* محمد نور الحسيني
على عجلٍ ألملم ما تَناثر من لحم إخوتي ودم أبنائي وما تَبعثر من قمح أهلي وما سال من خوابي جِيراني؛ أدلف كثَكلى إلى المتحف الحربيّ كي أتفقد أَحشائي: صاروخ سكود يتَعقّبني كَأفعوان، الطيران الحربيّ يتفرّسني كَغَنيمة، الخراب يتشهّاني كأنني عمارة في دوما، أو كَرم عنب في داريّا، يسيل لمرآيَ لعاب مصفّحة، يتلمَّظني مدفع هاونٍ، يتلهّى بكهولتي ويحيلني على التقاعد المبكِّر على كرسيّ متحرّك.
¶¶¶
سيرتي تنزف تحت إبط الوطنِ. ركام بيتي ينام على فوّهة ثعبان! على هارموني راجمات الصواريخ تفرّ سنونوات أيامي من سقف الجحيم! أبحث عن مخيّم يلمّ شعثي من الحواجز الطيّارة التي تتكاثر مثل الكَمآت في العتمة، تطعن نظراتي ببروجكتوراتها المتوتّرة، وسط الشهب والدخان والشظايا. أصعد سلَّم الطائرة المتأخّرة نصف ساعةٍ من التوابيت، بدوٌ في ساحة الطيران يتنكَّبون الجثَامين وسط عويل نسوةٍ موشوماتٍ تتهادى الجنائز في القرى؛ كيف الوصول وكلّ هذه الجثث مكدّسةٌ في قسم الشحن!؟ كيف أراكِ وهذا القلب كدْسُ عتاَدٍ ومنزلٌ أُعِدّت حجراته للأسى السريع ولانفعالات الذخيرة وللرثاء!؟
¶¶¶
بيني وبينكِ جسرٌ معلّقٌ من الشّريان الأبهر، بندقيةٌ عوراءُ تقبِض الأرواح َعلى قَدْر ما يقبِض القنّاص، عيونُ الديريات بعد الآن ليست ملاذكَ الآمن، حيّ محطة قامشلي بعد الآن ليس عشّ هواكَ المفضّل، قطار الضواحي متعطّل، أوصال السكة في حمص مقطوعة، حيّ الوعر تَسدّه الحواجز فلا أَصل إلى ذكرياتي، ديك الجِنّ يحثو على رأسه رماد الندم ويغصّ برحيق الورد. لا شارع الدبلان يتذكّرني، لاعبد الباسط الصوفي يطربني بمكاديه، ولا القرنفلي يضمّخ أمسي الآفل بشعل حماسته.
– مدينة َالأميرات متى نكفّ عن دفنِ أميراتكِ الأربع!؟
¶¶¶
في الدير هات كوكتيلاً سريعاً من الرمّان وعصف الريحان واتبعني. أَنحدر من حيّ الحويقة/ جهة الجراديغ ثَملاً من عبق الميماس، مترنّحاً نحو شارع “السادسة إلا ربع” لمّا يعجّ عند العصر بأريج البنات بنكهة الكليجة والنعناع وطعم البابونج والقرفة المزدحمة في مقاهي الرصيف. أمرّ على الفراتي متلبّساً بكلستَان سعدي، والقصف قريبٌ منِّي/ أشلائي مفعمةٌ بنغم الورد، خسارتي مغموسةٌ بِثريد البامياء. كعادتها أرغفة الصاج تتلظّاني في ظهيرة من تنور!
¶¶¶
كيف أنجو مما يتناهى إليّ من زّخات اللهب؟ قريباً من السرد يُعدَم روائي! قريباً من دمه المسفوك تتقصّف فقرات الجسر؛ كابلاته الفرنساوية عن ظهري تَنفصل/ براغي الحكاية تنحلّ على مهل. متى يحتَدم الفيضان!؟
يرتعش البطين الأيسر من كتاب النهر، تنتفخ ضفته اليمنى بالجثَث والرايات السود. الأسماك تزحف عمياء على الشط/ ضحلَةٌ هي القيعان، ضحلٌ الفرات/ الخابور ضحلٌ/ القويق/ العاصيّ/ الأنهار معلّقة من عراقيبها العجفاء؛
– هذا وطنٌ أم مسلخُ أنهار!؟
جبل عبد العزيز/ جبل الأكراد/ جبل التركمان/ جبل الزاوية/ جبال القلمون. هذه جبالٌ أم ساحاتٌ لتمرين الطيران الحربيّ!؟
– هؤلاء طيارون أَم دراكولات وطنية!؟
– سوريٌّ أنتَ أم سمكةٌ عمياء؟!
على الشَّط خنقتها الفيتوات الروسية وفتوى من آيات الله بجواز النحر على مذهب “الممانعة”!؟
¶¶¶
– ظمآن لا فرات يُنجدني ولا خابور يبلّ ريقي ولا القاشوش العاصِّي يردّ لي حنجرتي. لماذا انتحلتَ نبراتي يا إبراهيم!؟ انسللتَ كأنين إلى حضن ناعورة، غفوتَ مثل كمنجة مذبوحة ولم تُكمل مقام النشيد. لماذا يا غيّاث قطفتَ زنابق الشام وفرّطتَ بالياسمين كلّه، قدمتَه مجاناً للجند المدجّجين!؟
¶¶¶
لا القويق يكفّ عن هداياه المتناثرة على أعتاب نصب أبي فراس ولا المعرّي يبرح أطلال المعرّة. جثثٌ لقصائد يافعة، حكاياتُ غرام معرّاة من نبضها، الجلاد ينحرها في المبنى الجويّ؛ وحدي أتفتّتُمن خاصرة النهر، القنابل العنقودية تشتِّتني، الانشطارية بخلاياي تتلهّى كي أسهو عن الترسانة الكيميائية إلى حينٍ من الحنق الأممي؛ كم يلزمنا من خرسانة وكمّامات!؟ كم من حوّاماتِ إسعافٍ ومشافٍ!؟
¶¶¶
النابالم يزيد التحامنا بالأرض! كم طنّاً من المراهم!؟ كم متراً من القطنِ الطّبي!؟ كم برميلاً من الكحول المعقِّم!؟ وكم من معابر إلى نفقِ النّهاية كي إلى ركامنا نؤوب دون خدوش لَامِعِين كالنعوش!؟
¶¶¶
القنّاص الملك/ فَرائسه ما يرِفّ على الأرض/ غرامه في من يتهاوى. بيسرِ فيلمِ صامت؛ يحجبني عن مترين إلى “بوابة الهوى”، في “الكمب التركي” هناك “ليلى المريضة” ممدّدةٌ/ ألجأها “العلاج الكيميائي” المتعثّر، بعدما سدّ أشقاؤها الكذبة معابرهم اليعربية!
¶¶¶
هذا نهر الأرجوان يصبّ قريباً من قلبي. هذا نهرٌ يتَصيّد فيه الأهل دمىً يافعة كُبِّلت؛ فلا تهرول إلا عجلى للتظاهر في “بستانِ القصر”، رؤوسها مثقوبة بالرايات، وحناجرها مترعة باللعنات!
¶¶¶
الشاشة تنحرني لمّا تنهض الكهرباء من نومها، لمّا ينبجس الدم الساطع من ذبذبات ال HD، يورِق شجرٌ فراتي ونبات الغَرب يورِق ويمرح كندف الثلج والشيح يشيح بوجهه عن رياح السموم الثائرة، ولا يجزع لا على ابن طريف ولا على إبرهيم بنِ الخريط الذي يُرهِب بالسرد القصصي! يحكي للجبيلة سيرةَ الشيخِ رمضان شلاش! ولحيّ الشيخ ياسين مسرد القرابينِ: الأب الروائي يختم روايتَه بابنين لعذوبة النهر، ولحكاياته الألف المستفيضة وصفحاته المتدفقة وزوارقه الأرجوانية منذ سومر وأكاد وآشور والسريان والكرد والأرمن ِوالعرب العاربة والمستعربة.
¶¶¶
وشجر الخابور أيضاً ممعن في لوزه المستَضيء؛ فلا يجزع لا على مشعل ولا على “معشوق الخزنوي”، الشجر كائنات لا تموت إلا حطباً متهاوياً يئزّ أزيزاً أريستوقراطياً في شتاء بلّله الظلام بِدمٍ لاحدّ له.
¶¶¶
غزلان الخابور تنحدر من سفوح عبد العزيز صوب برّية ماردين تقلِّد سعيداً الدقوري وِشاح أوركيش. تُقَيّل الأيائل في عامودا قبل الهجرة الأخيرة، على كبد جكرخوين الجريح تنحني، وفي قامشلي عند ضريحه تتناوم من الإعياء والفزع وأخبار الحرب.
¶¶¶
من حيّ المفتي حتى غويران آلام – سيداي تيريز- وقلب بلبله الشادي من العنت والألم؛ من محطة الكهرباء القتيلة حتى “أبو جوان” العليل في العزيزية، من النادي الزراعي في المحافظة حتى استراحة المحطة؛ قدحٌ واحد من جعة “الشرق” يرسب فيه بردى ذابلاً كأنه أغرودة قتيلة، من حي النشوة حيث الشهداء يسهرون ليلتهم الأخيرة في جزيرة القمر؛ تأتي رأس العين مدمّاة، والنبع الكبريتي يأتي، ومطعم سيروب، والأخطاء الفادحة،
والجرائر التي لا ذَرائع لها.
¶¶¶
في تل تمر أين الآشوريون!؟ تعفّنت في الخوابي العناقيد. أين السامرون!؟ إذاً نامت النواطير. في تل تمر لا العصير عصيرٌ ولا الدنان دنانُ!
¶¶¶
في الدرباسية بعد اليوم لا جوان القطنة جوان، ولا شغبه الوسيم مرتسمٌ في اليوتيوب، لكن على ما يبدو أن نبضه طويل سيختلج في الحجر الأنيق كالحقيقة!
¶¶¶
لدينا بترول رميلان، لدينا بُداةٌ مهرة يكرّرون النفط؛ كأنه لَغَطٌ متناثر في الهواء الطلق، وكركي لكي، وتل حميس، وتل براك، وتل احمدي، وتل بيدر، وتل موزان. لدينا بانوراما من التلال الموروثة؛ كم سنورِّث أحفادنا من خرائب وتلال ونفطٍ لإشعال الحرائق في هذا الليل المدلهمّ!؟
¶¶¶
تشتدّ في الشدادي حمحمة الخيل، ترتجف فرس أبي تمام مطعونةً في جاسم، يرتجف سيف نبوءته، محطة الحجاز تترقّب قطاراً لن يأتي، سوق الحميدية في الحداد
“برو” لم يعد في الكار/ دود القزّ منتحرٌ، الحرير يتكدّس في الممرات. أين السيّاح الحجّاج وأين السائحات المتلفعات!؟
¶¶¶
عند الدرج إعدامٌ ميداني في عربين: رصاصةٌ واحدة في الجبهة تكفي. لا تهدروا العتاد ولو كنتم في مستودع للذخيرة!
¶¶¶
في “دامسينكو مول” كنّا معاً، فجأةً دوّى صوته المنحور في كفرسوسة في جوبر في المعظمية في الحجر الأسود في القَدم في القابون في حرستا في برزة في اليرموك في خان الشيح في خان أرنبة في سقبا في زملكا في دمّر والهامة دوّى صوته بمقام “ارْحَلْ”.
¶¶¶
الرأس لرصاصةٍ واحدة. الرقبة للفأس المثلومة. الخاصرة للحربة. السيقان للسواطير. “البلوكة” للتهشيم مصحوباً بالشتائم والقهقهات. والعصا للفلقات ولتكسيرِ العظام.
¶¶¶
القَنّاص ينكح السبطانةَ بِعينه ويزني بسبابته. الملقّم معهِّر القذيفة وشاتم البارود: الحكاية طالت بحسب الرماة والرواة والإعلام الحربي والإعلام المضلِّل وشهود الزور والفبركات والتحليل المضجر وإشاعات الـ”فايسبوك” المراهقة.الحبكة أدمتْنا أكثر مما ينبغي. العقدة مفخخة. المتحف لن يسعنا. الكمب يلفظنا. يلزمنا وطنٌ على وجه السرعة. مقاسُه أكبر من قبرٍ جماعي، حتى ولو على ظهر سكود أو متن غراد. وطنٌ أو خيمة للعزاء. لا فرق!
على سبيل الهوامش:
¶ جكرخوين وسيداي تيريز شاعران كرديان كلاسيكيان توفيا في أواخر القرن المنصرم. جكرخوين دفن في القامشلي وتيريز في الحسكة.
¶ سعيد آغا الدقوري: زعيم الثورة الكردية في عامودا ضد الانتداب الفرنسي؛ رفض عرضاً فرنسياً باقتطاع منطقة الجزيرة (محافظة الحسكة) وجعلها دولة للكرد في ثلاثينيات القرن الماضي.
¶ مكادي: بلدة في غينيا بأفريقيا وعنوان آخر قصائد الشاعر الحمصي عبد الباسط الصوفي المنتحر في مغتربه في 20 تموز 1960.
¶ الأميرات الأربع: أميرات سوريات من حمص حكمن روما في القرن الثاني الميلادي: الاختان جوليا دومنا وجوليا ميسا، وبنتا هاتين الاختين سهيمة وماميا.
¶ إبرهيم الخريط : كاتب روائي تمّ إعدامه مع ولديه في مدينة دير الزور.
¶ (الجراديق- الجراديغ) مطاعم ومقاصف ،على ضفاف الفرات وتحت الجسر المعلّق بدير الزور في واحات خضراء جميلة.
¶ الكليجة : نوع من الحلويات الشعبية – كعك بلدي – معروف في منطقة الجزيرة السورية ؛تتميز بصناعتها في فترات الأعياد الدينية والمناسبات.
¶ “برو” يقال أنه كان من “ركن الدين “تنسب إليه صناعة قماش البروكار الدمشقي أشهر وأفخر أنواع الأقمشة والمنسوجات في العالم. ويصنع القماش من خيوط الذهب والفضة والحرير الطبيعي.
_____________
* (النهار)
* اللوحة: جدارية تمثّل جحيم دانتي
* اللوحة: جدارية تمثّل جحيم دانتي