تيه..


* بسمة فتحي

(ثقافات)

الناسُ في الشوارعِ بشوشون طيّبون؛ الابتسامة لا تفارق ملامِحَهم، لا يعرفون للغريبِ اسماً أو كنية، لا مكان له في ذاكرتِهم، حلقاتِ سمرِهِم، أو حتى في مجالسِ نميمتِهِم التي لا تترك أحداً من شرّها ولا تَخصُّ جنساً بشرياً دون آخر.
“غريبٌ”، تائهٌ، خفيفُ الظلِّ، أنيسٌ يمرُّ من شوارِعهم بخطى متأنيّةٍ متأمّلةٍ آمنةٍ ولا تستعجل الوصول. تبدأ خطوات “الغريب” قبل ظهور خيوط الشمس الأولى؛ وغالباً لا يسمعُ غيرَ زقزقةِ العصافيرِ، ومواءِ بعض القططِ أو نباحٍ بعيدٍ لكلابٍ مسالمة. يطربُ لصوت خطوات قدميهِ، يشعر بأن الشارع يكتفي به ويمتلئ، يدخلُ الزهو قلبَه بإحساسه ذلك، لكن ما أن يتذكر تيهَه حتى يعصفَ به دويٌّ من نوعٍ آخر: “منذ متى وأنا أمشي؟ كيف وصلتُ إلى هنا؟ وإلى أين تأخذني الطرقات؟ كم قريةٍ مررتُ بها وأهلها؟ وكم مدينةٍ بقيتْ أمامي؟”. 
تشغل “الغريب” أسئلةٌ لا يذكر إجابات بعضها، ولا يعرف إجابات البعض الآخر. فهو لا يَعي نفسه إلا ماشياً في طريقٍ مختلفٍ كلَّ صباح. حكايات يسمعها من الناس حوله أو أخرى يكون شاهداً عليها تُعينه على تحمّل طي مسافات طريقه المستمر. ما زال يتساءل هل نجح الشيخُ بالهرب؟ هرمت قدماه ونحل جسده ولم يعد باستطاعته المشي طويلاً، تشبه خطواته خطوات طفلٍ في أول مشيه، خطوات قصيرة، متأرجحة وغير متوازنة، لجأ إلى كرسيٍّ خشبيٍ وحيدٍ تظلّله شجرةٌ عملاقة، تكادُ المنطقةُ تخلو من المباني إلا من مبنى ضخمٍ تزيّن شرفاته أزهارٌ بألوانٍ متجانسةٍ جميلة، جلسَ الغريبُ بجانبِ الشيخِ، فسأله الأخير: 
ما المحطّةُ التي يصل إليها الباص المارِّ من هنا؟
ليتني أعرف يا عَم. 
مللتُ الانتظار، هل تنتظر معي؟ سأذهب إلى بيتي، هناك زوجتي وأولادي، أحفادي كُثر. وأين بيتكُ أنت؟
البيت يكون حيث القلب يكون…
انتظر “الغريب” مع الشيخ وقتاً يزيد عن ساعة، لم يمرَّ خلالها أيُّ باص، كما لم يكن هناك أي مُنتظرٍ آخر غيرهما. قَدِم شابٌ يلبس زيَّ عملٍ رسمياً وأمسك بذراع الشيخ بحنان وقاده إلى المبنى الوحيد الضخم الذي تزيّن شرفاته أزهارٌ بأوان متجانسة جميلة، لم يقاوم الشيخ، ذهب معه بهدوءِ مؤمنٍ، ودّع الغريبَ بتلويحةٍ من يده مع وصيّةٍ لا تحتمل الوفاء: “حين يأتي الباص مُرّ عليّ، سأكون هنا بانتظارك سنستقل الباص معاً. لا تنساني…”
كان الشيخ مصاباً بالزهايمر، وقد فرّ من الملجأ المخصّص لأمثاله. ومالم يكن يعلمه أيٌّ من الغريب أو الشيخ أن المقعد الخشبي المظلّل بشجرة عملاقة ليس إلا موقِفاً زائفاً لا يمرُّ به أي باص، وأن إدارة الملجأ أقامته حتى لا يتمكن أحد من نزلائه الهرب بعيداً….
كان الشيخ أول من يسأل الغريب عن الطريق، فقد اعتاد هو أن يسأل الناس. وفي كلِّ مرةٍ يسأل فيها أحداً إلى أين يقوده الطريق حتى تستعصي عليه لغةُ مجيبه وتضيع منه معاني الكلمات ولا يفهمُ شيئاً مما يقول، عندها لا يجد غير الابتسامة والصمت صديقين وفيّين في طريقه المجهول…
***
يستمرُّ الطريق؛ يَلتفُّ ويستقيم، وباستمراريته يشارك الغريبُ الآخرينَ حيواتهم وكثيراً ما تقاطعت مع حياته وهواياته. مثلاً يضعف روحه ويرقُّ أمام سحر الموسيقى، مرّةً لم تستطع قدماه مقاومة موسيقى تتسرب من نافذة أحد المنازل، لم يكن يستطيع فتح عينيه بينما يستمع إلى نبضِها وقوة عذوبتِها، شعر أنه مُكتفٍ بلحظاته تلك وأن لا غاية له في دنياه أكثر من استمرار انبعاث الصوت وتدفقه إلى نفسه وروحه وجسده. حدّث نفسه: “الموسيقى تشفي القلب من الضغائن والقبح، بالتأكيد لم يتذوّق أيٌ من مبيحي الدماءَ وسافكيه إلى مقطوعة موسيقية واحدة وإلا ما تجرّأ أحدهم على القتل…”
تحسّر أن الموسيقى لا تستطيع الإفصاح إلى ما يؤول إليه الطريق…
***
يؤمن الغريبُ بأن الطريق سينتهي يوماً ما وأنه سوف يصل، لم يكن يعرف إلى أين أو متى أو من يرشِده. كذلك لم يكن يَزجُّ نفسَه في حياة الآخرين وحكاياتهم، لكنها الصدفة كانت كفيلة بذلك. سأل مرّة فتاة إلى أين يقود الطريق، كانت تجلس وحيدة على رصيف أحد الشوارع، بدأت بالشرح، لكن الغريب –وكعادته- ما عاد يفهم شيئاً من لغتها وكلامها وشرحها، لمح دموعاً في عينيها، وأسهبت في الشرح. ما أن تجاوزت موضوع الطريق حتى عاد يفهم كلَّ كلامها، بقي صامتاً وهو يستمع لتفاصيل خيّبَتْ أحلامها:” الحُبُّ أكبر أكذوبة أوجدها الإنسان ليتغلب على أوجاع وحدته! يا خسارة، أحببتُه، ما كان يستحق كل ذاك الحب، آمنتُ به حبيباً أوحداً، صديقاً أوفى وأقرب لكنّه…” لم يتذكر شيئاً مما قالت بعد ذلك. تساءل كيف سيكون حديث “الحبيب” عنها، هل يتأسّف هو الآخر على “حبيبة” “ما كانت تستحق كل ذلك الحب وأنه أخطأ حين ظنّها الحبيبة والصديقة”؟! حدّث نفسه أن ليس من الضروري أن يكون أحدهما كاذباً أو سيئاً حتى يفترقا؛ يحدث أن ينطق كلاهما بالحقيقة دون زيادة أو نقصان، وفي هذه الحالة تلبس الحقيقة أكثر من وجه وبالتالي تكون منافقة..!
شعرَ براحة غامرة ومصالحة مع ذاته للنتيجة التي توصل إليها ((يمكن للحقيقة أن تكون منافقة)) ومضى في طريقه الطويل. 
***
مرَّ الغريبُ على ميدان كبير تتوسطه ساعة عملاقة معطّلة، تأمّلها بحنين غامض، كثيرة هي الأشياءُ التي يشعرُ بانجذاب نحوها: طائرة ورقية عالقة بين أسلاك أعمدة الكهرباء، طائرٌ محبوس في قفص معلّق في شرفة أحد المنازل أمامه الأفق كلّه وممنوع عنه، تمثالٌ رخاميٌّ لملك الغاب رابضٌ على عتبات بيتٍ كبير، صورةٌ لامرأةٍ جميلةٍ تعود لأربعين سنة ملقاة بإهمال في زاوية شارع، عجوز ملجأ كِبار السَّن… 
حدّث نفسه: “مثلي تماماً هذه الأشياء، أنتمي إليها وتنتمي إليّ…”
***
نكهة سوق يوم الجمعة تختلف عن باقي أيام الأسبوع، صخبٌ صحيٌّ يعشقه الغريب، يحمله على تأمّل وجوهَ الناسِ، ملابسَهم، ما يحملون من أكياس اشتروا ما فيها، كما تدهشه نداءات الباعة المرحة والمبتكرة كل يوم للتدليل على بضائعهم. 
تقدّم من عجوز يجلس عند إحدى البسطات الكثيرة، كان أمامه راديو قديم جداً، مكانُ صنعه وشكله يَشِيان بأنه كان ثروةً في زمانه، نقّدَ الشيخَ دنانير عشرة طلبها، حمله بهدوء، ومضى. 
أكله الندم على الرغم من معرفته المسبقة بأن الراديو لم يعد يعمل منذ سنوات. ” ليت الراديو ينطق ويخبرني ماذا كان يسمع الشيخ.. أغاني العشّاق؟ أخبار حروب أو انتصارات وهزائم وهمية لأشخاص مغرورين؟! كم ليلةٍ داهمه النعاس بينما الراديو في عزِّ نشاطه؟ لا أحقية لي في سرقة ماضي الشيخ وذاكرته، عليّ أن أعيده.”
وهذا كان قراره. وجد الشيخَ ما زال جالساً، كأن عودة الغريب بالراديو كانت يقيناً لكليهما:
الراديو يا عم، لا أستطيع حمله، ذاكرتك تُثْقِل عليّ طريقي…
تعرف طريقك يا ولدي؟!
دلّني يا عم، غريبٌ تائه، أكلَ الطريقُ قدمَيّ، وأوجعتني وحدتي.
انظر حولك، كل من سوق تائهٌ غريبٌ ضائع، وكلٌ يبحث عن طريقه. لن يدلّكَ أحدٌ.. لن يرشدك الطريقَ أحدٌ غيرك…
***
أكمل الغريب سيره مُردّداً تسبيحته الخاصة: “وحده الطريق باقٍ أزلي وأنا زائرٌ ماضٍ في فنائي الأكيد…”
___________
* قاصة من الاردن .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *