كَلْبُ نيتشه العجيب


*عبد العزيز جاسم

لقد كان فريدريش نيتشه (1844-1900)، يربي كلباً هو من أغرب وأعجب الكلاب على وجه الأرض . فهو لا يشبه الكلاب في شيء، إلا بالصفات والاسم فقط . إذْ إنه لا يمشي على أربع، ولا يمكن رؤيته، وليس له لون، ولا سلالة معينة؛ وإنما يُحس به ويُشعر بوجوده فقط، من خلال ما يتركه من أثر في النفوس والأذهان والأبدان . أي أنه باختصار، كلب ليس ككلاب الجنّ، ولا ككلاب الإنس مطلقاً .

فما هو إذاً، كنه هذا الكلب؟ ما شكله؟ وكيف نَظَر إليه نيتشه، وتَعَامل معه؟
(1)
يقول، في واحد من نصوصه: “أعطيتُ ألمي اسماً، دعوته “كلبي” إنه وفِيّ وملحاح وسفيه ومسل، إنه ذكي أيضاً مثل أي كلب آخر – أستطيع أن أوبخه وأحمله جميع كآباتي كما يفعل الآخرون مع كلابهم، وخدمهم، وزوجاتهم” (ما وراء الخير والشر، ص167) .
هكذا، يفلسف نيتشه الألم، بنوع من المرح والاستخفاف والواقعية وينعته ببساطة: ب”الكلب” . فهذا الكلب بالرغم من تدجينه له واستئناسه به ومؤالفته له، إلاّ أنه يظل مزجوراً وخاضعاً، لشروط صاحبه وليس لشروطه هو . إن صاحبه هو المتحكم به، وليس هو المتحكم به، كما جرت العادة دائماً في تعامل البشر مع آلامهم . فصحيح مثلاً، بأنه يسمح له بأن يكون قريباً منه حد الفضول والسفاهة، وصحيح بأنه يتركه يسليه ويلعب معه ويُظهر له ذكاءه أحياناً؛ ولكن عندما يخترق شروطه ويشذ عنها، ويقوم بإزعاجه وأذيته وفرض نفسه عليه فرضاً؛ فإن الآية لديه تنقلب، ويصبح أسلوب الحزم، والزجر، والتوبيخ، والسخط، لهو من أفضل الأساليب لديه، في التعامل مع كلب يشبه الألم ويحمل كآبات صاحبه .
إن الألم إذاً، وكيفما كان هذا الألم، وبالمعنى النيتشوي للكلمة، هو حيوان ينبغي معرفته وتدجينه أولاً . أي الحصول على قوة الحكمة والإرادة التي تؤهلنا، في كسر شوكته في المقام الأول . تماماً كما يقوم الحاوي بنزع إبرة السّم من فم الثعبان، كي يستطيع بالتالي التعامل معه؛ وإلا فإنه – وفي أي لحظة – سيرتد عليه ويقوم بلدغه، وربما قتله . لأن الألم قبل عملية التدجين هذه، يظل خَطِراً، وشرساً، ومؤذياً، وغير مأمون الجانب؛ وبالتالي سيكون هو في وضع المتحكم بصاحبه وليس العكس مطلقاً . أي أننا سنبقى عبيده، وهو سيكون سيدنا على الدوام . وهنا بالضبط، يقع حجر الزاوية في كلام نيتشه، في تفريقه بين الألم المدجن والمسيطر عليه، من قِبَل الإنسان الذي يؤكد الحياة ويعشقها وينظر إليها بوصفها عملاً فنياً في المقام الأرفع؛ وبين الألم المنفلت والسائب والملوث بهواء المثاليات، كما لدى الكاهن الزاهد المعادي للحياة والنابذ لها، والمقدس لكل أشكال المعاناة والمرض والبشاعة والأذى والتشويه والقبح وإذلال الجسد وإماتة الرغبات والتضحية بالذات وإفقار الحياة، وغيرها .
(2)
إن ضربة المطرقة القوية التي وجهها نيتشه للألم، عبر سخريته الجارحة والمذلة له وتشبيهه بكلب مدجن، لا أكثر من ذلك ولا أقل؛ إنما كان يوجهها في الأساس إلى أصحاب “المثال الزهدي”، الذين يوجدون في كل مكان وزمان، وفي جميع المِلَل والنحل . فهو لا ينظر للألم كما ينظر إليه هؤلاء، ولا يعتبره بمثابة “فضيلة”، ولا ينظر إليه بوصفه “مدعاة للنشوة والمتعة”، كما يقدسه هؤلاء الذين يكرهون الحياة ويحاولون السيطرة عليها وعلى المستضعفين والجهلة من الناس، من خلال تعميم فكرة الذنب أو “الضمير الشقي” والخلاص والتحرر من الجسد، التي تعمل على إخصاء ذكاء المرء وفطنته وكسر إرادته ونفي رغباته، وربطه بتلك المثاليات الميتافيزيقية المريضة والشقية التي تجعله يغطي انكساره وضعفه واستياءه وعدم تقبله الحياة كما هي، وإلحاقه تالياً بوصفه عبداً تابعاً لإرادة ورغبات أصحاب الحياة الزهدية، الذين يمثل الاستمتاع ب”الأذى” لذتهم الوحيدة .
إن نيتشه يناهض هذا الفكر العدمي المريض والمريع، على طول الخط، الذي يتباهى بضعف الإنسان وهشاشته وبمدى ما يحققه من أسى وأذى لنفسه ولغيره، ويتفاخر بمدى ما يجعله يتخلّى عن الحياة والعالم، بدعوى الحكمة والخلاص من المعاناة والآلام والوصول إلى النقطة صفر . إن هذا الجنس الزهدي “الزَحْبَطُونيّ” (الزاحف على بطنه)، بحسب نيتشه، يعبر عن “حقد لا مثيل له يطغى ويهيمن، حقد الغريزة التي لم تشبع ولم تلبّ، حقد اشتهاء القوة التي تريد أن تسود، لا أن تسود على شيء ما من أشياء الحياة، بل على الحياة نفسها، على أعمق شروط هذه الحياة وأقواها وأشدها حيوية . إنها محاولة لاستخدام القوة من أجل إنضاب نبع القوة وأصلها . هكذا نجد النظرة المبغضة القبيحة تنقم حتّى على تفتّح الجسد ورفاهه . وبشكل خاص على أشكال التعبير عن هذا التفتّح والرفاه، على الجمال، على الفرح” (أصل الأخلاق وفصلها، ص115) .
(3)
إن ما يرفضه نيتشه إذاً، هو هذا النوع من أخلاق الألم الميتافيزيقي المؤدلج لاهوتياً أو فكرياً، والمبتز لعواطف الضعفاء والبؤساء المضطربين نفسياً والمشوشين عقلياً، الذين يشعرون بالتيه والضياع والفوضى في عالم مقلق ومضطرب؛ حيث يجعل من يتبعونه أشبه بأولئك الأشخاص البدائيين الذين تواجدوا في كهف أفلاطون، ورفضوا الخروج منه ومعانقة إشراقة الشمس الحقيقية وفضلوا ظلالها عليها . لهذا فهو يحمل على هذا النوع من الألم الاستعبادي، ويفكك مفاصله، ويوبخه، ويسخط عليه، ويعامله مثل معاملة الكلب تماماً .
غير أن نيتشه، ومن زاوية أخرى، لا يناهض كل ألم أو معاناة في المطلق، ولا يعامل كل الآلام بالطريقة الاحتقارية نفسها . لأنه هو نفسه في الأساس، قد جرّب الألم والمعاناة طوال حياته، حتّى وصل إلى الجنون المطبق في نهاية المطاف . لذا فهو إذْ يرفض ذلك “الألم المفروض” فرضاً على العباد، الذي هو نتاج الحياة الزهدية الصارخة في متناقضاتها؛ ذات الأصل اليهودي والمسيحي في رأيه التي دمرت أوروبا، إلاّ أنه في المقابل، يحترم ذلك الألم “المفهوم والمقبول”، الذي أنضج جميع العظماء المأساويين، على مر العصور . فالألم، بالنسبة له، حكمة بمقدار ما في اللّذة من معنى: فهو مثل اللّذة ينتمي إلى القوى الأساسية، قوى حفظ النوع . والألم، يجعلنا ننشر الأشرعة، ويجعلنا نتعلّم كيف ندبر الأشرعة، وننشرها بألف طريقة وطريقة . والألم، يعلمنا كيف نعيش بطاقة مخفضة، عندما يُعلن علامة الخطر، إذْ من الأسلم أن نتصرف بحيث تكون “الخسائر أقل ما يمكن . كما أن للألم وحده، يدين الأبطال ورسل الألم الكبار، رسل ألم الإنسانية، بأسمى وأرفع اللحظات، حيث يحتاجون للتمجيد كما يحتاجه الألم بشكل عام” .
(4)
الإنسان، ووفق ما سبق، هو إسفنجة تمتص الآلام، في كل لحظة ومن كل حدب وصوب، وما هذه الآلام في حقيقتها إلا أشبه بجراثيم تتطاير في الهواء وتخترقنا . ولكن هذه الآلام، ليست طارئة ولا دخيلة علينا؛ وإنما هي في الجوهر مرتبطة بأصل وجودنا على الأرض، بوصفنا كائنات وجدنا كي نعاني في الأساس، معاناة لا تنقطع، ولا تلين، ولا تضعف من الوجود، مثلنا بهذا مثل الحيوانات والجمادات التي تعاني مثلنا أيضاً . إن حياتنا إذاً، من الميلاد وحتّى الممات مؤلمة، وكذلك “جميع العناصر التي تكون الوجود الإنساني، بحسب بوذا، هي جميعها مؤلمة” .
أمام الحقيقة الأنطولوجية والتاريخية المؤلمة هذه إذاً، وإذا ما بقينا فقط على عهدنا وخنوعنا، نتلقى هذه الطعنات ونستسلم قدرياً لها يومياً، من دون أن نفعل شيئاً سوى الشكوى والنواح والحزن والقنوط والبكاء والندم . هكذا، بلا تفكير، بلا نبش، بلا تأمل، بلا وعي، بلا تمحيص أو مواجهة، ودون أدنى مراجعات لأسباب آلامنا؛ فإن أصل غريزتنا الحيوانية حينئذ، ستسحبنا إلى الداخل وتفتك بنا، وستتغلب على إرادة الحياة فينا، بحيث ستدفعنا إلى العيش عبيداً خاضعين وتابعين، لمن يتاجرون بآلامنا ومعاناتنا ويبيعوننا الأوهام والسرابات الكاذبة، يومياً .
إن هذا الموقف السلبي وغير الإيجابي بالمرة، يجعلنا أكثر جهلاً بآلامنا وأوجاعنا، وأكثر إيذاءً لأرواحنا وأذهاننا وحياتنا، شعرنا بذلك أم لم نشعر . لأننا نفضل الطفو على السطح، أكثر من أن نستطيع استغوار طاقتنا وقوتنا وإرادتنا من الداخل، كي نواجه بها هجومات الخارج وأذياته في كل مرة . إننا بهذا الوضع، نكون أشبه بخراف ترعى في حقول ألغام فقط، ولا شيء أكثر من هذا، معرضة للنسف والتمزق والانهيار والموت في كل لحظة . إن أوجاعنا ستكون مجرد زوبعة في فنجان، حتّى ولو كانت كبيرة أو مأساوية؛ لأنها تأتي لتذهب أسرع مما جاءت، من دون أن نستوقفها أو نحتج عليها، على الأقل . إننا بيت تعصف به الرياح، ولا نستطيع قفل النوافذ والأبواب في وجهها . إنها أوجاع عابرة، كما يبدو، مستفرغة من الداخل مثل أصحابها . أوجاع لا تقول شيئاً سوى نقيصتها، بحيث لا تُعبر إلاّ عن ضحالة المتشدقين بها، دون علم أو سبر أو استيعاب . أوجاع تولد ميتة، من كثرة هشاشتها وضحالتها وتكرارها، بحيث لا تقول شيئاً تقريباً . إنها مجرد هشيم في محرقة .
(5)
أن يصبح الألم كلباً إذاً، وبالمعنى النيتشوي الذي ذكرناه، فهذا شيء جديد، مختلف، ويعني بأن حسّاً جديداً بالتفوق قد نشأ، في علاقة المرء بأوجاعه، وفي نظرته لنفسه وللعالم من حوله أيضاً . أي أن العلاقة بينهما، قد دخلت دائرة التفكير، والاختلاف، والتأمل، والتحكم، والمجابهة الندية؛ ولم تعد مجرد نزهة جزار إلى أجسادنا . إنها القوة المفتقدة والمطلوبة لإنسانيتنا، القوة الحامية لضعفنا وانكسارنا، والتي تجعل الدواء يوجد فينا أيضاً وليس الداء فقط . فلم نجعل من حياتنا ومصائرنا، لعبة في يَدِ الكلاب والثعالب والجرذان، تسيرنا على هواها وتفعل بنا ما يحلو لها؟
الألم، يقظة إذاً، رنين جرس يوقظ القوة الثاوية في أعماقنا، ويجعلنا في موعد الاستحقاق . الألم كذلك، تذكرة ميلاد!
___________
*ملحق (الخليج) الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *