستقبل تفتح أمامه بوابات الحرية .
__________
*(المدى)

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *