* أحمد خلف
الحصول على ــ غرام سوان ــ سنة 1982 قراءة لا تملُّ وحبّ ينمو في الخاطر، الدهشة التي تولدها القراءة أو يدفع بها الحب إلى تأمل عالم سوان المترامي الأطراف كنزهات في غاية السرد على حد تعبير أمبرتو إيكو الإيطالي اللوذي الذي يشير علينا بتأمل أشجار الغابة العملاقة، مارسيل بروست يغري قرّاءهُ بمتابعة كل صغيرة وكبيرة تخصهُ أو تخص تلك الحياة العجيبة التي اختارها لنفسه لكي يبلغ غايته أو غابته التي يريد تشكيلها، لذا، فهو دهشة المتعجب وفتنة المتلقي .
وها هي السيدة فردوران تلملم أطراف الجماعة/ العشيرة الصغيرة، وهي تردد بحضرة الزوج وأمام حشد الزائرين بعد التعرف على سوان وإعلان الحب تجاهه، حب المرأة المتمكنة من عالمها الذي شيدته من ثراء الزوج، ثراؤها هي أيضاً، وهي لا تكف عن القول : ((لا يجوز السماح لأحد بمعرفة عزف موسيقى فاغنر مثلما يعرف هذا الشاب بالذات)) .. لن يجرؤ أحد من الجماعة المحتشدة في صالتها الخاصة باللقاءات المسائية الناعمة أبدا على الاعتراض، لا أحد يعترض على ما تقترحه السيدة فردوران، لقد دخل الشاب كواحد من الجماعة الصغيرة إلى عالم كان يخطط إلى دخوله من دون منغصات أو اعتراضات من أحد .. والسيدة فردوران شأن أوديت؛ نظرة مستديمة لمعرفة كنه حيرة دكتور كوتار في مجتمع أقل ما يقال عنه؛إنه مخملي، مارسيل بروست ينتزع بمهارة فائقة السر من لجته، لكي يرينا ما هو مخبوء في العمق، ليس الحب وحده، إنما الجسد الذي يتلظى بحرارتهِ وتوقه للمداعبة والمتعة، يكون جسداً مهيأً وصالحاً للظى الهوى الذي يجيده سوان، كأفضل فارس أو فنان يتجلى العزف بين أصابعه الماهرة على آلة البيانو أو على الوتريات المرهفة، هو ذا سوان بعينيه الخضراوين يقف ناعس الطرف أمام طلبات الفاتنة أوديت يرافقها إلى بيت الجماعة الصغيرة، حيث هذا الخليط العجيب من السادة المدعوين إلى بيت السيدة فردوان .. إنهم بلقائهم الفجائي يشكلون المجتمع الأنيق على حد تعبير مارسيل بروست نفسه، إنه يكتب في ظلال الفتيات الأنيقات أو غرام سوان ليتشكل لديه استعادة للزمن الضائع بين أحراش الماضي الكثيف المشتبك مع بعضه ولا يمكن أن يصبح جاهزاً لسرده إلا من خلال التداعي الحر، وعلى القراء أن يتبصروا أمرهم وهم يتوغلون في غابة بروست السردية المتداخلة في صورها ومشاهدها الخلاقة التي (بسبب أسلوبه الأخاذ) تأسر الداخلين فيها، تلك غابة سوان وغرامه ،حيث الكل يتأمل لمعان الجسد وتوهجه بعد المساء، حيث كل شيء يدور في القلعة/المنزل، والدخول إلى منزل السيدة فردوران لا يوحي بالدعارة كما يخامر الشك قارئ الرواية، بل يدرك تماماً أنّ ثمة ولعاً خاصاً في المساءات عادة، يحيط بالسيدة لاقتناص المواهب التي تجيد العزف على آلة البيانو أو قول الشعر الجميل الذي يترك في النفوس المرهفة صدى عذباً، تلك هي إحدى علامات وإشارات غرام سوان الذي يحفل باللغة السردية اللينة والناعمة تارة وأخرى لا تعطي نفسها بسهولة ويسر ومعرفة ،لأن السارد (الروائي) مؤلف غرام سوان ظل يصنع شخوصه من النار والماء معاً، والاكتشاف يقود إلى اكتشاف جديد مماثل له بالجمال الساحر، حين يتمعن سوان بوجه أوديت ذات النظرة العميقة وشلال شعرها يطوق عنقها العاري، كذلك الذراعان هما صورة موحية لقلب سوان في انغماسه المفاجئ، وفي حدود مدار عالم سوان الدراماتيكي تبدو السماء سمحاء معه ،وهي تطوقه من كل الجهات في بحثه الدؤوب عن أوديت التي غابت لبعض الوقت، ليدرك أخيراً بمحض المصادفة كم هو أبله ومجنون بها، بعينيها بجمالها باسترسال نهر شعرها الموحي له بكل شيء جميل بما امتلكته روحه من فيض محبة قرر الانغماس حتى شحمة الأذن في تهيئة طاقته الجنونية في البحث عنها بدءاً بجادة (بريفو) :
(ليس لأنه كان يعتقد بأنه سيعثر عليها، ولكن لأنه لو تخلى عن هذهِ الفكرة فإن هذا الشيء سيكون موجعاً)) وهو لا يطيل النظر في ما يتعلق بالآخرين ،بل بكل ما يشغله؛ ألا تكون أوديت بعيده عنه، سوان ليس لديه الوقت الكافي لكي يقرر ما إذا من الممكن تأجيل لحظة واحدة من لحظات صبابته مع أوديت .
بروست نفسه هو الذي شبه الوعي بسجادة مشعوذ ننقلها معنا وتفصلنا دائماً عن الأرض بالذات، على حد تعبير أحد دارسيه ــ جان فرانسوا ماركيه، في كتابه مرايا الهوية، ولقد أصبح في الأخير لزاماً عليه ــ بروست ــ أن يمزج الأدب بالفلسفة ،وهو الذي قد حرم من قبلة والدته المسائية، لا بد أن تكون ثمة أحداث أو أفعال دالة على تشكل عالم المؤلفين الماهرين، أحداث يستقي منها نهر عالمه الذي غالباً ما يتسم بالإحباط والحزن على شيء مفقود في الزمن الضائع.
*****
نزهات في غابة السرد ــ امبرتو ايكو ــ ترجمة/ سعيد بنكراد ــ المركز الثقافي العربي.
ما موضوع بين قوسين مجتزأ من رواية مارسيل بروست غرام سوان ــ ترجمة روبير غانم ــ عويدات/ 1982
_______
*(المدى)