كتابة قصة ناجحة هي عمل وطني أيضا!


*د. محمد عبد الله

1) غسان كنفاني (1936-1972) أديب ومبدع نادر، من طراز فريد، يصعب عندما تقرأه أن تكون قراءتك عادية أو ‘موضوعية’ و’باردة’، كما تفعل عند قراءة كتاب كثيرين.

قراءة غسان كنفاني تجربة بحد ذاتها، وبتعبير الراحل يوسف إدريس في مقدمته للأعمال القصصية لكنفاني: ‘هل ممكن أن تضبط انفعالك بحيث تقرأ قصة لغسان بعد مصرعه، بنفس الاهتمام والانفعال اللذين تقرأ بهما قصة لفلان وقد كتبها من مكتب وثير فاخر؟… إن كل كلمة أقرؤها هنا ليست مجرد كلمة مأخوذة من لغة، إنها كلمة ذات ثمن، كلمة لها رصيد، أغلى أنواع الرصيد، حياة كاتبها’!
(2)
ولكن أهمية غسان الأدبية والثقافية، لم تولد ولم تتأسس على ‘استشهاده’ فقط، بل قبل ذلك تأسست على كتابته الاستشهادية الخطرة التي أدت إلى استشهاده الفعلي، فقد كتب كتابة ثورية مقاومة / بالمعنى الرؤيوي والفكري، وبالأسلوب الأدبي والجمالي الذي يليق بالمعنى الكبير الذي تحمله الكتابة، وبالرسائل التي يلغّز بها كتابته. فعل هذا في رواياته ومسرحياته وقصصه القصيرة، حيث أودع فيها أحدث أساليب السرد والقص، وحاسب نفسه حسابا عسيراً، ليقدم فناً جميلاً يليق بالقضية التي يعبر عنها.
وتمكّن مبكراً من اكتشاف منبع غني لكتابته، متجاوزاً أدب الحنين والرومانسيات الباكية التي سيطرت على أدب النكبة في السنوات المبكرة بعد زلزال 1948، ليكتشف طريقاً جديداً معبراً عن الهوية والشخصية الفلسطينية في أحوالها الجديدة، راسماً لها طريقاً واضحاً عنيداً هو طريق ‘المقاومة’ كما في ‘أم سعد’ حيث تختلف خيمة المقاومة عن خيمة اللجوء.
(3)
اهتم غسان كنفاني بأدب المقاومة، وهو من أبرز من أشاعوا المصطلح نفسه عندما كتب دراستين تنظّران لهذا الأدب وتدعوان إليه:
1- أدب المقاومة في فلسطين المحتلة (1948 1966)
2- الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال (1948 1968)
وهو ينطلق في هذه الدعوة إلى ‘المقاومة الثقافية’ من أن ‘ المقاومة المسلحة ليست قشرة، هي ثمرة لزرعة ضاربة جذورها عميقا في الأرض، وإذا كان التحرير ينبع من فوهة البندقية، فإن البندقية ذاتها تنبع من إرادة التحرير، وإرادة التحرير ليست سوى النتاج الطبيعي والمنطقي والحتمي للمقاومة بمعناها الواسع: المقاومة على صعيد الرفض، وعلى صعيد التمسك الصلب بالجذور والمواقف’.
وينتبه غسان للنماذج المبكرة الأولى لأدب المقاومة فهو كما يقول-: ‘لم يكن أبداً ظاهرة طارئة على الحياة الثقافية الفلسطينية، وفي هذا النطاق فإن المقاومة الفلسطينية قدمت، على الصعيدين الثقافي والمسلح، نماذج مبكرة ذات أهمية قصوى، كعلامة أساسية من علامات المسيرة النضالية العربية المعاصرة’.
ومن موقع تقديره العالي لأدب المقاومة، ولثقافة المقاومة، أراد لها أن تكون مقاومة متميزة، تلتزم بشروط الجمال، وبأعلى اعتبارات الفن، بعيداً عن الخطابة الانفعالية والشعارات الرنانة. ونجد مصداق ذلك في إنتاج غسان نفسه الذي يعد نموذجاً للأدب بشروطه الأدبية الذاتية، ونموذجاً للوعي المقاوم الذي يتفاعل معه القارئ العادي، حتى لو لم يكن معنياً باشتراطات الأدب وتفاصيله الجمالية، كما نجد تأكيداً لذلك فيما كتبه غسان مراراً في نقده لبعض الإنتاج المحسوب على المقاومة، ولكنه ضعيف من الناحية الفنية. مثل هذا الإنتاج يقسو عليه غسان، إذ يرى فيه استهتاراً بالمقاومة والفن وتشويها لهما معاً.
(4)
ولو قرأنا في كتابه الذي نشر متأخراً بعد استشهاده ‘مقالات فارس فارس′ لوجدنا كثيراً من الأمثلة التي يقف فيها موقفاً حاسماً من رداءة الأدب والفن الذي كتب تحت عنوان ‘المقاومة’ أو ‘الثورية’ ففي مقالة له عن قصص شولوخوف الأديب الروسي الشهير، يبرز فيها تلازم الجمال الفني مع الالتزام والثورة، ويقول عن شولوخوف:
‘إنه ملتزم، منحاز، يبحث عن إشراق الثورة، وانتصارها ويتعاطف مع رجالها، ولكنه بالرغم من ذلك (أم تراه: لذلك) لا يخون التزامه الفني’. 
وفي موطن آخر، في نقده لكتاب آخر يقول: ‘ولقد آن لنا أن لا نغفر للرجل الوطني امتياز توسيع أشغاله، وأن نقنعه بأنه ليس من الضروري أن يكون شاعراً لتكريس وطنيته’..
ويقف موقفاً ناقداً حاسماً من مجموعة قصصية ‘ثورية’ لخليل فخر الدين، عنوانها ‘ لا تشتروا خبزاً، اشتروا ديناميت’، ويبدأ مقالته بسخرية جارحة: ‘يسمي المؤلف القصص العشر في مجموعته: قصصاً ثورية، ولكن لو كانت وكالة الاستخبارات الأمريكية تفهم، لطبعت من هذا الكتاب مئة مليون نسخة، وقصفت بها العالم الثوري حتى يطلّق الثورية’.
ويشرح موقفه من هذا النوع من الأدب فيقول: ‘وأنت تبدأ بقراءة الكتاب، وفي ذهنك أنه سيجيب على سؤال: لمن الأدب والفن؟ فنجد أن الجواب، على ضوء القصص الموجودة فيه، كما يلي: للتافهين، المزايدين بالوطنية، المصابين بالهستيريا، الذين لم يقرأوا في حياتهم كتاباً، ولم يتعرفوا إلى ذوق فني… فإذا كانت هذه هي مهمة الأدب والفن بعد الخامس من حزيران فشرفوا اركبوا على أكتافنا بحجة الخامس من حزيران، وامسحوا بذلك اليوم الأسود كل ما تراكم من وحول القصور الفني والفشل الأدبي، واحشونا حشواً بالخطابات والتظاهرات باسم: العمل الفني المرتبط بالجماهير!’. ويختم كل ذلك برأي حاسم في مسألة الفن والأدب:
‘لا: المسألة ليست بهذه السهولة، والوطنية التي هي ‘عالعين والراس′ ليست جواز مرور إلى عالم الفن إن لم تكن تعتلي صهوة موهبة أصيلة. فمكسيم غوركي ليس تقدمياً فقط، ولكنه أديب تقدمي… فكتابة قصة ناجحة هو عمل وطني أيضاً، ولو فعل مكسيم عوركي مثلما فعل خليل فخر الدين لتأخرت الثورة البلشفية قرناً كاملاً على الأقل’.
(5)
في الكتاب نفسه ‘مقالات فارس فارس′ نستطيع أن نستخلص بعض قواعد القصة وفهم عسان لجمالياتها، فهو في نقده لإحدى مجموعات يوسف جاد الحق المبكرة، ينقدها نقداً قاسياً، ولكنه ينصف بعض إضاءاتها القليلة. ويعرّج في جزء من مقالته على ‘القصة القصيرة جداً’ ويتحدث عنها حديث العارف المتابع لجمالياتها في الأدب الغربي (هذا عام 1968):
‘في بعض قصص يوسف جاد الحق ملامح ما صار في الغرب يسمّى هذه الأيام بـ ‘القصة القصيرة جداً’. ولكن هذا النوع من العمل القصصي الحديث بحاجة إلى تركيز مضاعف، فهو بالطبيعة لا يحتمل الإفراط في إضافة الوقت والهوامش. ويتطلب تحديداً بارعاً ومسبقاً للمناخ والبطل والحدوث في اتساق مكثف، وما يفعله يوسف جاد الحق أنه لا يفعل ذلك، وهكذا تضحي /قصته القصيرة جداً/ مجرد هذر لا مبرر له، ونوعاً من الضياع في الشكل والمضمون’.
ويستطرد غسان استطراداً دالاً، يفيدنا في نظرته لكتابة القصة القصيرة، وإلى ممارسته الذاتية هو قبل الآخرين، فيلاحظ ما تحتاجه من عمل فني مرهق:
‘إن كتابة القصة القصيرة عملية مرهقة للغاية، تحتاج إلى موهبة قول الشيء باختصار شديد الإيحاء، إنها من حيث الصعوبة تشبه أن تعمل على كسب موافقة سيدة جميلة تراها لأول مرة في المصعد، لتقبل منك قبلة عرمرمية قبل أن يصل المصعد اللعين إلى الطابق الخامس، حيث سيتوجب عليها أن تغادرك’. 
وفي نقده لقصص يوسف الحيدري، ورغم إعجابه العام بهذا الكاتب العراقي، فإنه يسجل بعض الملاحظات الذكية، ويربط بين الحيدري وزكريا تامر:
‘ومثل زكريا تامر سقط الحيدري في ذلك الخطأ الذي يبدو قاتلاً إذا تكرر كثيراً، وهو ذبح الحادثة في القصة لحساب التجربة، وشيئاً فشيئاً ستضحي القصة تحليلاً مباشراً للنموذج فيها، بدل أن تترك هذه المهمة للقارئ أو الناقد: نوعاً من الاستلقاء على سرير طبيب نفساني، والطبيب هو الذي يتكلم، في حين أن المطلوب هو أن نسمع قصص المستلقي على السرير، ونترك أنفسنا لاكتشاف معانيها ودلالاتها، عبر الإشارات الذكية التي يزرعها القاص هنا وهناك، كالصوايا(النوافذ)’.
وأما ما تؤدي إليه الممارسة التي وجه نقده لها: ‘هو أن يصبح أبطاله (الكاتب)، على اختلافهم، يتمتعون برفاه المفكرين دون أن يكونوا كذلك، سنرى مثلاً سائق شاحنة يفكر ويتصرف ويتأمل مثل جان بول سارتر، وسنرى طفلاً في الثامنة من عمره يضع حجراً لماركس في التحليل الاقتصادي، وسنرى شيخاً عادياً ينظر إلى اللوحات المرسومة بألوان الزيت من خلال حدقتي هنري مور!!’.
وفي نقده لقصص ‘توما الخوري’ يذكر له وفاء قصصه بعناصر القصة الكلاسيكية الناجحة، ولكنه لا يتركه من غير نقد، فيشير مثلاً إلى ما يسميه بموضوع (الاستغباء) أي استغباء الكاتب للقارئ وإصراره على أن لا يترك لذكاء القارئ شيئاً/ ويكشف كنفاني في مقالته هذه، عن حس ووعي متقدمين بخصوص مسألة القارئ ودوره وموقعه في عملية الإبداع القصصي:
‘من المعروف أن العمل الفني، وعلى وجه الخصوص القصة القصيرة هو عمل ينجز الكاتب نصفه، ويترك النصف الآخر للقارئ، والبراعة الفنية هي أن يستطيع الكاتب بطريقة غير مباشرة إعطاء القارئ كل المفاتيح التي تستطيع أن تدلّه على أبواب وطرق ومسالك ذلك النصف غير المكتوب في القصة. إن الإنسان في أعماقه أناني ومغرور. والكاتب الذكي هو الذي يلبي للقارئ متطلبات أنانيته وغروره، فيتركه يعتقد بأنه فهم القصة على هواه، دون إكراه، ولم يتعلم منها درساً، ولكنه قاسها على نفسه، فوجدها تتناسب مع قيمه. وهذا تبسيط بالطبع لجوهر العمل الفني فيما يتعلق بالقصة القصيرة، إذ إن الحقيقة أكثر تعقيداً بما لا يقارن: فالمفروض أن تكون القصة القصيرة حافزاً لخلق عالم خاص داخل رأس القارئ، والقارئ مخلوق عدواني عنيد لا يقبل الوعظ ولا التعليم.. وهو يفضل أن يكون موجوداً في العمل الفني على قدم المساواة مع الكاتب، سواء كمعارض أو مكمّل أو بطل أو ضحيّة، أما شخصية المتفرج من وراء لوح زجاج فلا تخلقها إلا أكثر القصص فشلاً’.
وغسان في نقده الساخر أيضاً يرفض طبقات الأصباغ والاستغراق المبالغ فيه باللغة، فبعد نقداته القاسية للسيف والسفينة لعبد الرحمن الربيعي يقول: ‘ وهذا الاستغراق المبالغ فيه بالمضمون يرافقه استغراق مبالغ فيه باللغة، إنه يستعمل عناصر التشبيه والمبالغة بغزارة تبعث على الصداع، ويكاد القارئ أن (يطق ويفقع) لكثرة الدهاليز اللغوية التي يدخلها المؤلف ويخرج منها… هناك كلمات كبيرة تذكر بالطبل لا تعني شيئاً. ومحاولات ابتكار لأوصاف تسقط، من كثرة الصبغة على رأسها’.
هذه المقالات وغيرها، تدلنا على جانب من وعي غسان كنفاني وتقديره العالي لأصول العمل الفني والقصصي، وتشير إلى ثقافة كنفاني الأدبية والجمالية، وأنه لم يتخلّ عنها ولم يتسامح للحظة أمام اشتراطانها ومتطلباتها، بل وقف موقفاً واضحاً ناقداً لكل النماذج التي اتخذت من ‘ الثورية’ و’المقاومة’ مدخلاً فضفاضاً للتسلق والشهرة، أو لعدم الاكتراث بشروط الإبداع الجميل.
تدلنا المقالات أيضاً على أديب ناقد ساخر، لم يتح له كثيراً في ضوء حياته المكثفة الخاطفة أن يستمتع بالمخبوء من سخريته، وقد كانت هذه النوافذ الموقعة باسم ‘فارس فارس′ كوى يطلّ من خلالها على عالم الأدب والفكر الذي يحب بأسلوب يختلط فيه النقد باللغة الأدبية الساخرة، بعيداً عن الأسلوب البحثي الذي نجده في دراستيه الجادتين عن ‘الأدب المقاوم’.
________
* شاعر وناقد وأستاذ الادب العربي بجامعة فيلادلفيا الأردنية.
(القدس العربي).

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *