* فاروق وادي
لم تغوني من قبل قراءة كتاب إلكتروني، ربما لأنني لا أستطيع معه وضع الخطوط والعلامات والإشارات التي تجعلني أستعيد مادته، أو مواقع محدّدة منها، بيسر وسرعة. لكنني، مع ذلك، لم أمنع نفسي يوماً من “تنزيل” أيّ كتاب أعثر عليه ويقع موضوعه في دائرة اهتماماتي، ومن ثمّ تصفحه، أو قراءة أجزاء منه، خاصّة إذا ما كان ينتمي إلى جنس الرواية، التي كنت أفقد مع قراءتها الإلكترونيّة، دائماً، رقم الصفحة التي بلغتها. وهكذا، ضاعت مني فرص إتمام روايات كثيرة بدأتها، وكتب عديدة شرعت في قراءتها، لكنها سرعان ما هربت مني إلى زوايا النسيان.
مؤخراً، تعرّضت لمشكلات في شبكيّة العين أصبحت معها القراءة عمليّة بالغة الصعوبة، وارتبكت الكتابة. بهتت الكلمات فجأة. تمزّقت وفقدت وحدتها. سقطت منها حروف، حَذفت نفسها من تلقاء نفسها، وحلّ مكانها فراغ موحش. تسلّل إلى الصفحات ضباب شفيف وتمدد عليها باسترخاء، فأصبحتُ أجاهد لتبيُّن الحرف الأسود من الضباب الأبيض المرعب، الذي يذكرنا بقسوة هذا اللون ووحشيته في رواية “العمى” الذي أصاب مدينة برمتها، في تحفة جوزيه ساراماغو الروائية، حيث يتوق العميان، أمام عنف البياض وسطوته، إلى رؤية بقعة سوداء تطفئ الشموس الشّاحبة التي باتت تسكن عيونهم.
العلاج الذي لا يطمح أكثر من وقف التدهور البصري في منحدرات العتمة وبلوغ الامحاء، هو قصّة أخرى، ليس الآن أوان لسردها. لكن مشكلتي ظلّت تكمن في فقدان، أو على الأصح ضعف وتضاؤل القدرة على القراءة، الأمر الذي عبّرت عنه أمام المقرّبين مني بالقول، صادقاً، إنني لو خُيِّرت بين مصيبتين، فإنني على استعداد لاختيار القراءة عن الكتابة. بمعنى أنني أستطيع التخلي عن الكتابة مقابل أن أكون قادراً على القراءة.
الحلّ الشبابي، العصري، الإلكتروني، جاءني من سيف وشهد، ابني وابنتي. اجتمعا وقررا أن يأتياني بجهاز إلكتروني صغير(Tablet)، هو في حجم وخفّة كتاب يمكِّنك من تكبير الكلمات وفق ما تريد وما ترتضيه العين العليلة. لقد حشدتُ في الجهاز الصغير بضع مئات من الكتب الإلكترونيّة التي جمعتها عبر سنوات عديدة وانتشرت دون ترتيب في أرجاء كمبيوتريّ الثابت والمحمول وكلّ زواياي الإلكترونيّة، وأصبحتُ أتقصّى أيّ كتاب موجود على أيّ موقع أو لدى أي صديق للتزوُّد به. وقد بتّ أشعر أنني أقف الآن على عتبة تكوين مكتبة جديدة (إلكترونيّة هذه المرّة)، مكرراً تجارب عديدة سابقة عشتها، حين كنتُ أشرعُ في تأسيس مكتبة منزليّة بديلة بعد فقداني مكتبتي التي راكمتُ كتبها على مدى زمني طويل، كانت آخرها في بيروت، أوائل ثمانينيات القرن الماضي.
قبل أيّام تمكنت من إتمام قراءة أوّل كتاب إلكتروني. اخترته صغيراً، قليل الصفحات، لا يتجاوز المائتين وعشرين صفحة. إنه “تاكسي” خالد الخميسي (2006). كتاب جميل وبسيط وممتع وذكيّ في فكرته ورصده للتفاصيل. المؤلف يقوم بعشرات المشاوير في القاهرة مدوِّناً أحاديث سائقي التاكسي وهمومهم وآلامهم وأفراحهم وأفكارهم، محتفظاً بلغة الناس الذين يروون أحوالهم. لكن الرِّقة الظاهريّة للكتاب تخفي عُمقَ كتابة يمكن وصفها بالسهل الممتنع، حيث تتكشّف عن شخصيّات ثريّة ولمحات ذكيّة لناسٍ بسطاء، بقصصهم وحكاياتهم وفلسفاتهم ومواقفهم السياسيّة التي يمكن أن نقرأ فيها مقدِّمات وكوامن ثورة 25 يناير. وقد تمنيت لو أنني كنت قادراً على الكتابة عن الكتاب بشكل تفصيلي، غير أن انتفاء القدرة على وضع الخطوط والإشارات والملاحظات على النسخة الإلكترونيّة (حتّى الآن)، جعل الأمر صعباً للغاية. ولذلك، فإنني أكتفي بوعد توفير الكتاب لمن شاء ويتعذّر عليه الوصول إليه في الشبكة العنكبوتيّة.
هل نسرق ونحن نقرأ كتباً عثرنا عليها، أو تعثّرنا بها، في هذا العالم الشّاسع مترامي الافتراض؟ أم أننا نمارس حقاً من حقوق الإنسان، بأن تكون الثقافة للجميع؟!
ثمّة وجهتيّ نظر عثرت عليهما في كتابين وفّرتهما لي المكتبة الإلكترونيّة الكونيّة الشّاسعة، الواقعة في منطقة مجهولة من ذلك العالم الافتراضي، الذي ليس من المؤكّد أن الحرام فيه بيِّن والحلال بيِّن!
وجهة النظر الأولى، عبّر عنها الكاتب بلال فضل في مقدمة كتابه “ستي الحاجة مصر” (2012). فهو لا يتردد في وصف عمليّة الحصول على الكتاب عن طريق الإنترنت بـ “السرقة”، مؤكداً أنه لن يسامح سارق كتابه إلكترونياً. ولكن، في المقابل، وعلى الناحية النقيضة، تذهب أحلام مستغانمي، إلى إهداء كتابها “نسيان” (وأنا أعتمد الآن على نسخته الالكترونيّة المسروقة) لقراصنة كتبها.. الذين هم أكثر الناس انتظاراً لإصداراتها الجديدة. تقول: “أنا مدينة لهم بانتشاري. فلولاهم ما فاضت المكتبات بآلاف النسخ ـ المقلّدة طبق الأصل ـ عن كتبي”. وإذا كانت الكاتبة قد وضعت في صفحتها الأولى تنويهاً يحظر بيع كتابها هذا للرجال، فقد غاب عنها أن تحظر على الرجال سرقته!
فهل نتبنى وجهة النظر الأولى ونكف عن “سرقاتنا” الافتراضيّة من عالم افتراضي، أم نشكر الذين يتيحون لنا الحصول على حقنا الثقافي، الذي هو، برأيي، كالماء والهواء، حقّ للجميع، كما عبّر طه حسين في حديثه عن التعليم؟! ولا بأس من أن ننوِّه بالمناسبة إلى أن مكتبة الاسكندريّة، بعظمتها، لم تتردّد، في توفير آلاف الكتب الالكترونيّة على موقعها، والتي تغوي بـ “الاقتناء” (هل هي الكلمة المناسبة بديلاً عن “السرقة”؟!).
مهما يكن من أمر اعتبارها، مسروقة أو متاحة، فإنني أقترح تعميم تبادلها. ألم نكن في طفولتنا نتراسل مع أصدقاء افتراضيين ونتبادل معهم طوابع البريد؟! فما المانع من أن نتراسل على كبرٍ ونتبادل تلك الكتب بيننا؟!
بالنسبة لي، سوف أكون شاكراً لمن يتطوّع لسرقة كتبي بعد تحويلها إلى مادة إلكترونية متاحة قابلة للتبادل والاقتناء، أو حتّى “السّرقة”، وليس لي أيّة شروط أسجِّلها على من يعهد لنفسه القيام بتلك.. “المهمّة الجليلة”!
_______
*(الأيّام) الفلسطينية