الرياحُ تنبح والنوافذ صاغرة..!!


* عقيل هاشم الزبيدي

(ثقافات) 

كان الليل خارج البيت، يغزل أشباح الخوف، ويحوك ألسنةَ الظلام. الرياح تعزف ألحاناً حزينة هامسةً حيناً، عاصفة أحياناً أخرى، فيهتزُّ الفراغ من حول البيت، وكأنه يؤدّي رقصة غجرية مثيرة.
أمام زمجرتها كانت النوافذ تصطكُّ، فتصدر أصواتاً غير رتيبة، تعمّق مخاوفها وهواجسها. بينما كانت خيوطُ الهواء الجليديّة الحادّة، تتدفّق عبر الثقوب والشقوق التي تمتلئ بها أبوابُ البيت المهترئة، ونوافذه المتصدّعة.. والضوءُ الخافت يفشل في توزيع النور إلى جميع أركان البيت المضطرب.. ظلالُ الموجودات التافهة تترنح في فضاء البيت، ملقية بثقلها على كل ماحولها.. 
شعرت بالبرد يخترق مفاصلها. لاذت بزاوية قريبة من المدفأة، تدثرت ببطانيّة ألقتها فوق كتفيها، تكوّر جسدها واستسلمت لصمت مطبق.. خُيّل إليها أنها تسمع وقع قدميه يطرقان الأرض خارج الجدار. انتصب نصفُ جسدها الأعلى. أرهفتِ السمع. نظرت عبر النافذة بعيني لبؤة جريحة، لكنها لم تسمع شيئاً. شعرت بالخيبة والحزن الأليم، وعادت تتكوّر حول أجزائها من جديد..!
القلق الممزِّق يراودها كل مرة .يريد أن يستلب منها عزيمتها. لكن الليلة، كانت الأولى من نوعها التي يلفّها بها الخوف والهواجس والضَّياع ..نقلتها هواجسها على أشرعةٍ معتمة، قذفتها إلى محطات قديمة مؤلمة. كانت لاتريد أن تتذكرّ، استطاعت فيما مضى أن تتغلّب على ذكرياتها المرّة، لكن الليلة ستكون شرسة ..!!
آه كم كان شامخاً. محباً. عنيداً. تجادلا بحدّة، اختلفا في الرأي كثيراً. لكن الحب كان يجمعهما كل مساء. خرج منفعلاً مراتٍ كثيرة، لكنه في كل مرة كان يعود والبسمة تزيّن شفتيه، وتكحّل عينيه، فتستقبله بروحٍ نديّةٍ وقلبٍ موّار بالحب والاعجاب. عجيبٌ أن يظل الحب صامداً منتشياً في عتمة الجدل المتجهّم…!!
اه ..لكنه لم يأتِ الليلة..
لقد تأخّر كثيراً عن موعد عودته.. إنه وحيدي..!!.
لقد تأخّر ,شعرت بالبرد. لاذت بزاوية قريبة من المدفأة..!
تكوّر جسدها واستسلمت لصمت مطبق ..قذفتها محطات قديمة مؤلمة.
أرغمتها على السقوط في سعير الانتظار.. وراحت تغوصُ في أوحاله..
آه كم كان شامخاً.!
هذا السرير جمع جسديهما في ليالي البرد الشديد، عندما كانت المدفأة تضنّ بالحرارة الكافية. إلى جانب هذه المدفأة ، وفي هذا الركن من البيت، تبادلا الأحاديث والشجون والحبَّ والأمل . جميلة ومشحونة الانتظار . لكن ناقوس المفاجأة رنَّ مجلجلاً وحوار مع الذات أشبه بالنشيج، يبني عناكبه حول الأعصاب ونبض الدم.
آهٍ ، لقد تأخرت الليلة كثيراً، كثيراً جداً… لا. لا.. ما أسوأ أن تكون الاحتمالات صادقة. أقبل إليَّ بقدك الأهيف، ووجهك الأسمر الجذّاب. لقد هدّني الانتظار. ترى.. هل يجرّبُ مدى احتمالي.؟
هل أراد أن يمتحنني فدخل معي في صراع غير متكافئ.؟
آهٍ، أعبدُ فيكَ الحب والأمل والكبرياء الجريح . صلبت روحي وجسدي ، وبذلت ماء عيني رخيصة أمام صنّارتين حادتين جامدتين، تحوكان الدفْ والطمأنينة للآخرين،
وأنا سعيدة بهذا الشقاء أيّما سعادة، لأنك سكنت قلبي وأبحرتَ في شراييني. وفي كل يوم وقبل أن أخلد للنوم كنتُ أرتّل ترانيم الحب والهيام.
في مساء كل خميس تعود إلي شامخاً معتزاً باسماً، فيزهر الياسمين في قلبي، وتخضل أعصابي بالندّى المعطر.
آهٍ.. لقد تأخرتَ. ماأقسى هذه الليلة. 
كنتَ توافيني قبل أن تغطس الشمس خلف البيوت، لماذا تأخرت؟؟.. لقد أوغل الكون في كبد الليل ولمّا تأتِ.. أقبل ادفع البابَ بقوّة واهجم عليَّ كعادتك، وخذني بين ذراعيك، ستجدُ قلباً ينبض وذراعين حانيتين..
لعلّكَ أقبلت. أجل. لقد أقبلت. تبّاً لي ولأوهامي القاسية المبعثرة.. هاأنت ذا تقف في الباب، تسدُّ فرجته، تبتسمُ ملءَ فمك. عيناك تفيضان حبّاً وسروراً. ذراعاك تتّسعان شيئاً فشيئاً، تبلغان المدى، وقامتُك الرجوليّة الآسرة تستبدل جفاف البيت وبرودته بدفءٍ وخصبٍ اعتدتُ عليهما..
أقبل ، وألقِ جسدك الغضَّ الدافئَ بين ذراعي… ستلفُّ ذراعيها حول عنقه وتشبعه قبلاتٍ متلهفة، تدفئ جسدها المتيبَّس بحرارة جسده. سيمتلئ قلباهما بالحب والأمل، ويستريحان…
هذا هو صوتُه. إنه موسيقى الملائكة. 
لِمَ تقسو عليَّ هكذا ؟؟ ماعهدتُك قاسياً. 
اكتشفت من بعيد شبحاً يقترب. صرخت في داخلها: هذا هو. لابدَّ أن يكون هو. 
سمعت وقع خطواته ..في ضوء المصباح الشاحب، رأت وجههُ. الوجهَ الأسمرَ الصارمَ النظرات، يفيضُ حبَّاً وحناناً واعتذاراً.
ابتسم بعذوبة. لاشئ في الدنيا يهمها بعد الآن.. وهذا يكفي.. لم تستطع أراحة رأسها على صدره. وغابت معه في عناقٍ وقبلات مشتاقة..!!
______________
* قاص من العراق 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *