* د. لنا عبد الرحمن
في كتابها الذي وضعته عن عائلة أفغانية تعيش في كابول، حاولت الكاتبة النروجية آسني سييرستاد تدوين تفاصيل دقيقة عن واقع الحياة اليومية لأسرة من قلب المجتمع الأفغاني “بائع الكتب في كابول” ترجمة حليم نصر نص يمزج ما بين الرواية والتقرير الصحفي والسيرة. تحكي الكاتبة عن “سلطان خان”، بائع الكتب الذي حافظ على التراث الأدبي الأفغاني من الضياع في الصراعات السياسية المتعاقبة على بلاده. هكذا يبدو اختيار الكاتبة لعائلة خان متعمداً لسببين، الأول لأنها برفقة هذه العائلة تتجاوز حاجز اللغة لأن بعض أفرادها يتكلمون الإنجليزية،. ثانياً، اتكالها على سلطان خان في الحكي عن تاريخ أفغانستان، أي إن سلطان خان “الذي يحب بلده حتى الشغف” ليس رجلا عاديا، إنه معايش يومي، يراقب ويحكي حقيقة الحدث ” ففي بادئ الأمر، أقدم الشيوعيون على إحراق كتبي. ثم جاء المجاهدون بعد ذلك لتخريب المكتبة ونهبها. وأخيراً أكملت جماعة طالبان إحراق ما تبقى مرة جديدة”.
في هذا النص تسعى الكاتبة جاهدة أن تشمل حياة أفراد هذه الأسرة بعين ناقدة وحساسة، تغطي أدق التفاصيل،عبر الإمساك بالمعلومات التي لا يتم التطرق إليها كثيرا في الحديث الإعلامي عن أفغانستان، وفي خضم هذا السعي للكتابة كان عليها أن تتحرر من سيطرة أفكارها الغربية المتناقضة تماما عن واقع الأسرة الأفغاني الذي زجت نفسها به. تقول : “نادرا ما شعرت بأنني غاضبة مثلما كان حالي أثناء وجودي مع عائلة خان، فإنني نادراً ما تجادلت مع الآخرين إلى الحد الذي بلغته في منزلهم. ولم تنتابني رغبة في الاشتباك بالأيدي مع أي شخص كان مثلما كانت تنتابني هذه الرغبة أثناء وجودي معهم في بعض الأحيان. الأمر نفسه يستثيرني على الدوام : طريقة معاملة الرجال للنساء. التسليم بسيادة الذكور على الإناث كان أمراً مغروساً في أنفس الجميع”.
تحكي سيريستاد بأنها كتبت كل ما رأته وسمعته في مشاهد نابضة بالحياة سواء من عائلة سلطان أو في أفغانستان ككل، تصف كيف “قوبل سقوط طالبان بالترحاب، ولم يعد ثمة أحد يخشى من أن يلجأ البوليس الديني إلى مضايقته في الشارع”. وفي سردها لبعض الأحداث تبرر قدرتها على وصف الأحاسيس الداخلية للأشخاص بأنها استوحتها من استنتاجاتها الخاصة عبر ردود أفعالهم، وأيضا من الحكايا الشفوية التي يحكيها بعضهم عن بعض. لكن رغم ذلك يتمكن القارئ من الوقوف أمام ملاحظة سرد تفاصيل خاصة جدا لا يمكن أن تُحكى لها، بل لا يمكن سوى أن تكون قد أعملت مخيلتها في صياغتها وشبكها مع القصص بما يتوافق مع التوجه الدرامي للقصة، نجد هذا عندما تصف مثلا مشاهد بين سلطان وإحدى زوجتيه في غرفة النوم، أو حين تحكي عن مشهد حب سمعت عنه من أحد الأفراد.
تتمتع آسني سييرستاد بطريقة جذابة وسلسة في السرد تمزج ما بين الحكي والوصف وبين رؤيتها للطبيعة، لكنها ركزت بشدة على جانب وضع المرأة في المجتمع الأفغاني، عبر تكرار سرد الحكايات التي تتناول ما يحدث في أعقاب اخفاق قصة حب، أو في ذكرالتقاليد المتشددة التي ترافق الخطوبة أو الزواج.
لا يشعر قارئ ” بائع الكتب في كابول” بالملل، ربما لتمكن الكاتبة من ايصال أجواء الحياة الواقعية في وسط عائلة أفغانية بوصف دقيق يشبع فضول القارئ لاكتشاف ما يحدث خلف الأبواب المغلقة، وتحت رداء “البوركا”. يعيش الكثير من الأشخاص الذين تحكي عنهم الكاتبة سواء كانوا من عائلة “سلطان خان” أو من أقاربه أو جيرانه- الذكور – حلم الهجرة إلى أوروبا والفوز بحق اللجوء، فيبدو هذا الحلم كأنه السمة العامة التي تكاد أن تكون جزءا من منظومة سائدة ومألوفة ومقبولة اجتماعيا.
تملك الكاتبة أيضا حساسية في التقاط مفردات صغيرة تتعلق بالمكان، والطقس المرافق لتقديم وجبة الطعام، خاصة حين تصف وجود “سلطان” في الحدث، فهي قادرة على إدخال القارئ في أجواء ألف ليلة وليلة التي تسلط الضوء على سلطة الرجل ومدى هيمنته على النساء من زوجات واخوات وبنات. تحكي في أحد المشاهد عن دخول “سلطان” إلى البيت وكيف تُسرع ابنته ليلى في جلب الوعاء الفخاري ليغسل يديه فيه، ثم تناوله المنشفة، وتكون ” قطعة القماش المشمعة قد مُدت على الأرض حيث يمكن أن تقدم الوجبة” أما سلطان فإنه يقوم بتقبيل زوجته الثانية صونيا، فيما يكتفي بإلقاء التحية على زوجته الأولى شريفة.
إن اختيار الكاتبة لاسم سلطان لم يأت من فراغ، فهذا الاسم ليس الاسم الحقيقي لبائع الكتب، لكنها اختارته له لرؤيتها أنه الاسم المتناسب مع ايقاع حياته الذي عايشته وعرفته. ولا يمكن القول إن هذه الرؤية فيها شيئ من التحيز ضده، أو أنها لا توافق الواقع لأنها متطابقة أيضا مع أفكار الغرب عن أفغانستان، بل إن سرد آسني سييرستاد فيه ما يبرر تلك الرؤية، خاصة فيما يتعلق بوضع المرأة، فالزواج يتم بناء على رؤية والدة العريس للفتاة،ولا يمكن للعريس بأي حال أن يكون شاهد الفتاة إلا عندما تكون طفلة، وإذا حدث غير ذلك توصم الفتاة بأنها “فاجرة”، كما حدث مع “سليقة” التي تحكي الكاتبة عن ضربها وحبسها لأنها تحدثت مع شاب في الشارع. ترى الكاتبة أن توق النساء للحب في أفغانستان أمرا محظورا ، لأن الحب لا علاقة له بالرومانسية بل يجري تفسيره على أنه جريمة خطرة يكون عقابها الموت. وإذا كان ليس “في المظاهر الخارجية ما يدل على أي حياة جنسية في أفغانستان. ..وبالرغم من المجازفة بتجرع عقوبة الموت فإن الناس لهم عشاق وعشيقات، كما أن هناك مومسات في المدن، يلجأ إليهن الشبان الصغار والرجال”.
لكن بعيدا عن الحديث عن العادات والتقاليد وما فيها من تعسف ضد المرأة، هناك جزء مهم في سرد الكاتبة عن” سلطان”، إنها رغبته في إعادة طبع الكتب المدرسية الجديدة في أفغانستان، لأن الكتب التي قامت بطباعتها حكومة المجاهدين وطالبان لا نفع منها، فالكاتبة تحكي بتفصيل أكثر وضوحا نقلا عن سلطان قوله: “هذه هي الطريقة التي يبدأ فيها تعليم الأحرف الهجائية للأطفال ،في السنة الأولى كما يلي : الحرف “أ” يرمز إلى إسرائيل التي هي عدوتنا، الحرف “ج” يرمز إلى الجهاد غايتنا في هذه الحياة، والحرف “ك” يرمز إلى كلاشينكوف سبيلنا إلى الانتصار..”.
لكن الكاتبة لا تكتفي بذكر حقبة طالبان، إذ تتوقف أكثر من مرة لتذكر المرحلة الشيوعية، وكيف أن الكتب الدراسية لتلك المرحلة لا تنفع أيضا لأنها “تتعاطى مع توزيع الأراضي، ومع المثل المتعلقة بالمساواة، كما تتعلق بالرايات الحمراء والمزارعين السعداء في المزارع”.
أما “سلطان” فيمثل في هذه السيرة جانبا خاصا إلى حد ما، هو الرجل الذي يحلم بطبع الكتب التي كانت رائجة ايام” زاهر شاه ” الملك الذي استمر حكمه حوالي أربعين سنة سادها الهدوء والسلام، إلا أنه عُزل في العام 1973. ويرى سلطان بصفته أحد أكبر الناشرين في كابول أن من واجبه إعادة طبع الكتب الدراسية لتلك المرحلة. لذا قام سلطان بعقد اجتماعات مع مسؤولين من منظمة اليونيسكو ليعرض عليهم فكرته، غير أنه في النهاية يفشل في تحقيق هذا المشروع . لكن سلطان، رغم هذا المنحى الفكري، ورغم تمنيه أن تتولى حكم البلاد حكومة من التكنوقراط، “يقوم الأوربيون بتنصيبها” إلا أنه يقدس التقاليد الأفغانية تماما، ففي الفصل الأخير من الكتاب تذكر الكاتبة عبارة يقولها سلطان: “إذا كانت العائلات لا تتقيد بالقواعد، فكيف يمكننا تكوين مجتمع يحترم القواعد والقوانين، ولا يحترم فقط البنادق والصواريخ؟ إن هذا مجتمع فوضوي، فإذا لم تكن العائلات ستقودها سلطة، فإننا نستطيع أن نتوقع المزيد من الفوضى القادمة إلينا”.
تختم آسني سيريستاد سرد هذه السيرة بشكل متوافق مع البداية ومع مضمون النص، فهي لا تبتعد في التحليل بل تحكي حادثة حمل سونيا زوجة سلطان الثانية، التي تدعو الله أن يكون المولود ذكرا، وتعقب الكاتبة قائلة في آخر جملة في الكتاب : ” لكن إن كانت أنثى، ستحصل كارثة أخرى في عائلة سلطان خان”.
الجدير ذكره أن الكاتبة آسيني سيريستاد، صدر لها بالعربية أيضاً كتاب “ملاك غروزني”، ومن المعروف عن هذه الكاتبة حبها للمغامرة والجرأة في تغطية أحداث الحروب من كوسوفو الى غروزني، وكان عرفها متابعو القنوات التلفزيونية النروجية من خلال تقاريرها اليومية التي كانت تبعثها عن يوميات الحرب على بغداد مع دخول القوات الاميركية عام 2003.
أما بائع الكتب الذي استوحت من حياته هذا النص فقد التقت به بعد سقوط نظام “طالبان”، حيث كانت ترافق لمدة ستة اسابيع قوات تحالف الشمال في الصحراء المحاذية لطاجيكستان لتصل معهم الى كابول في تشرين الثاني 2001.لكن ما يسترعي الإهتمام أيضاً بالنسبة لهذا الكتاب هو تحوله إلى قضية تدور بين أروقة المحاكم، إذ بعد صدوره جاء الى النروج بائع الكتب باسمه الحقيقي” شاه محمد رايس” ليرفع دعوى ضد الكاتبة، وكانت حجته في الدعوة أن الكاتبة التي استضافها في بيته مدة خمسة أشهر، لم تكن أمينة في الإحتفاظ ببعض أسرار العائلة التي عرضته إلى نقمة المجتمع الأفغاني.
__________
* وكالة الصحافة العربية