*يوسف خديم الله
ثقافات)
شُـبُهـــــات كاتبٍ تونسيّ فاسدٍ
” من الصعب، أخيرا، أن يفكر المرء و أن يصفق في آن واحد” ساراماغو
*****
[لأنّنا اخترنا (؟) – كذا يزعم بعض قرائنا القلائل المتغافلين – أن نعيش في منطقة ظلّ ثقافيّة، بعيدا عن النواة الصّلبة لما يدعى بالحقل الثّقافي التونسي الذي لا تتجاوز جغرافيته الطبيعية والبشريّة شارعين أو ثلاثة من العاصمة، قد تتمدّد إلى زنقة أو أكثر من مدن وقرى داخلية…
لأنّنا أعدمنا – لضيق ذات اليد وتضايق البصيرة – سبل الاتصال والتواصل مع مواقع النفوذ ومعابر النقود لتحرير صوتنا الأدبي / الثقافي من كبّالاته الذاتية والغيرية، البريئة والكيدية معا، فنستفيد مثل نظرائنا من المتاجرة الشرعية بكتبنا، أو ما شابه، تحت وصاية وإشراف أولي الأمر الثّقافي الرسمي…
لأنّنا أخيرا، بتنا –ولا فخر – أشهر شاعر تونسي أمّي، بشهادة زملائنا الأموات (الشاعر محمد رضا الجلالي الذي زعم أنّ معاني الأميّة، في العربيّة، “من ليس له كتاب”، مطبوع ومنشور ومبيع طبعا) وبشهادة الأحياء (الشاعر منصف الوهايبي الذي لم تمنعه وجاهته الشعرية والعلمية من تصديق كذا إدعاء، فأدرجنا ضمن منتخباته الشعرية الصادرة عن وزارة الثقافة اليمنية ثمّ عن المشروع الصحفي لليونسكو “كتاب في جريدة”، وهو ما ألّب عليه المؤلفة قلوبهم من شبيبة الأمّة، الراسخين في منطقة الضوء الثقافية في الشوارع أو الأزقة، تلك)…
لأنّنا كذلك فعلا، لا نملك إلاّ أن نتهوّر – وإن يائسين، كعادتنا – فنتقدم بهذا النصّ، كناية سردية بليغة عن طلب رسمي باسمنا الشخصي ، نتوجّه به رأسا إلى السّلطات الثقافية الرسمية ممثّلة في معالي وزير الثقافة والمحافظة على التراث للنظر في وجوه المساعدة بالدعم الحيوي الممكن لإنقاذ مخطوطاتنا التالية، والتي، في تقديرنا وتقدير أهل الذكر في المجال، باستطاعتها أن تنافس –مجتمعة- قصيدة غنائية واحدة من خمسة عشر سطرا، ستفوز حتما برعاية الوزارة وجوائز مهرجانها للأغنية والموسيقى التونسيتين :
هواء سيّء السمعة / شعر.
عضّة فاكهة على فم عاطل / شعر.
بريد شاعر سابق / رسائل.
قمّة وحضيض / رواية.
كلب يحرس أمعاءه / يوميات.
لا الأوّل الذي… لا آخر من… / مقالات.
تمثلات الفرد والفردانية في الخطاب الروائي التونسي / بحث جامعي.
في تحليل الخطاب الثقافي. مقاربات سيميو – سوسيولوجية / دراسة. ]
-1-
اقتربَ منّي، فجأةً، أحدُ المُدرّسين من الصّنف السّائد هذهِ الأيّام : واحدٌ من أولئكَ الذين، دون موهبةٍ كامنةٍ أو غباءٍ ظاهرٍ عَدَا صلع ٍ وعياءٍ مبكّريْنِ ومُباركُيْنِ، جَمعَ، دفعةً واحدةً، بينَ وجاهةِ دين ٍ وعِلم ٍ مهدورين ِ ودُنيا هادرة ٍ مزعومةٍ دائما. فقد راهن، طيّعًا على ما يبدُو، ببقايَا العقـْل على صيبةٍ مُلكوا كلَّ العقـْل ثمَّ رهنَ كلّ المُرتّب مقابلَ سيّارةٍ وشقّةٍ شعبيّتين ِ، واحدة تقرّبهُ من بورجوازيّة صغيرة آفلة، وأخرى من نيو-بروليتاريا كبيرة صاعدة.
-2-
كنتُ، على غير عادتي، أدركُ، قبل أن يتحرّكَ في اتّجاهي باسمًا ليربّت على مقعد درّاجتي الهوائيّة الحمراء ذائعة الصّيتِ1، على مرأى كلّ روّادِ مقهى “الكهف” الأشهر، القارّين والعَرضيّينَ، إنّه سيرشوني – كما اعتَاد – على “حسّي الرّياضي الصحّي” ويغبطني على “وعيي البيئي الطلائعي” الكافيين ِ كِليْهما لتدارُكِ وطنيّتي المتهافتة. من حسن حظّه أنّ صحف هذا الأسبوع وإذاعاته قد أنصفته و”بدّدت نهائيّا فرص تداركي” كما سيقول بعد أن قرأ صدفةً، ومنذ حين فقط، خبر آخر ملتقى أدبي في إحدى مُدن الشّمال والذي دُعي إليه شتلة يانعة دومًا من الكتّاب الوطنيين، شيبًا وشبابًا، إناثًا وذكورًا، جامعيين وعصاميين، عمّالا وعاطلين وعاطلاتٍ، تخصيصا، لتطارح موضوع ٍ طلائعيّ ٍ لا يبيدُ من قبيل “الشّعر والوطن” بل إنّه، ككلّ الملتقيات الشّقيقة الأخرى في قرى الجنوب أيضًا، أبقى بابَ التوبة مفتوحا أمام ذوي العزائم الصادقة والشّجاعة المعقولة والقدرة المتعقلة على امتطاء القطار وهو يسيرُ، بيسْر ٍ، مستفيدين في ذلك، أحيانًا، من مجدٍ يسْراويّ غابر ٍ وهو ما أغلق – للأسف – الكوّة التي أطلّ خلالها، وحيدًا ومتشائلا، على الشّعر مرّةً وعلى الوطن، مُرّا. لعل ذا ما شجعه على أن يزعم أنّني جدير بزعامةِ أقليّةٍ مضطهدةٍ، لا هي مترجلّة ولا هي سيّارة، وأجدرُ بالتّكريم الرّسميّ والشّعبيّ معًا، كأن أمتَّع بالدّخول المجاني والمؤمّن إلى ملاهي الشّباب ومراتعهم الراقصة وبالعلاج ِ المجاني الطبيعيّ في منتجعات طبرقة وياسمين الحمامات وديار الأندلس في شمال الوطن، لي، ولزوجتِي الشّابةِ العاطلة ولابني الرّضيع، تخصيصًا، الذي فتّح رئتيهِ، هو أيضًا، منذ أشهر فقط، على الغازات المركّبة المقلعة من مداخن ِ المجمّع الكيميائي التونسي ذي التاريخ الاقتصادي والاجتماعي العريق2 والذي أكسبت – والحمد لله دوما – سكّان المدينةِ حصانة سميّة جعلتْها قبلة للزوّار من بلاد العالم كلّه، حتّى من جيرانها، سكّان طبرقة وطُبرق في ليبيا الشقيقة ..
-3-
كنتُ فعلا أدركُ، على غير عادتي، أنّ رشوتَهُ تلك، لا – ولنْ – تكلفهُ شيئًا، إذ بات من الصّعب هذه الأيام، أكانَتْ جافّةً أو ماطرة، التمييز المخبريّ العلميّ حتّى، بين ماء الوجه وماء الصّرفِ في القنوات المفتوحة كما المُغلقَة، لا فرق، في شوارع البيئة أو ما تفرّع عنها، حيث تتجاور في تناسق وتناغُم لا يُضَاهَى أحواضُ تربية الباعوض الحضريّ الأليف ومربّعات الزّهور الطبيعيّة الملوّنة ومثلّثات العشب الأخضر المستورد من مخازن النبات البريّ في الشّمال مع أعمدةِ الكهرباءِ وخيوطِها ولوحات إشهار الصابون والغسول ِ والشكلاطة وطلاء أظافر البشر والهواتف الجوّالة إلى آخر ما في فنون الإشهار من دعايةٍ يصعبُ عليّ الآن تأويل مؤشّراتها التي لا أدري إن كنتُ أراها فعلا ً أم إنّها هي التي تراني فتعميني عن رؤية ما يُرى منها فعلا ً ..
-4-
كنتُ أدركُ تمامًا، هذه المرّة، أنّها – رشوتَهُ أعني – مجرّد مقدّمةٍ تقليديّةٍ لا حرجَ، بل لا مفرَّ منها، لعزائي أوّلا ً، وتاليًا، ليطلبَ خدمة ً لمْ أكنْ لحظتَها معنيّا بتعيينها لأنّه باتَ معْلومًا للجميع ممّن أعرفُ وممّن لا أعرف، أنّ لا َ شيءَ يصلُحُ لي بما أنّني لا أصلحُ لشيءٍ. وذا تشخيص قديم جدّا مذ تفطّنت أمّي، بوشايةٍ من مدّرس العربيّة قبل ثلاثين سنة، أنني قايضتُ كتابَ الرياضياتِ وحذاءً عسكريّا، هو صيفُ وشتاء قدميّ الحرجين، بكتاب “الرّوض العاطر” الذي ما عاد يصلُح لأحد زملائي بعد أن استبدّ به حبّ الإنجليزيّتين : اللّغة والسائحة التي درّبته على الاستمناء الصحّي تحت نخلةٍ جافة في جزيرة قرقنة الرّطبة. لذلك، هي الآن، أمّي، وبعد ثلاثين سنة، تعيُّرني وتحرّضُ زوجتي عليَّ، بادّعائِها أنّ عثرتي وسوء حظّي، بل بطالتَها وتعفّن أستاذيتها في الفلسفة هما حاصلُ كسلي وعجزي عن تحصيل حصّتي من الدّنيا وأن لا أملَ في تقصيب ذيلي – تعني وضعه في قصبة على طريقة الكلب العربيّ الأليف – منذ باتت الدراجة الهوائيّة الحمراء- بعد الكتاب، ومعه دوما – بمثابة الشهادتين، الشيء الذي يعني أنّني كافرٌ وما تعرّض الدّراجة تلك إلى السّرقة3 مؤخّرا، وبطريقة مُهينة، إلا ثأر المؤمنين جميعًا من مصدرِ تلوّثٍ حقيقي يُخشى منه على البلاد والعباد معا !
اختصارًا، لقد طلب منّي المدرّس ذاك تأليف قصيدة “تحفونة كيفك”، كذا قال بالضّبط، في مدْحِ شابّةٍ ستحتفلُ قريبا بعيدِ ميلادِها. وهو يعترفُ دونما حَرج ٍ أنّها فرصتُه “A ne pas rater” كما دقّق، ليتقرّبَ من أحد ذويها، موظّفٍ سابق في فرع صغير لبنكٍ كبيرٍ في ضواحي العاصمة. وهو يتفاخرُ، بمناسبةٍ وبدونها، بأنّهُ مدعوّ ٌ لحضور حفلٍ “موش-نورمال” ! لأنّ عيد ميلادها سيصادفُ – بالضرورة- حصولها على الأستاذيّة في الفلسفة (آهٍ من الفلسفة !) وهو ما سيصادف – لا ريب – امتحانها الشكلي لا غير في “الكاباس” CAPES وإلحاقهَا بقطيع المدرّسين ، تحديدا في إحدى مدُن ِ شمال ِ الوطن القريبة من العاصمة. بل إنّ حظوظها أوفرُ – لامتيازها المتوقّع – في تعيينها قريبًا جدّا من مدينة “ياسمين الحمامات” ممّا سيؤهّلُها لمباشرة بحوثها الجامعيّة الأعلى للفوز العاجل بالماجيستير ومن ثمّة َ بدكتورا الدّولة في فلسفة القانون الدّولي، باكرًا جدّا، حتّى قبل تحريرالدستور الجديد للعراق الشقيق !.
-5-
طبعًا، هو يعرفُ – كما تعرفون تمامًا- عجزي الهيكلي على تأليف ما لا يأتلِفُ تحت قلمي العاثر هذا، حتّى وإن دفعَ، إلى جانب ماء وجههِ، ما يحفظ لي أنا مياه الصّرف في “بيتي” في حيّ الأجر والآجُرّ إيّاهُ4. لذلك، أحلْته مباشرةً، دونما أسفٍ أو حسدٍ ، على أحدِ “زملائي” الذي جمعَ بالإبتدائيّة وقليل جدّا من الثانويّة، بين النّثر والشّعر – فصيحِهِ وملحونِهِ -، و بين الصحافة والفصاحةِ – مرئيّة ً ومكتوبة ً- حتّى بات نجمًا يتكوكبُ حولهُ الشّبانُ والشابات من مراسلي الصّحفِ ومهاتفي الإذاعاتِ والتلفزاتِ العربيّة الشقيقة ومن قواعدِ اتّحاد الكتّاب ونوادي القصّ والرّقص والجسّ والدّس ِ واللّمس والهمس ِ -نهارًا- وأهل الحلّ والعقد في الشّأن الإعلاميّ والثّقافيّ الوطنيّ والقوميّ – ليلا ً.
صحيح أيضا أنّه يعرفُ ويحرّضُني (؟!) على أن أبقى كما أنَا، نكرةً محضًا حتّى لا تقتلني الأضواء – كما يزعَمُ (؟!) – غير أنّه، من جهة أخرى، “يتأسّفُ” لحقيقة أنّني كاتبٌ لا يرتقي إلى التّصنيف، ولا حتّى لإعادةِ الجدولة (؟!) طالمَا أنّ الصّحافة َ الوطنيّة، صفراءَها ومُصّفَرها، يمينها، بل حتّى يمين يسارها المتفتّح لا تنشرُ لي مقالاً – أو ما شابه – إلاّ مرّة ً كلّ ثلاثٍ أو خمسِ سنوات، أي، كما يقول، بوتيرةٍ انتخابيّةٍ مشبوهة. أي أنّ الكتابة عندي لا تزالُ مشروطة ً بمصادفات النّزوة والانفعال، حاصِل العوزِ وضيق النّفس وعلّة ما في الرّوح، لا تُفسّرها موهبة أصيلة أو ثقافةٌ عميقة أو حتّى، في الأقلّ، عناء ومكابدة كتّابٍ حقيقيين، ذوي مواقعَ مأجورةٍ هنا أوهناك، في الهياكل والمؤسّسات الثّقافيّة الوطنيّة والجهويّة والمحليّة، أولئكَ المدرّبين على إنتاج ِ وإعادةِ إنتاج ٍ أمينةٍ لأدبٍ وطنيّ ٍ خالص ٍ حائزٍ، عن استحقاق ٍ، على علامةِ الجودة م.ت.، ذي القدرة التنافسيّة العالميّة في الأسواق الثّقافيّة المقيّدة والحرّة على السّواء ِ وذي طاقةٍ إشعاعيّةٍ محسوبةٍ حسب المعدّلات المشروعة بشهادة الوكالة الدوليّة للطاقة النوويّة وخبراء الجوائز من مهرجان أدب الزّهور في حيّ الرّياض، مرورًا بلجان ِ جوائز قُومار حتّى نوبل العظيم .. أي إنّني – والقول له دائما – كاتب حلزونيّ يتريّض خارج العصر، يجد عزاءهُ في استنساخ ِ وتيرة أولئك المُتسلّلين المتطفّلين المندسّين الذين- على رأي الشاعرة آمال موسى5- وجدُوا في “السنّة الوطنيّة للكتاب” فرصَتهم الأنسب لركوب القطار وهو يطير دون أن يدفعُوا، بل ليقبضوا فقط معلومَ الجولان في “ساحة الإبداع” والتحليق عاليًا في “ملكوتِ الحرف والكلمة” والإقامة على طريقة هولدرين التونسيةّ في قلب “معركة الفنّ والحياة” و البرهنة عن جدارتهم – هم فقط – بحبّ البلاد “كمنْ لا يحبّ البلاد أحد” حتّى وإن كان أولاد أحمد ذاتُه، بنفسهِ ونفيسِهِ معًا! .
-6-
لا ريب إذن أنّه يعرفُ تمامًا من أين يؤكلُ كتِفِي الذي هَزُلَ، بل تخشّبَ من فرطِ هَرش الجياع واللاجئين العابرين – عبرَهُ – إلى كتافٍ أخرى سِمان ٍ ذاتِ عضلاتٍ لهَا قدرة ُ الرّفع والنّتر لتلميع وجهِ البلادِ والعبادِ بنحاس ِ العملة والميداليات في شتّى أروقة المنافساتِ السياحياتِ الرياضياتِ الثّقافياتِ.
لقد عرفَ تمامًا كيفَ يُطوّع وضعي الأفروديتي باعتباري من سلالة ” شِبه-شبه “6 ، اختصارًا لإعاقة مزدوجة : ” شِبه- مدرّس / شبه – كاتب”. وضع يشاركني فيه أغلبُ الكُتاب التونسيين بما في ذلك خرّيجو المعاهد العليا الخاصّة في قرطاج أو روما الصّديقة وجامعات الشّرق العربي وروسيا البيضاء وأوكرانيا والذين لم تعُقهم معضلة معادلة شهاداتهم عن تدبّر مواقعهم المتحرّكة داخل الحدود الثابتة لما يسمّونَهُ “المشهد الثّقافي” الذي لا يتجاوز مساحة شارعين أو ثلاثةٍ من شوارع العاصمة، فيما بقيتُ أنا، هنا دائما، في حيّ الأجْر والآجرِّ إيّاه بصفاقس الغربيّة، أجترّ أجْري، أجْري بهِ متعثّرا بين دَكاكين الحليب والطّماطم المُعلّبين وحوانيت الورّاقين وباعة الحبر المجفّف .. أهرب من الكتابة إلى الكُتب، ومن الكتب إلى التخطيط للكتابة عن كتب الآخرين :
لا أكتبُ
لا أكاتبُ
ولا أحد يستكتبني
ولا أستكتبُ أحدًا ممّن كبا بهم ما يفيضُ عن حاجة الكتابة إلى الكبتِ الفعّالِ حسبَ الإدّعاء الشّهير لعلاّمة الشّمال، فرويد.
إنّه وضع يمكّنه من انتهاز فرصة قطف فاكهتين في سلّة واحدة :
أ- تثبيتُ، من ناحية، أنّني نصفُ كاتب. وعليه، سيضمن مجانيّة الخدمة الثّقافيّة الشريفة بما أنّني سأجد كلّ الحرج في طلب مقابل نقديّ أو ريعيّ لعملٍ مُفتعلٍ آنيّ وغائيّ ٍ خالٍ من أيّة معاناة ومكابدة وسهر ليالٍ طوالٍ، هي فقط، تجربة الكاتب الكامل الذي لن أكونَ، بل سيكفيني تعزيز رصيدي الأخلاقي بتجذير نزعةِ الزّهد الكامنة وبذرة البرّ بمن حُرموا من نعمة المنّ بأدبٍ طاهر ٍ مُتحلّل من متاع الدّنيا وآهل بمتاع الدّين. ( اعترفُ أنّني، بذا ، أخرّبُ النّضال النّقابيّ الذي باشرهُ، ويُفاخرُ به، عن جدارة، الشّاعر والمدير الثاني لـ”بيت الشّعر التّونسيّ” في المدينة العتيقة بتونس العاصمة والذي دافع، ويدافع، و سين وسوف، عن الأجْر الأدنى الأساسي للشّعراء تحديدًا، وعن المنح القارّة والطارئة، المقرّرة فوق الطاولة والمدسوسة تحتها، والحقّ في الضّمان الصحّي والسكنيّ والحق في التعليم والكتابة والنّشر عن بعد .. إلى آخر قائمة الحقوق المهدورة للكاتب والكتابة.اعترف، بذا، رغم أنّني – نظريّا على الأقلّ – مرشّحٌ لأكون من بين أوائل المستفيدين من ثمار نضالهِ النّقابيّ الثقافيّ المشروع … لولا أن الشاعر المدير اياه قد أغفل حق التفرغ و اكتفى بشبهه ممّا قد تكتفي به المؤسسات و المرافق الثقافية الرسمية أو شبه الرسمية. أي إنه حق عشوائي انتقائي يمكن ألاّ يصيب – على ما يبدو – من تجاوز تحصيله العلمي الباكالوريا التونسية، فما بالك بشهادة الدراسات المعمقة (DEA) الخفيفة في علم الاجتماع، الخفيف مثلا ! ).
ب- تذكيري من ناحية أخرى – على سبيل التّثبيت دائما- أنّني نصف مدرّس من خلال إيحاءِهِ – المؤلم رغم ذلك- بإعاقتي الاجتماعية وهشاشتي البيداغوجية التي لم تؤهلني إلى الإستحواذ الشريف – هو أيضا- على الوضع الطّبقي النّموذجيّ لمدرّس ٍ كامل الدّسم /15,5غ، مثله ومثل غيرهِ تمامًا من زملائي الذين عرفُوا كيف يضمنوا الأجر والآجُرّ وراحة البال فيكتفُون- لدرء خطر الأميّة المرتدّة – بجريدة الأحدِ الأسبوعيّة المحليّة ذاتِ الملاحق ِ المجانيّة الملوّنة، أو – في أرقى الأحوال – بعددٍ شهريّ ٍ لدوريّة “عالم المعرفة”7 من إنتاج الكويت الشّقيقة، يدُسهما معًا، مع مجلّة “زهرة الخليج” أو “سيّدتي” الخليجيّتين – طبعا- في سلّة الشّراءات الشّهريّة له ولزوجته – المدرّسة هي أيضا، أو ما جاور- أي، اختصارًا درء الأميّة تلك بأقلّ التّكاليف من ناحية، ومن ناحية أخرى خفض العجز المالي العائلي النّاجم عن الصّيغ البنكيّة الرّحيمة لتملّك سيّارة وشقّة شعبيّتين، واحدة تقرّبُه من برجوازيّة صغيرة آفلة وأخرى من نيو- بروليتارية كبيرة صاعدة.
إنّ كذا تشخيص يثبّتُ في الحالتين أنّني : لا شيء. وهذا الّلاشيء هو رأسماله الذي يديره بطريقة تجعلني أتأرجح في وضعي الأفروديتي ذاك بين ” شبْهيـْن ِ” يُحيلاني، في النّهاية، إلى ” شُبهة” عالقةٍ بي أينما تنقّلتُ، وإن كان ذلك :
من “البيت” إلى “المدرسة”
ومن “المدرسة” إلى “البيت”،
وأحيانا،
من البيت إلى البيت مباشرةً،
أو من المدرسة إلى المدرسة مباشرةً أيضًا !.
-7-
غير أنّه، هو أيضا، لا يقلّ ُ عنّي غفلة ً وحُمقا يغلّفُهما الإدّعاء، إذ أنّه لا يدركُ أنّني-باعتباري انتهازيا سلبيّا – أجدُ عزائي، بل فُرصتي في هذا الوضع بالذات. إذ، مع تضخّم الإنتاج الرّوائي التونسي هذه الأيّام، حاصل دمقرطةٍ جذريّة للكتابة لعلّها هي أيضًا، من باب درء ِ نخبويّة القراءة واحتكارهَا من طرف فئة مريضةٍ متحلزنة تعالجُ الدّاء بالدّاء، ومعَ تناسلِ المسابقات الأدبيّة الصّرفة الخالية من أيّ شبهةٍ تجاريّة أو أيديولوجية حزبيّة ضيّقة، قرّرتُ أن أتسابقَ مع المتسابقين لعلّي أحصُلُ – قانعًا حقًا- حتّى على نصفِ جائزةٍ كبرى، ولنْ أجِدَ الحرجَ الذي عاناهُ حسن بن عثمان في تقاسُمها العادل مع نصفِ كاتبٍ تونسيّ كاملٍ،8 ولنْ أجد الجرأة مثله على التّشهير بالصّغار حتّى يكبرُوا فينفلقوُا، أو الكبار حتّى يصغروا فتفقِد البلادُ، بذلك، شتلة الكتّاب المهجّنة الصالحة – عن جدارة ٍ هذه المرّة – لتمثيلها في الأسابيع والسّنوات الثّقافيّة خارج حدودها، يتغنّون ، مجانًا ، بحبّها – هُم فقط – وتمامًا:
“كمنْ لمْ / فعُولنْ
يُحبّ َ البلاد / فعُولنْ فعُولنْ
أحدْ / فَعلْ 9
حتّى وإن كان الشّاعر- مدير بيت الشّعر الأسبق – أولاد أحمد، بنفسِه ونفيسهِ معًا !
هوامش و حقائق
* نُشر في القدس العربي في 10مارس 2010، بعنوانٍ أصلي: “شُبُهات كاتبٍ تونسيّ، شبه-شبه/ أو.. طيّارتهم لا تنبحُ على كلبنا”..مبتورًا من هوامشه، سيّئةِ الذّكر، دائما..و ما حصل لصاحبه إثر ذلك، لا يهمّ أحدا، وهو موضوع كتابٍ قيد الإعداد، لا أحدَ يهمّه..
1- انظر على سبيل التشجيع لا غير : “السّرقة من طرف واحد”، مجلّة حقائق عدد 648، 8 ماي 1998، ص 22
أسمّيه، أحيانا، على سبيل التّعويض : “الحديقة الهوائيّة العامّة” أو، بفرنسيّة ملفّقة :
“Belvédère à domicile ” وهو ما يعطي المختصر الإنجليزي (B.A.D) .
انظر، لا بأس، جريدة الشّروق التونسيّة، 12 ديسمبر 2003 ، ص 20.
رجاءً، انظر، مرّة أخرى، “حليمة تعود دائمًا”، جريدة الشّروق التونسيّـة، ملحق الإبداع 6 جوان 2003 ، ص 13.
جريدة الصّباح التونسيّة، الملحق الأدبي 13-فيفري 2004، ص 16.
5 مكرّر- من الطّريف الإشارة إلى أنّ لهؤلاء، موهبة التسلّل “المشروع” حتّى خارج الحدود. وتمثيلا على تلك، الوفود الوطنيّة التي “مثّلت” الكتّـاب والصّحفيين التونسيين وتخصيصًا، الشّعراء منهم، في دورات مهرجان المربد ما بين الحربين : الخليج الثّانية / 1991 والخليج الثالثة / 2003، والتي عادت إلى قواعدها، في الوطن، آمنة سالمة ً، مُحمّلة ً بالهدايا وشهادات المشاركة والإمتياز – تماما مثل شهادة “واثق”،- وخاصّة بصور ٍ ملوّنةٍ وفيديو سكوبيّة تؤرّخ – للأبد- ركوبهم الشّجاع صهوة الدّبّابات العراقيّة الرّاسية في رمال الصّحراء، يرفعون – في كرم ٍ لا يضاهى – إصبعيْ النّصر ويَعِدون أطفال العراق المحاصر الجائع – كما يؤكّدون هم أنفسهم – بعودتهم بكِلا الإصبعين وبذات القصائد، منقّحة ً ومُحيّنة ً ومزيّدةً، في المربد القادم. ولقد ضاعف شرفهم ونضالهم الأبدي القوميّ الكاتب الشّهير صبحي حديدي بعد أن خصّهُمْ بإحدى مقالاته تثمينًا لطاقتهم القتاليّة، آنذاك، ووصلهم بين بلاغة الإنشاء الشعريّ والبراكسيس الثّوري، كلّ ذلك، في تناغم ٍ مدهش ٍ ، مع انخراطٍ شجاع ٍ أيضًا في ما سمّي لهم بالمنظومة الثّقافيّة المعولمة.
انظر : “شعراء الدّبابات” ، جريدة القدس العربي… [ دقيقتان للتفكير + موسيقى (خفيفة) = الجائزة لمن يذكر التاريخ التقريبي فقط لنشر المقال : سفرة برية الى “الفلوجة” على متني دراجتي الهوائية الحمراء الشخصية]
يحيلُ هذا المختزل إلى نظريّة، بل إيديولوجيا نضاليّة يساريّة سادت أثناء الستينات والسّبعينات في الألفيّة الماضية – على ما أتذكّر- تقولُ، تشخيصًا لطبيعة المجتمع في “العالم الثالث”، بوضعها المزدوج : شبه – إقطاعي شبه – مُستعمَر. الحقيقة أنّ أستاذيّتي البائدة في علم الاجتماع و أستاذيّة زوجتي الرّاهنة في الفلسفة ومعهما شهادة امتياز “واثق” سالفة الذّكر تكذّبُ، جميعُها، هذا التّشخيص. إذ أنّني وإن كنتُ قنّا بمرتّبٍ وعطلةٍ أسبوعيّة، فإنّني إقطاعيّ أيضا تجاه زوجتي العاطلة. ثمّ إنّها، وإن كانت “قِنّتي” بحقوق ٍ تُحسدُ عليها، جنسيّة واقتصاديّة وسياسيّة (لا أنتخب بدلا عنها، مثلا)، فهي مُستعمِرة تجاه ابنها. وفي الحالتين، فإنّ هذا التّوازن هو من صنو توازن عالميّ هشّ، قد لا يؤبّده هذا التّشخيص الإيديولوجي الهش.
الحقيقة، بعض الحقيقة طبعًا، أنّني أمتلكُ بحلالي ومال وزارة التربية (فقط) – كذا كانت تُسمّى- أكثر من ثلاثة وأربعين عددا. غير أنّ الطّريف في الأمر أنّ أوّل نسخة منها كانت هديّة ً من زميل- معلّم آنذاك- شابّ ٍ أعزب أيّام كنتُ “صائعا” كما يقول المتعقّلون في المشرق، ضالاّ ً في أزقّة القيروان ومقابرها، هاربًا من الشِّعر والشّعور إلى الشَّعر والنّحور (كذا كان يشاعُ)، أتعرّف – قراءةً، بين سكرتين بكتابين في آن ٍ واحدٍ – على رتل من جثث الصّائعين (رامبو، فيرلين، نيتشه، ميشو، نيرفال، كوكتو، بيكيت، كفافيس، بودلير، سيوران، ستيرنر، …).
أي، اختصارًا، كنتُ أهدرتُ باكرا جدّا، الفرص السّهلة لسفر مغامر أسهلَ إلى المربد أو توزر، لأجعل من رأسي، في القيروان الضيّقة، بلادي الافتراضيّة :
بلا حاسوبٍ عائليّ أو قبليّ
بلا فأرةٍ أو كلبِ حراسةٍ
بلا مكتبٍ ولا ستائر
بلا صندوق بريدٍ أو بشائر
فقط
بجلدِ خروفٍ، للنّوم
بأعشابٍ ضِدّ صداع الأسنان وآثام رفع فاعلٍ ينصبُ على مفعولٍ لا يعتدلان ِ أبدًا
بشموع ٍ للقراءة ضدّ كتابة الأفراح ِ السّهلةِ والإسهال ِ والأرق ِ…
يفضل التثبّت من الأمر من المعنيين بالأمر، مباشرة، حافظ محفوظ وحسن بن عثمان.
للتثبّت من سلامة الوزن وسقوط حافر الإسم في حفرة المسمّى، يُرجى الاستماع، إن أمكن، إلى النّشيد، مُغنًّى، على حنجرة السيّدة صوفية صادق، و لله أعلم.
______________
*شاعرٌ سابق، تونس
صفاقس- الغربية / تونس 2003