خُسران المعنى في رواية الشحّاذ لنجيب محفوظ


*محرز ثابت

(ثقافات)

لقد كتبَ نجيب محفوظ رواية ” الشحّاذ ” في سياق تاريخي محدَّد (1). حتّم على الشّكل الرّوائي أن يتجاوز علاقة الأدب بالواقع إلى الانفتاح على المتضمّنات الفكريّة و الأخلاقيّة لتلكَ المرحلة من التّاريخ العربي. ففكرة البحث عن المطلق مثّلت عنوان المتن الرّوائي في روايات محفوظ الموسومة بالذّهنيّة ( اللصّ والكلاب، الطّريق، الشحّاذ). و بطلُ رواية الشحّاذ رسم خطّ الصّدام بين الظّاهري والحقيقي لأنّ العالَم المعيش Le monde vécu ” قد تغيّر بعد ثورة 1952 و أنَّ طريقة إدراك ذلك العالَم قد تغيّرت أيضا، و قد تولّد من جرّاء ذلك أزمة عميقة في ضمير بعض الأفراد. فعندما يُدرَك العالّم بطرق مختلفة تصبحُ طرق تقييمِه بدورها متباينة. و يضحى لكلّ فرد حقيقة خاصّة به. و حينئذ تتنازع الحقائق و تحتدم في صراع 
لا مخرجَ منه إلاّ إذا هيمنت حقيقة واحدة و فرضت نفسَها بالقوّة”(2). و نتبيّن من مقولتَيْ ” الصّراع ” والأزمة العميقة” أنّ الشّخصيّة القصصيّة في الشحّاذ أضحت تتحدّدُ بما يُسنَدُ إلى أعمالِها من قيمة. فــ” عمر الحمزاوي ” يمثّل في المتن الرّوائي ” أزمةَ البطل” بوصفه في وضع ” خسران الهويّة ” . إنّه لا يعرف ذاته و لا يستطيع تحديد إرادته، ” و يظلّ عقلُكَ يتابع هواجسه، مُسَلِّما بأنّك تغيَّرت أكثر ممّا تتصوّر، فيا تُرَى ماذا أريدُ؟ أجل ماذا أريد؟ ” (الشحّاذ ص/51). و يمكننا تعليلُ هذا الخسران بما حدثَ للشّخصيّة من تغيّرات و طرأ عليها من تقلّبات في مسار رحلتها في البحث عن معنى. ونحن نلاحظ أنّ أولى درجات خسران الهويّة أو ” مأزق خسران الهويّة” جسّمه انقطاع ” عمر الحمزاوي ” عن طباعه الثّابتة المألوفة، و أضحت أحوال نفسه المريضة إحدى علامات ذلك الانقطاع” لا أعتقد أنّي مريض بالمعنى المألوف … و لكنّي أشعرُ بخمود غريب… (الشحّاذ،ص7). 
يجسّد انقطاع الشّخصيّة عن مألوف طباعها المظهرَ النّفسي لأزمتها، وقد أجلتْ مواقف البطل من الشّعر و السّياسة و الحبّ هذا الانقطاع و برّرت حدوثه بضياع القدرة على ” تعهُّد الأنا ” و استمرار ديمومتها في الزّمان ، و تمثّل هذه السّمة : العجز عن الاستمرار في الزّمان بلا تبدّل أو تغيير مكوّنا بنائيّا للشّخصية القصصيّة في الرّواية الذّهنيّة. فأزمة البطل تشكّلت على وجوه متعدّدة ( انفعاليّة ومحورها الضّجر و القلق ” ذكريات معادة، كالقيظ و الغبار، دورات محكمة الإغلاق، و الطّفل الباسم يتوهّم أنّه يمتطي جوادا حقيقيّا… ضجر يضجر فهو ضجر وهي ضجرة و الجميعُ ضجرون و ضجِرات…(الشحّاذ، ص 20) ، واجتماعيّة ومدارُها الخلفيّة الاشتراكيّة لمبادئ الشّخصيّة السّياسيّة ” و كنتَ تظهر لنا بأكثَرَ من وجه: الاشتراكي المتطرّف و المحامي الكبير” ، و أزمة ” الطّبقة البورجوازيّة” في مصر بعد الثّورة (3). وفكريّة: قوامُها علاقة الفنّ بالعلم و العلم بالفلسفة ( الفصل الرّابع من رواية الشحّاذ)و معنى الحياة و المسؤوليّة و الحريّة.
و تنضوي مظاهر هذه الأزمة في الشحّاذ ضمن” مأزق خسران الهويّة” بوصفه مبدأ الكتابة الرّوائيّة الذّهنيّة وقد أضحى فيها ” وجدان البطل بؤرة الإحساس الدّرامي في الرّواية كلِّها “(4). و إذا رُمنا تحديدا يُجلِي تشكّلات خسران الهويّة و دلالاته في الشحّاذ فإنّ تجارب شخصيّة عمر الحمزاوي عبر مسار الرّواية الحدَثيّ تُبرزُ بوضوح انقطاع البطل عن تعهّد الأنا بما كان وفيًّا له اجتماعيّا وعقليّا و مهنيّا وانخراطه في سؤال الحيرة و القلق بالتّوق إلى المطلق والبحث عن معنى الحياة. و على هذا النّحو نعتبر التّجارب التي خاضها البطل لمجاوزة أزمته و معرفته ذاتَه، و رحلته في الكشف عن حقيقة الحياة وجوهرها تجربةً في اكتساب القيمة واسترداد الهويّة الشّخصيّة الضّائعة. فقد كفَّ ” عمر الحمزاوي” عن يكونَ ثابتَ الطّبع رهينًا للرّتابة والخمود ” ماذا تعني الحياةُ لديك؟”. و كفَّ عن تكرار العمل و الزّوجة و الجاه ” لا أريد أن أفكّر أو أن أشعُرَ أو أن أتحرّكَ، كلّ شيء يتمزّقُ و يموت ” ، و كفَّ عن الدّيمومة في الزّمان ” أنتَ رجل ناجحٌ ثريٌّ تأكل فاخر الطّعام و تشرب الخمور الجيّدة و ترهق نفسك بالعمل ” ليخوضَ ضمن مسار البحث تجارب وجوديّة تختزل أسئلة العبث و الحريّة و الاستناد على الوعي الذّاتي في إدراك الحقيقة واكتشاف جوهرها ، فحالة القلق مثلا في شخصيّة “عمر الحمزاوي” هي لحظة امتلاء عبّرت بها الذّات عن وجودها. و أمّا قلق الموت فهو الباعثُ على الإحساس بالعدم (5)، و قد اتّجه منطق الإبدال Trope في الشحّاذ إلى مغايرة هذا الإحساس بالنّشوة و اليقين و الحركة، ” الفعل الصّادرُ عن الحريّة نوعٌ من الخلق” و ” آنَ للقلب وحده أن يرى، أن يرى النّشوةَ كنجمٍ متوهِّج، و ها هي تدبّ في الأعماق كضياءِ فجر، فلعلّ نفسَك أعرضتْ عن كلِّ شيء ظمأً للحبّ ، حبًّا في الحبّ، توقًا لنشوة الخلق الأولى، اللاّئذة بسرّ أسرار الحياة”( الشحّاذ:ص، 64).وفي تجربة الإشراق و الحلول تخلو الذّات إلى نفسها بالانعزال عن عالَم الدّنيا و النّاس و يمثُلُ القلبُ مصدرا للمعرفة و الكشف، فإذا المكاشفة الباطنيّة سبيل إلى الالتحام بالمطلق ” فرقص القلبُ بفرحة ثملةٍ اجتاح السّرور مخاوفه و أحزانه … و شملته سعادة جنونيّة غامرةٌ، و أظلّه يقينٌ عجيب ، و ملأته ثقةٌ لاعهدَ له بها … و ترامت الدّنيا تحت قدميه حفنةٌ مِن تُراب «. و في تجربة الرّحيل أو الجنون تجسّدت شخصيّة ” البطل المأزوم” في التّراوح بين حركة الوعي واللاّوعي، و التّقلُّبِ بين الرّؤى و الأخيلة ” ماذا يعني هذا الحُلم إلاّ أنّني لم أبرأْ بعدُ، و كيفَ أفكِّرُ فيك طيلةَ يقظتي ثمَّ تعبثُ بمنامي الأهواءُ؟ و لكن مهلا! أينَ أنا؟ أين النّجوم؟ أين أعشابُ الحديقة وأشجار السّرو؟ هذه سيّارةٌ تنطلقُ. و أنا راقدٌ على مقعدٍ طويل جانِبِيٍّ يجلِسُ على طرفه رجُلٌ… لا شكّ أنّي مازلتُ أحلُم.”(الشحّاذ:ص،182). 
إنَّ خسران الهويّة في رواية الشحّاذ بتعدُّد التّجارُب و تنوُّعها تحقيقًا للذّات و كشفًا لإنِّيّتِها إنّما يُعبّر عن نمط من أنماطِ الشّخصيّة القصصيّة في رواية تيّار الوعي ” courant de conscience ، تنهضُ على مقولةٍ في التّخييل القصصيّ الحديث قوامُها : ” الإنسان بِلا مَزَايَا” L’Homme sans qualités ، وهي الرّواية التي تكون فيها الشّخصيّة إشكاليّة و نكرة بوصفها شخصيّةً غيرَ قابلةٍ للتّعريف أو التّحديد ، إنّها الشّخصيّة التي لا تُسَمَّى على نحو شخصيّة ” عمر الحمزاوي” في الشحّاذ. و ملامحُ انقطاع التّسمية عن هذه الشّخصيّة باديّةٌ في مجمل الدّلالات التي لوّنت تجاربَ هذه الشّخصيّة في الرّواية بحثًا عن معنى الحياة، و من نماذج ذلك :
الإنيّة الرّوحيّة : فقد جسّد عمر الحمزاوي في تجربة التّصوّف بوصفها منوالاً للمعرفة حالَةَ الحلول الكونيّ والإشراق و التّجلّي: ” و أظلّه يقين عجيب ذو ثِقَل يقطُر منه السّلامُ و الطُّمأنينةُ … لا شيءَ ، لا أسألُ صحَّةً و لا سلاما ولا أمانا و لا جاهًا و لا عمرا ، ولتَأْتِ النِّهايةُ في هذه اللّحظةِ فهيَ أُمنِيَةُ الأماني”
التّوحُّدُ بالطّبيعة و الفوز بسرّ الوجود : ” و لبثَ يلهثُ ويتقلّبُ في النّشوةِ ، و يتعلَّق بجنون بالأفُق… وقال بعد صمتٍ : ــ اليقينُ بلا جدال و لا منطق … ثمّ بصوت مسموع أكثرَ : ــ أنفاسُ المجهول و همساتُ السرِّ.( الشحّاذ:ص، 120)
الإنيّة العقليّة : و يمثِّلُها:
قصور القلب عن إنتاج المعرفة ” من الخرافة أن نتصوّر القلبَ وسيلة للحقيقة، و لكنّه مجرَّد صخرةٍ و سوفَ تتقهقرُ بكَ إلى ما وراءَ التّاريخ ” .
أساسُ المعرفة العقلُ و العِلمُ و المنطق: ” قديما كان للفنّ معنى حتّى أزاحه العلمُ من الطّريق فأفقَدَه كلَّ معنَى”. و ” إنّي مؤمنٌ بالعلم و العقل”.
الإنيّة الإيروسيّة : و رمزيّتها تجربة الحبّ و الجنس ، وقد حوّلت شخصيّة ” عمر الحمزاوي” الحاجة إلى الجنس من الطّور الغرائزي إلى أداةٍ للمعرفة بالذّات ” لم أكن في تلك اللّيالي العجيبة حيوانا تحرِّكه شهوةٌ ، و لكنّني كنتُ مُعذَّبا.. وبائسًا” و ” كلَّما رأيتُ أنثَى خُيِّلَ إليَّ أنّني أرى الحياةَ على قدمين..” . ومن وجوه خسران الهويّة في تجربة الحبّ والجنس الوعيُ بزوال الحسّ و أفوله في الحياة ” و نشوة اللّيلة مجنونةٌ كالبرق فكيفَ تملأُ فَراغَ الحياة؟ “.
الإنيّة الإنسانيّة: و رمزيّتها مشكلة الانتماء ، فإذا كان الفرد الإنسان منتميًا في بعده الكوني إلى الإنسان ” الإنسان إمّا أن يكونَ الإنسانيّة جمعا و إمّا ألاّ يكون” فإنّه في بعده الاجتماعي الوطني ينتمي إلى الإنسان الكادح العامل و يلتزمُ بقضايا المجتمع ” عنما نعي مسؤوليّاتنا حيال الملايين فإنّنا لا نجدُ معنى للبحث عن معنى ذواتنا ” و يظلّ الانتماء السّياسيّ بوصفه رديفًا للنّضال و الثّورة أعلى براهين الانتماء في الشحّاذ ، و يجسّد عثمان خليل هذا المبدأ الرّمز في قوله ” نحن نعمل للإنسانيّة جمعاء لا للوطن وحده “.
يمثّل جِماعُ تلك التّجارب رحلة الإنسان في البحث عن اليقين، وتعبيرا عن إرادة الشّخصيّة التَّعرُّفَ إلى ذاتِها و إدراكِ هويّتها، و تتضمّن هذه الرّحلة الوجوديّة معنى البحث عن المطلق بوصفه حركةَ الإنسان نحو الحقيقة، و كشفِ جوهرها لأنَّ مضمون الضّجر و القلق في الشحّاذ ” تعلّق بسؤال مَن أكونُ؟ المرتبِط بالصّورة الشِّعاريّة ” تعهُّد الأنا” Le maintien de soi ، و إذا عبّرت أزمةُ البطل في هذه الرّواية عن معنى ” خسران الهويّة” فلأنَّ البطلَ فيها قد خَسِرَ ما به تكون الأنا بذاتِها و لذاتِها و نعني بذلك ما يمكّن ” عمر الحمزاوي” عبر الوقائع الحدثيّة من إسنادِ هويّة لذاته تمنحه اليقينَ و معرفةً بسرّ الوجود. فتتعدّد ـ تبعا لهذا الخسران ــ معاني الحياة ( التي يُجليها في الرّواية تعدّد الشّخصيّات : عثمان، وردة ، سمير ، زينب) ، ويبقى تكرار الفشل معيارَ المعرفة بالنّفس و إمكانا لتحقُّقِها الوجوديّ. ويمثّل تكرار الفشل ـ من منظور خسران الهويّة ـ نهجًا فنيّا في كتابة الرّواية الذّهنيّة لدى نجيب محفوظ، ” و سوف ينهج في عدد من الرّوايات نهج إسقاط الأفكار و الرُّؤى الميتافيزيقيّة على أشخاص من الواقع الحيّ، و في مثل هذه الرّوايات نجده مأخوذًا بفكرة البحث عن المطلق. أبطالُها لا ينتظرون غودو بل يذهبون للبحث عنه” (6). وعلى هذا النّحو نتبيَّن رمزيّة ” الشحّاذ” بوصفها عملا روائيّا في خسران الهويّة و بالتالي خسران المعنى (7) أو فقدانه بضياع العلامات التي يمكن بواسطتها التّعرّف إليه . لقد فقد الشحّاذ ” عمر الحمزاوي” القدرةَ على تشكيل المعنى بما يدلُّ على فقدان الهدف و غياب القصد من فعل الوجود و الحياة.
الهوامش :
ــــــــــــــــــــــــ
المقصود بذلك مرحلة ما بع ثورة الضبّاط الأحرار بمصر سنة 1952 وقد أشار النقّاد إلى أنّ نجيب محفوظ قد غرق في فترة تأمّل مدّة سبع سنوات خرج بعدها على النّاس بأوّل رواية ذهنيّة هي [ اللصّ و الكلاب] سنة 1961 و قد كانت مُنطَلَق نزعة جديدة فيها تندرج رواية [الشحّاذ] سنة 1965 . أنظر : الصّادق قيسومة : النّزعة الذّهنيّة في رواية الشحّاذ لنجيب محفوظ ، دار الجنوب للنّشر ، تونس ، 1992 ، ص ، 29 .
العادل خضر : يُحكى أنّ … مقالات في التّأويل القصصي، دار المعرفة للنّشر، 2006، ص ، 124 .
يقول نجيب محفوظ عن هذه المرحلة من تاريخ مصر:” لقد نادت هذه المرحلة بإصلاحات ثوريّة و قضت على الإقطاع وأنهت سيطرة رأس المال على الحكم و لكنّنا فوجئنا بطبقة طفيليّة تقفز من بين أجهزة التّنفيذ ووجدناها أفسد من الإقطاعيّين و أفظعَ ” . نجيب محفوظ: مجلّة الهلال المصريّة، العدد، مارس1976، ص، 20.
نبيل راغب : قضيّة الشّكل الفنّي عند نجيب محفوظ ، دار الكتاب العربي ، 1967 ، ص 272.
أحمد محمّد عبدالخالق : قلق الموت ، سلسلة عالم المعرفة، العدد 111 مارس، 1987 ، ص ،51 .
خالدة سعيد : حركيّة الإبداع، دراسات في الأدب العربي الحديث، دار العودة،بيروت،1982، ص 210.
يحمل لفظ المعنى Sens دلالتان، فهو يدلُّ من جهة على الهدف. ذلك أنّ الحياة بهذا التّصوُّر إمّا أن يكون لها هدف فيكون لها معنى أو أن تكون مفتقرة لهدف فلا يكون لها معنى. كما يدلّ لفظ المعنى من منظور تعبيريّ على الكلام. و بذلك صار اإنسان الحديث يكتشف المعنى و يعثُرُ في التّصوّر الأوّل. أنظر: العادل خضر : يُحكى أنّ … مقالات في التّأويل القصصي، دار المعرفة للنّشر، 2006، ص ،138 .
__________
* باحث من تونس

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *