مسالِكُ المعنَى في الشّعر العربي المعاصر


محرز ثابت *

(ثقافات)

مدخل نظريّ :
تحاولُ هذه الدّراسة أن تستكشِفَ نصوصًا من مدوَّنة الشِّعر العربي المعاصر بغايةِ الوقوفِ عند مراتِب الخطاب الشّعريّ فيها. و نعني بمراتِب الخطاب الشّعريّ الماثلة في نصوص المدوّنة الشّعريّة المنتقَاة سياسَة القول الشّعريّ أو تلكَ الآليّات الّتي تتحكّمُ في طرائق إنتاج المعنى وتشكيله. ولمّا كان خِطابُ الشّعر خِطابًا قوليّا لغويًّا فإنَّ مظاهِرَ متعدّدة من أشكال الخطاب تتحكَّم في سياستِه (1)، و في القول الشّعريّ ضروبٌ مِن تصاريف الكلام تتّصلُ بالرّمز و الصُّور الشّعريّة ومواطن العدول المجازيّ وإنشاء اللّغة على هيئةٍ مخصوصةٍ من الإسناد و التّركيب و ضربًا مِن الانتقاء لمعاجِمَ بعينِها تشتغِلُ لإنتاج المعنَى و تبئيره في دائرة أغراضيّة يسعى الشّعراءُ إلى الإيحاء بها و التّدلال عليها (2) .
إنّ وسْمَ الشّعر العربي المعاصر بالمختَبَر الشّعري ينهضُ مِن كونه شعرا يتأدّى بواسطة العدول الّذي يشملُ أكثر مستويات الإنشاء الشّعريّ جماليّةً وهي لغتُه. فشعرُنا المعاصر يحمل لغةَ الكتابةَ محمَلَ الرّمز و الإيحاء، و ينقلُها من فضاء إدراك المعنَى وتحصيله إلى فضاء انبثاق الرّمز و تكوُّنِه في الكتابة الشّعريّة. و قد سمحت آليّة العدول بوصفِها انزياحًا في لغة النصّ الشّعريّ المعاصر بتوليدِ شبكاتٍ مِن الرّموز و الصّور الشّعريّة المؤسّسة لدوائرَ أغراضيّةٍ تُشكّل في انبنائها الدّلالِيّ مسالِكَ للمعنَى الشّعريّ مفتوحةً على أكثَر مِن أفقِ تأويل. فالنصّ الشّعريّ المعاصر هو نصّ مقدودٌ ” مِن مادّةٍ مفعَمةٍ بالمعنَى …نصٌّ يتأسّسُ على نقض العلاقة المباشرة الّتي يُمكِنُ أن تشُدَّها إلى ما تُحيلُ عليه و تمنَعها مِن التّرحال و الحلول بكلّ السّياقات… فهو بنية مغيّرة تنطلقُ من نواةٍ لترحَلَ في لذّة اللّغةِ و تُجرِّبَ شبَقَ الابتداع و الاغتراب. و ثِنْيَ تلكَ التّحوّلات ينمو ما به يكون الأدبُ أدَبًا و تنكشِفُ للمُريدِ أسبابُ البقاء وديمومة الفعل و التّجدُّد و القدرةِ على بعثِ الانفعال”(3). وعلى هذا النّحو تؤسِّسُ لغة الشّعر مدار الإقامة في الرّمز بوصفه سياسَةً في إنشاء الخطاب الشّعريّ أي آليَّةً مِن آليّات إنتاج الكلام و تحصيله شعريًّا، و قد أشار ” تودوروف” إلى أنّ الرّمز في لغة الشِّعر هو آلةُ الكلام الشّعريّة لأنَّه لا يُحيلُ إلاّ على ذاتِه،(4). لذلك فإنّ فضاءَ النصَّ الشّعريَّ العربيّ المعاصر هو فضاء الرّمز و طرائق انتشاره في أديم النصّ و نسيجه المعجميّ(5). 
إنَّ أكثَرَ ما يُميِّزُ ثورةَ الشّعر العربي المعاصر الشّكليّة هو ابتداعُ الكتابة في فضاءات الرّمز و حقوله الأسطوريّة ، الانفعاليّة والدّراميّة. و تشكِّل هذه الفضاءات الرّمزيّة إحدى الآليّات الأكثرَ إنتاجًا للمعنَى ليس في الشّعر فحسب بل في القصّة و الرّواية والمسرح. و يشتغل فضاء الرّمز في القصيدة المعاصرة بأدائه وظيفةَ الشّطب ( Rature)للعلامة بما هي تسميةٌ مباشرة يلتقي فيها الدّال بمدلوله بينما يتصرَّف الرّمز في العلامة وفق منطق العُدول والانزياح بخلق مناطق الإيحاء و توسيعِها ، و صناعة الأقنعة (6) وابتداع مناويلَ في الكتابة الشّعريّة أساسُها قيامُ الكتابة الشّعريّة على السّؤال بديلا من الجواب ، و إلغاءُ الحدود بين الأجناس الأدبيّة، و الإنتاج حركةٌ خلاّقة (7). 
إنّها القصيدة الّتي لا تقول عن نفسِها بقدر ما تقول العالَم و تُخبرُ عنه، أو هي الكتابةُ بوصفها إبداعًا يُحيلُ على ذاته، لذلك يكون للرّمز وحقوله النصيّة مدار ابتداع لغةٍ جديدة يصبح فيها السّؤالُ عن المعنَى سؤالاً غير ذي معنَى (8). وليس انعدام سؤال المعنَى في الشّعر العربي المعاصر سوى وَسْمَ الانغلاق الّذي يميِّز الشّعريّة الحديثة ، فالرّمز الشّعريّ يُدرَكُ في القصيدة المعاصرة بوصفِه “كلمةً تُدرَكُ بما هي كلمة لا بما هي مُجرَّد بديل للشّيء المُسَمَّى و لا بما هي انفجارٌ للانفعالات “(9) والمقصود هنا الوظيفة الشّعريّة (الجماليّة) للرّمز في تمايُزه الجوهريّ عن وظيفة الإخبار و نقل الوقائع الخارجيّة أو التّعبير عن حالات الانفعال، لذلك فإنَّ نصَّ القصيدة و فضاءها الرّمزيّ لا يُحيلُ إلاّ على ذاتِه ، وذاتيّة الإحالةِ هي ما يسِمُ الرّمز الشِّعريَّ بالأدبيّة ، و قد ألمعَ ” كوهين” إلى هذا المعنَى بقوله: ” يعتبر الانغلاق اليوم سِمةً مُميَّزة لمفهوم الأدبيّة في النصّ الشّعري الحديث لأنَّ النصَّ لا يُحيلُ إلاّ على ذاتِه” (10). و لمّا كان الرّمز الشّعريّ عِمادَ العُدول في الخطاب الشِّعريّ فإنّه يتأدَّى في الإنشاء الشّعري بطريقة ـ الإبدال/Trope الّتي تسمح بإنتاج الصّورة الشّعريّة بإبدال المعنى الحقيقي بالمعنَى المجازي فالصّورة تنتُجُ في سياقٍ معيَّن من القول الشّعري حينَ تقعُ عمليّة الاستبدال بين المعنَيَين الحقيقي و المجازي (11). و ليس الاستبدال في سياسة الشّعر قانونًا لغويًّا أو رمزيًّا فقط، إنّه في الصّناعة الشّعريّة أساسًا متينًا لتشكيل مناويل المجاز و إنتاج الصّورة الرّمزيّة. وتتشكّلُ مدارات الصّورة الرّمزيّة في انبناء التّخّييل واختياراته الجماليّة على نوع من اللّعب اللّغويّ ينهضُ على إرساء نمطٍ مخصوصٍ من علاقات الوصل في الخطاب الشّعري بين الدّال والمدلول من جهةٍ و بين المدلولات من جهة أخرى. ولا يعني اللّعبُ اللّغويّ قانونَ التحكُّمِ في إنجاز الشّعريّة و الصّور الرّمزيّة فلا بدّ مِن توفُّر شرط ” نفي المنافرة ” في الجملة الشّعريّة ليكونَ ” المعنَى شعريًّا” ، و القصدُ من ذلكَ أن يكونَ الانزياحُ خطأً متعمَّدا يُستَهدَفُ من ورائه الوقوفُ على تصحيحه الخاصّ. وإنّ أهمَّ ما يعرضُ للصّورة الرّمزيّة في هذا الإطار من الأخطاء المُتَعمَّدة هو انتقالُها في النصّ الشّعريّ من صورةٍ عينِيَّة حِسّية إلى المعنَى الرّمزي للصّورة أي إبدالاً للدالّ المعجِمي بالدّال المجازي الّذي يؤسِّس شبكةَ الإيحاء في القصيدة و يمنحُ المعنَى مسالِكهُ الرّمزيّة. و على هذا النّحو بَنَى الشّعر المعاصر فضاءه الرّمزيّ بوصفِه بناءً يحتضنُ رؤيةً للكيان وتصوُّرا للكتابة الشّعريّة بما هيَ لغةُ خلقٍ و نصٍّ مفتوح ينهض عل آليّة الشّطب للمعاني الثّابتة و يواجه سياسةَ الكلام الآسرة في الخطابات غير الشّعرية .
الهـــــوامش :
محمّد خطابي: لسانيّات النصّ، مدخل إلى انسجام الخطاب، بيروت، المركز الثّقافي العربي،1991 ، ص 14
تقِرّ دراسات الشّعريّة الحديثة أنّ أساسَ العدول في الخطاب الشّعريّ هو الانتقال في علاقة الدّال بالمدلول من وظيفة الإخبار إلى وظيفة الإيحاء بوصفها حاملةً للمعنَى الخفِيّ / Sens cachés أو المعنَى الثّاوي وراء الكلمات.” فالجملة الشّعريّة تُسنِدُ إلى ألفاظها وظيفَة يعجِز معنى الألفاظ عن أدائها”. انظر: (كوهين،جان) : بنية اللّغة الشّعريّة،ترجمة محمّد الوليّ و محمد العمري، دار توبقال للنّشر،1986 ،ص 196 .
حمّادي صمّود: مِن تجلّيات الخطاب الأدبي، قضايا تطبيقيّة، دار قرطاج للنّشر و التّوزيع، تونس، الطبعة الأولى،1999 ، ص 113 .
إذا كان الرّمز لا يحيلُ إلاّ على ذاتِه فلأنّ العلامةَ اللّغويّة تسمية، أي تُسمّي الأشياءَ و تحيلُ عليها، لتفصيل ذلك أنظر: 
Todorov (tzvetan) : Introduction à la symbolisation, Poétique, n11, 1972, p274.
توفيق بكّار: الشّعر بين المعنى و المغنى، مجلّة الحياة الثقافيّة عدد 51، لسنة 1989، ص 6 ـ 16.
لقد استخدم أكثرُ شعراء الحداثة منوال القِناع في وسم أعمالهم الشّعريّة و عنونتِها مِن ذلك : قناع المعرّي و أبي فراس و ديك الجنّ والحلاّج وابن عرَبي لدى البيّاتي أو قناع السّهروردي و فريد الدين العطّار ومهيار الدّمشقي لدى أدونيس.
يلاحظُ ” محمّد بنّيس ” أنَّ أساس الثورة الشّعريّة العربيّة المعاصرة هو مبدأ ـ الرّؤيا ـ الّذي يُحمِّل القصيدةَ ” لانهائيّة الخلق الشّعري” فالشّعر رؤيا ذات بعد فكري و روحي ، والرّؤيا مِن الأسس المشتركة بين الشّعراء الرّومنطيقيّين والشّعراء المعاصرين، و للرّؤيا جذور غامضة بعيدة في الشّعر العربي تنسجمُ مع تمرُّد أبي نواس و أبي تمّام ” دونما تغافُلٍ عن روني شار و بودلير . أنظر: محمّد بنّيس: الشّعر العربي الحديث3 ، الشّعر المعاصر، دار توبقال للنّشر، المغرب، الطبعة الثانية،1996 ،ص،40 .
محمّد الغزّي : وجوه النّرجس…مرايا الماء، دراسة في الخطاب الواصف في الشِّعر العربي الحديث، كلية الآداب و العلوم الإنسانية بالقيروان ومسكلياني للنّشر، تونس، الطبعة الأولى، 2008 ،ص 117 .
Roman Jakobson : Questions de poétique, Editions du seuil, Paris, 1973, p124.
Jean Cohen : Le haut langage, Flammarion, paris, 1979, p, 214 
محمد مفتاح: تحليل الخطاب الشّعري – إستراتيجية التّناصّ – المغرب،الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي،1985 ،ص 83 . ونحن نلاحظُ أنّ مفهوم ” الإبدال يأخذ- في مدوّنة تحليل الخطاب الشّعري العربي – أكثَر مِن تسمية، فهو ” مسافة التوتُّر” في دراسات كمال أبوديب النّقديّة، و ” المفارقة” لدى صلاح فضل، و ” التّناقض” في منظور محمد بنيس النّقدي ، ونجدُه بعنوان ” التّنافر” في كتاب ” القصيدة المغربيّة المعاصرة لعبد الله راجع. و يرى ” سعيد الحنصالي” أنّ إنتاج الصّورة الشّعريّة بواسطة الإبدال يضعُنا في صميم عمَل الاستعارة بوصف ” الشِّعر أعلى أشكال الاستعارة، فالقصيدة بناء وأساسُ هذا البناء الاستعارة و ذلك اعتبارا لكون الآليّات التي تشغَلُ القصيدة تقوم وتنمو وتتشعَّبُ بواسطة الاستعارة واعتبارا لكون النصّ ليس مجموعةً من الاستعارات الصّغرى الجزئيّة بل هو استعارة كبرى لها قاعدة سياقيّة داخليّة هي المعاني، ولها قاعدة إيديولوجيّة تتمثّل في علاقات المماثلة و المخالفة التي تقيمها مع العالم الخارجي، و تظهر لغويّا في الحمولة المعرفيّة للنصّ، وبصريّا في الفضاء المتشكِّل على صفحته”. أنظر: سعيد الحنصالي، الاستعارات و الشِّعر العربي الحديث، دار توبقال للنّشر،الدار البيضاء،2005،ص/ص،15-16.
_________
* باحث من تونس

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *