رواية “ساق البامبو” للسنعوسي : مرآة لمواجهة الذات


موسى إبراهيم أبو رياش *

( ثقافات )



لا نرى بشاعتنا وقبحنا لأننا نفتقد المرايا الصادقة، أو لأننا -بكل نرجسية- نظن في أنفسنا الجمال والحسن والكمال، ولسنا بحاجة إلى مرايا، فالمرايا –عند البعض- لا تلزم إلا لمن يحرص على إكمال نقص، أو إخفاء عيب!
وقد نجح سعود السنعوسي بوضع مرآة ضخمة أمام مواطنيه؛ ليروا أنفسهم كما يراها الآخرون حقيقة، لا مجاملة أو نفاقاً. 
لقد انعكس الثراء الكبير والمستوى المادي الضخم للكويتيين على علاقاتهم بالآخر، فلا يرونه أو يتعاملون معه إلا من وراء ستارة مادية بالدرجة الأولى، أو على خلفية اجتماعية ترى أن الكويتيين هم الأفضل والأعلى منزلة.
من خلال إيهامنا بأن الرواية مكتوبة بقلم الفلبيني هوزيه ميندوزا، استدرجنا السنعوسي لنقرأ ونرى المجتمع الكويتي بعيون فلبينية، هذه العيون التي هيأت لها الظروف لتعيش بين بين، فكشفت بعض مواطن الخلل، ووضعتها تحت مجهر كبير، فبدت واضحة قبيحة أشبه بدمامل تشوه وجه الكويت الذي يفترض أن يكون جميلاً.
علاقات التزاوج بين الكويتيين وغيرهم، ومشكلة البدون، والطبقية في المجتمع الكويتي، ندوب كبيرة أبرزتها رواية “ساق البامبو” وسلطت عليها الضوء بقوة، لتضع الجميع أمام مواجهة النفس، والنظر إلى الداخل، لإدراك ما تنطوي عليها النفوس من صلف وغرور وكبر وتجاهل للآخر مهما قدم أو ضحى أو عمل من أجل الكويت.
غسان صديق راشد ولد في الكويت وخدم الكويت طويلاً كجندي في الجيش الكويتي، ومن ثم قاوم المحتل دفاعاً عن الكويت واستقلالها، وتغنى بالكويت، وكل ذلك لم يشفع له ليكون كويتياً، فهو من فئة البدون، هذه الفئة التي لا توجد إلا في الكويت.
في كل دول العالم التي تحترم الإنسان وعطائه، تعطي الجنسية لمن يقيم فيها بعد عدد محدود من السنوات وبشروط موضوعية، ولكن عمر غسان الكامل، وكل تضحياته وأسرته في الكويت ليست كافية لمنحه الجنسية الكويتية، وكأن الجنسية الكويتية حكر على البعض، يتوارثونها أباً عن جد وإن لم يقدموا للكويت شيئاً، وليذهب الآخرون إلى الجحيم، يتجرعون كؤوس القهر والظلم والحرمان والإقصاء والتجاهل.
المواطنة عمل وعطاء وانتماء، وليست وراثة، إلا في المجتمعات المرتبكة المشوشة التي تتقوقع على ذاتها، وتخاف أن تفتح أبوابها ونوافذها للشمس.
ماذا يفعل غسان أكثر مما فعل ليصبح كويتياً يحظى بالاعتراف والقبول؟! السؤال يضعه السنعوسي برسم الإجابة. والإجابة في أعماق ووجدان كل إنسان كويتي، يؤمن أن الكون له ولغيره.
ومن سخرية الأقدار أن غسان المحروم من الجنسية الكويتية، هو الذي سعى لإحضار عيسى إلى الكويت وحصوله على الجنسية الكويتية في مفارقة ساخرة، تؤكد على عبثية الموازين وعدم منطقيتها.
العلاقات الاجتماعية الجديدة، بما فيها من تزاوج وصداقة وغيرها، هي نتاج طبيعي لتطور المجتمعات وحراك الناس والترحال من أجل الدراسة أو العمل أو السياحة وغيرها. وهي علاقات طبيعية في معظم المجتمعات، لا تشكل خطراً، أو تزعج أحداً، فلا بد من بروز أو حدوث علاقات جديدة تدل على حيوية المجتمعات وقدرتها على تقبل الآخر وإدماجه ليكون لبنة قوية فاعلة. ولكن الأمر في الكويت على عكس ذلك، فهو مجتمع يرفض الآخر، ولا يعترف بوجوده إلا كتابع، أما إن تجرأ وطالب بالمساواة الإنسانية، فهذا تطاول لا يغتفر.
جوزافين الخادمة الفلبينية كانت تعامل من أفراد أسرة الطاروف بصفتها خادمة وظيفتها أن تعمل وتخدم دون أن تمارس حقها كإنسانة، فوجدت من راشد الذكر الوحيد في الأسرة معاملة إنسانية، فمالت إليه، وحرصت أن تتقرب منه وتستمع إليه وتجاذبه أطراف الحديث، وخاصة في الأدب، فنشأت بينهما علاقة ود، توجت بزواج عرفي، ولكن هذه العلاقة قوبلت بالرفض القاطع من الأسرة وخاصة من الأم، على الرغم من عيسى ثمرة هذه العلاقة، والوريث الوحيد لاسم الطاروف، وخُيَّر راشد بين جوزافين وأسرته، فاضطر تحت قهر المجتمع أن يختار أسرته وهو المثقف الواعي.
عيسى الصغير نشأ في الفلبين في أسرة والدته، عاش غريباً يعامل كعربي يبيض مالاً، ولما انقطع مال والده وضع على الرف، يعامل كتابع لجده ميندوزا، وعندما تمرد وترك المنزل، تنقل من مكان إلى آخر بحثاً عن عمل، وكان يعيش مشتتاً بين عالمين بين الفلبين التي منحته المأوى والعمل، وبين جنة موعودة اسمها الكويت لا يعرف عنها شيئاً إلا أنها موطن والده، وفيها قد يحقق ذاته. ولما سافر أخيراً إلى الكويت، عاش الغربة، فلئن حصل على الاعتراف الرسمي بأنه كويتي لأب كويتي، ولكنه لم يحظَ بالاعتراف الأسري والمجتمعي، فعومل كفلبيني، وشكل وجوده بالقرب من أسرته بركاناً اجتماعياً، لم يهدأ إلا بعد أن ترك الكويت، وعاد إلى الفلبين، وتزوج هناك ابنة خالته ميرلا وأنجب منها راشد.
اختلفت أسرة الطاروف، فهند الناشطة الحقوقية لم تستطع أن تجاهر باعترافها بابن أخيها، وعمته الأخرى عواطف قلبها يرق، وعقلها متردد، أما نورية فرفض قاطع واستنكار شديد، فلن تكون عمة لعيسى، ولن تدمر حياتها الزوجية ومكانتها الاجتماعية من أجله. أما أخته خولة من زوجة راشد الثانية، فقد نصبت حواجز وسدود بينه وبينها، لم تتخطاها إلا لحظات معدودة. وفي المقابل فإن الجدة (ماما غنيمة)، على الرغم من شوقها وتعطشها لمن يحمل اسم الطاروف، إلا إنها تستكبر أن يكون من أم فلبينية، وتضحي بالعائلة واسمها، على أن تعترف بحق عيسى ووجوده. 
لم يكن عيسى ضحية تزاوج عالمين متباعدين فحسب، بل كان ضحية طبقية قاتلة تعشعش في الكويت، فلكل عائلة مكانتها وقدرها ومستواها، الذي لا يجب أن تتازل لأقل منه، أو ترفع عينيها لأعلى منه، وإلا قوبلت بالاستهجان والاستنكار، يقول عيسى: “شيء معقد ما فهمته في بلاد أبي. كل طبقة اجتماعية تبحث عن طبقة أدنى تمتطيها، وإن اضطرت لخلقها، تعلو فوق أكتافها، تحتقرها وتتخفف بواسطتها من الضغط الذي تسببه الطبقة الأعلى فوق أكتافها هي الأخرى.”(279) وقد كان راشد الأب ضحية رفض أسرته للزواج من فتاة كويتية من أسرة أدنى منزلة من أسرة الطاروف، فكان أن وقع في حب خادمة فلبينية لتضع الأسرة في موقف حرج جداً يكاد يعصف بمكانتها. توصف خولة هذه الحالة فتقول: “كل المميزات التي يمنحها اسم العائلة لأفرادها أمام الغير ما هي، في الحقيقة إلا قيود وقائمة طويلة من الممنوعات”(348). ويؤكد راشد في روايته التي لم يكملها على تناقض مخيف، وحالة مرضية: «إننا كويتيون وقت الضرورة وحسب.. يصبح الإنسان منا كويتيا وقت الأزمات.. ثم سرعان ما يعود للتصنيفات البغيضة ما إن تهدأ الأمور». (277)
وبجانب الطبقية نجد الطائفية والاختلاف الديني والمذهبي وإن بشكل أقل، بل نجد أن الرواية تسعى -وأظنها نجحت- في التأكيد أن الأديان تجمع ولا تفرق، لأن أساسها واحد وغايتها واحدة، فعيسى ولد مسلماً، وتعمد مسيحياً، ولم يجد بأساً أن يزور المعبد البوذي ويصلي فيه، بل نراه يصلي في مساجد الكويت بصلاة خاصة به، فحسبه أن يخاطب الرب، الموجود في كل مكان دون حواجز أو قيود أو وسطاء.
كل القضايا السابقة تناولتها الرواية من خلال قصة عيسى في الفلبين والكويت، حيث عاش مشتتاً بين هويتين، يقول عيسى عن والديه: “”لو أنهما اتفقا على شيء واحد.. شيء واحد فقط.. بدلاً من أن يتركاني وحيداً أتخبط في طريق طويلة باحثاً عن هوية واضحة الملامح.. اسم واحد التفت لمن يناديني به.. وطن واحد أولد به، أحفظ نشيده، وأرسم على أشجاره وشوارعه ذكرياتي قبل أن أرقد مطمئناً في ترابه.. دين واحد أؤمن به بدلاً من تنصيب نفسي نبياً لدين لا يخص أحداً سواي.”(63)
ويستغرب عيسى ما يحدث له، وما ذنبه أن يولد لأم فلبينية، ويتمنى أن يكون كساق البامبو: “لو كنت مثل شجرة البامبو، لا انتماء لها. نقتطع جزءاً من ساقها.. نغرسه، بلا جذور، في أي أرض.. لا يلبث الساق طويلاً حتى تنبت له جذور جديدة.. تنمو من جديد.. في أرض جديدة.. بلا ماض.. بلا ذاكرة.. لا يلتفت إلى اختلاف الناس حول تسميته.. كاوايان في الفلبين.. خيزران في الكويت أو بامبو في أماكن أخرى.”(94)
يسجل للسنعوسي أنه مارس نقداً ذاتياً جريئاً، وصرخ في وجه البعض قائلاً لهم: من أنتم، وماذا تحسبون أنفسكم، وإلى متى كل هذا العمى والصمم عن رؤية الآخر والتعامل معه بما يستحق كإنسان له حق الحياة والتقدير والاحترام، وليس ذنبه أن ولد كذلك، فهو لم يختر وطنه أو دينه أو أسرته أو حتى اسمه، فلم يحاسب الآخر على شي لا خيار له فيه؟؟!!
وبعد، فإن رواية “ساق البامبو” لسعود السنعوسي رواية جميلة مشوقة، توفر قراءة ماتعة، بما حفلت فيه من لغة ثرية، وعبارات رائعة، وسبك سردي متقن، ونقلت للقارئ عوالم جميلة ومتنوعة من الفلبين والكويت، تنم عن معرفة جيدة، وثقافة واسعة، واحترام للقارئ. وتبشر بروائي سيكون له حضور قوي وراسخ، وأرى أن وجوده في القائمة القصيرة لجائزة البوكر 2013 هو فوز بحد ذاته.


– قاص وناقد من الأردن

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *