*محمود قرني
لم تكن تجربة الشاعر جمال القصاص مجرد عبور سلس في خضم الشعرية السبعينية ذات التقلبات الممضة واللجاجة المفرطة، بل كانت وستظل ميثاقا رسوليا يحتفي ببساطته وهشاشته الروحية كنموذج دال على رومانسية نضجت تحت وطأة مقولات الحداثة الغليظة، التي جرفت الكثير من تلك التجارب إلى مهاوي الردى، وربما الخروج من المدونة الشعرية كلية.
ترسخ لديّ، بشكل شخصي، هذا اليقين عندما قرأت التجربة الأولى للقصاص في ديوانه ‘خصام الوردة’، كان ذلك يترافق مع صدورعدد من الدواوين المبكرة لشعراء جيل السبعينيات، أذكر منها ديوان ‘لا تفارق اسمي’ للشاعر احمد طة و’وشم على نهدي فتاة ‘ للشاعر حسن طلب، و’الأبيض المتوسط’ للراحل حلمي سالم ‘وسليمان الملك’ لمحمد سليمان ‘والغزالة تقفز في النار’ لمحمد فريد أبو سعدة. غير أن العديد من التحولات التي جاء بعضها قاسيا ومفارقا غير الكثير من مسارات التجربة، وكانت الاستجابة لنقل الكثير من المقولات النظرية إلى أرض الشعر عملا ليس موفقا دائما فأثمر الكثير من الشوك الذي عكر صفو الكثير من هذه الشعريات، غير أن تجربة جمال القصاص التي احتفظت بالكثير من نقائها ظلت في الوقت نفسه محافظة على الكثير من شعريتها، لأنها حافظت على مسافة آمنة بينها وبين المقول النظري، وربما يفسر ذلك أن القصاص واحد من الذين آثروا العمل بعيدا عن الضجيج وصراعات الوجود، وهو الموقف الذي يرى القصاص أنه كان أفضل ما فعله احتراما لتجربته، ربما هذا ما يفسر وجود القصاص، معظم الوقت، خارج الطحن السادر بلا محصلة، بين أبناء جيله ممن قدموا أنفسهم باعتبارهم راية الشعرية السبعينية رغم أنه واحد من مؤسسي جماعة إضاءة.
أتوقف تحديدا عند ديوان القصاص الأخير ‘نساء الشرفات’ كحصاد يأتي في لحظة شديدة النضوج تشير إليها استبطانات الشعر وزخم التجربة، ما دفعني لطرح عشرات الأسئلة حول شعرية هذا الديوان الذي تعددت نساؤه واختلفت أوجاعه، وكما يشير القصاص في ديوانه، كحلم بالأبدية، عندما يسترد روح المتسائل: هل حقا ‘لكل أجل كتاب ولكل كتاب شرفة’؟. بالنسبة لي كان الأمر اكتشافا. هاتيك الجميلات اللائي ينمن في شرفات جمال القصاص، ‘يلقطن الأرز، يعشقن، يمارسن الحب، الانتظار، الوحدة، الفجيعة، التذكر، الألم. يصاحبن الوسواس القهري، ينتظرن حارس القبور، يربطن المهر الجامح في رجل سحابة، يداعبن نقار الخشب، يجربن رجالا غير معدودين’.
لقد أضاء ديوان القصاص الجديد ‘نساء الشرفات’ الصادر عن دار العين مساحة لا مرئية في مخيلتنا، التي يبدو أنها تضمحل يوما بعد يوم. فالشرفة ليست شرفة، بل أمست فسحة من مجاز الرؤية ومساحة تتسع حدقتها كأنما تحتوي الكون. فالشرفة، على ضيقها الجغرافي، اكتشفت تاريخها السرمدي في القصيدة، وفتحت بابا لانهائيا على التمرد والسكون، على البراءة والخطأ، على الانفصال والاتصال، على الجسد وعلى الفراغ. إنها ثنائية الكون التي يحاول الشاعر اجتراحها وإعادة اكتشافها.
الأمر نفسه ينطبق على تلك التطوحات، كثيفة الشعرية، في عالم نساء تلك الشرفات.
ربما هذا ما حفزني لتكديس عشرات الأسئلة وإلقائها، مرة واحدة، في سلة القصاص، فقد شغلتني فكرة الشرفة، أقصد شرفة الشعر، وشرفة العالم. تلك الأسئلة التي كانت ناتجا وفيرا لحوار مطول نشرته جريدة ‘القدس العربي’ قبل وقت ليس طويلا.
فنحن أمام شرفة تتعد تجلياتها، وسط تطوحات اللغة الشعرية الشفافة والمجازية في آن، فكيف جمع الشاعر عالمه المركب بكثافته في مواجهة العالم المنفرط براهنيته.
وما الذي تعنيه صورة الجسد الذي يتراوح بين التعيين والغياب، بين اللمس كسلطة واللغة كسلطة مقابلة. وكذلك كيف تبدى البعد المعرفي الذي تجسده شخصيتا شارلي شابلن ودالي في ثنايا تلك الشعرية.
لنبدأ السؤال من ثنايا النص نفسه. هذا السؤال الذي يتمحور حوله المحتوى المعرفي والإشراقي للديوان ‘..هل حقا لكل أجل كتاب ولكل كتاب شرفة؟’ فالقصيدة في هذا الفضاء تتحول إلى شرفة، وهي بطبيعتها شرفة متعددة، وسط تطوحات اللغة الشعرية الشفافة والمجازية في عالم مركب يحتفي بكثافته، مقابل راهنية شبه منفرطة لا تعمل على تقديس شيء.
لقد كان تعدد الشرفات يعكس كثافة من نوع آخر، ربما هي كثافة المجاز، كثافة اللغة، المشهد، والميتافيزيقا، يتبدى ذلك في الصورة المتعددة للجسد الذي يتراوح بين التعيين والغياب، بين اللمس كسلطة واللغة كسلطة مقابلة، وقد كانت تلك القناعات وراء صعود البعد المعرفي الذي تجسده شخصيتا شارلي شابلن ودالي في الديوان، الأمر الذي يبدو موجها لرؤية نوعية، وهي شعرية لا يدل عليها هذا الديوان فحسب، بل تدل عليها عدة دواوين في تجربة القصاص.
وكما لو أنه خيط من البياض الشفيف يربط ـ بسحرية غامضة ـ قصائد ‘نساء الشرفات’ بعضها ببعض، يتبدى كأنه سحر مخصوص مصدره اللغة أو الصورة الشعرية أو مفارقة الهاجس الإنساني الذي تكلله الأنثى بحضورها العبق والطاغي مهما تعددت صورها أو كل هذا معا.
غير أن أول ما يلفت الانتباه هو هذا النزوع إلى تحويل طاقة القصيدة إلى وردة تذبح، وتحويل اللغة النابية إلى صورة ناعمة وحارقة في آن. الشعر هنا يمتح من بوتقة تصهر التجربة الإنسانية في مصارعها، وتعيد الى الفرد ملامحه التي شاهت وضاعت وسط خطاب المجموع، وهو الأمر الذي يحيل الشاعر الى واحد من البسطاء الذين لا ينعون اندثار الحضارات ثم يسعون أو يزعمون السعي الى إعادتها على أكتافهم. فهموم الشاعر تبدو أكثر نعومة وأقل افتعالا.
وربما كان هذا التوسط الذي بدت عليه شعرية جمال القصاص هو نفسه السبب الذي احتفظ لها بالمزيد من نقائها، متساوقا ذلك مع متغيرات هائلة عن المستوى الانساني في داخل الشعرية العربية والشعرية العالمية ايضا، وهي متغيرات زحزحت مقولات شديدة الثبات، ومدارس شعرية تليدة ارتبطت جماليا بانشائية امبراطورية وفيكتورية خاصة، وارتبطت ايديولوجيا بالافكار الكبرى حول سرديات ما بعد التاريخ وما بعد الحداثة.
إن التشظي الحادث فيما تقترفه ما بعد الحداثة ينقل الكليات المشمولة بعطف الآلهة الى منطقة الجزئيات غير المعتبرة في منطقة التأثير الانساني الخالص والضيق الذي يمكنه في نفس الوقت أن يسع العالم بأسره وهي قناعة قديمة لجمال القصاص، وفي نفس الوقت استطاعت هذه القناعة أن تقيس عمرها بالآن فقط، فهي ليست ماضوية بشكل ما، ولا يعني هذا انكارها الجذور، بل هي ترى الماضي في سياق مشاغلها فحسب، وبمعنى أدق هي لا تراه قيدا عليها وإن امتهنته بمحنة التجاوز، فهي لا تمتهنه بمحنة السب ولا تهمة القذف. وهذا لا يعني ـ في الواقع ـ موقفا مع أو ضد ما بعد الحداثة قدر عنايتها بأن يكون تعبير الشعرية أكثر سطوعا وقوة من المقول النظري، ربما لذلك كان القصاص مصرا على أن يرى العالم بعينيه لا بعيني النظرية وهذه هي اللحظات المختلسة التي تصنع المفارقة الشعرية، بل هي التي تصنع الشعر نفسه، بعيدا عن تقييمنا له في أسار افكارنا عن ماضي الشعر، الذي لم يعد ويجب الا يكون قيدا على المستقبل.
وجمال القصاص يقول في سيرة نسائه ما لم يقله كل هذا التقديم الذي يبدو غليظا بعض الشيء، وهو لا يفتأ أن يشير بأصبع الاتهام الى ماضيه، الذي تاهت فيه معالم الجميلات بعد أن توزع بين الثورة والمدافع والمقولات والأنظمة.
إن المحنة الكبرى التي تعرضت لها المفاهيم الثورية والتغيرات المتعسفة التي فرضتها الاستعراضية الامبراطورية ـ حسب الراحل ادوارد سعيد ـ لم تكن أقل خطورة مما حدث من تراجعات وخيانات على أرض الواقع، غير أن وعي القصاص بكل هذه الارتباكات عصمه، في رأيي من زلات لانهائية.
وما أشرت إليه في هذه العجالة حول الجماليات التي يحاول ديوان القصاص الجديد ‘ نساء الشرفات ‘ تمهيد الطريق اليها، لا يعني ـ بشكل ما ـ أن هذه الجماليات منفصلة عن تراثها انفصالا سيمتريا بالمعنى المجاني للقطائعية ولا يعني أيضا أن هذا التطور يتم بمعزل عن حدس الشعرية العربية في مجملها، لا سيما لدى جيل الوسط أو ما يطلق عليه بجيل السبعينات، وربما كان الشاعر هنا يعد واحدا من هؤلاء الذين يحتفظون بالكثير من تقاليد الشعرية العربية الريادية التي أنجزت أهم مفاصل الشعرية العربية الحديثة لدى السياب ودرويش وأدونيس ومطر وعبد الصبور وآخرين. فهو، وإن حقق نقلة نوعية في حقول القصيدة النثرية، لا زالت تميزه غنائية منضبطة هي جزء أساس ورئيسي في تشكيل شعريته
يتأكد ذلك من السطور الأولى لنساء الشرفات حيث يقول:
‘ أنا آنست نارا، منذ زمن انطفأ عريها..
شيخ اغتالته محبته، أفسدته حصاة، علمها كيف تطير،
كيف تحتطب الحروف..
من أي جدار مهمل سوف تهبطن، من أي بؤس ستسرقن
الحكاية.. لا أعرف كيف أحرسكن، كيف أتخيلكن..
قلبي لم يعد طفلا، وجسدي لم يعد يوقظني.. ‘ ص 11
لكن غنائية القصاص هنا لم تدفعه للهرولة خلف بلاغة تخيم بسكونيتها على حركية النص، وتبدو استجابة الشاعر لراهنية وطزاجة أمنياته أكثر حضورا من استجابته لمواصفات تبدو قارة ومستتبة، وسنعثرعلى عشرات الكائنات المتعينة التي تسعى لتأكيد حضورها عبر بوابة الحبيبات الغريبات اللائي ينعمن بآلام تتعد وتتنوع بين الحضور والغياب.. يقول الشاعر:
‘الفاكهاني العجوز
بالكاد.. علمها محبة الطقس
وكيف تغلق الباب جيدا
تحتار في القمر الذي سقط فوق حلة الأرز
القمر الذي فكك أصابع الألمونيتال
في الليل..’ ص 30
اما قصيدة ‘حصة الجسد’ التي تملك علاقة نثرية خاصة بسردية القصاص الفريدة، فهي على علاقة قربى بسابقتها، ليس لأنهما يتحللان من الغنائية المفرطة فحسب، بل لأنهما معا ينعيان الحب المكلوم في كل مكان، فالحب الضائع في القصيدة الأولى ‘غبار النوم’ في لحظة نصلية ؛ تتبدى أكثر ألما في الثانية لأنها تكرس للحظات أكثر تعاسة وأكثر كابوسية.. حيث يبدأ الشاعر من الشتاء الثقيل الذي يشي بتجمد المشاعر وربما تبددها:
‘الشتاء ثقيل
الأسرّة تمزق جدولها الصيفي
حصص الجسد بلا موعد
لا تنتهي الشرفات
أياد وأرجل وسيقان
صوصوة ترتق مريلة السماء..’
هكذا تبدو مفردة ‘لا تنتهي الشرفات’ في لا النافية عندما يتحدث الشاعر عن كينونتها الضاجة بالحركة والحياة بالتالي وكأنها بداية بعث دائم، وهو بعث يرتبط وجودا وعدما بالحضور الأخاذ للمرأة أو سيدات شرفاته. وتكاد أيضا لا تخبو نار المكان الموّار ولا حضوره لدى القصاص، فالشرفة التي تحمل ملامح لا تختلط مع غيرها من حيث كونها شرفة متعددة : فهي شرفة الحظ، شرفة مقدسة أو شرفة آلهة لم تكشف عن كل سحرها في جملة واحدة.. يقول الشاعر :
‘أنا شرفة الملكوت
حياتي معطلة في السوبر ماركت
يومي.. لا أعرف كيف يبدأ
أو كيف ينتهي
ماكينة العملة لا توقر الفقراء..’ ص 36
هذا التطهر الذي يشير إليه الشاعر في نهاية المفارقة، حيث حياة الملائكة معطلة في العبث وأن ماكينة العملة هي الأخرى تستبعد الفقراء من كونها طاقة من طاقات الحظ فتتحول إلى طاقة من طاقات التعبير الأيديولوجي الذي يميزه بعده الإنساني متحققا في شعرية طافرة، ربما هذا ما يدفع الشاعر للتوقف أمام الشهوات المدببة للعابرين، الذين يمثلون أيضا صورة من صور التطهر، حيث يتشكل الحب رويدا رويدا عبر تكوينات إنسانية شديدة التعقيد، وربما كانت الشرفة / الشرفات هي الفضاء الأوسع الذي تطل منه هذه الاندفاعات الشعورية، يتحقق ذلك عبر المونولوج الداخلي الذي يتعامل بحذر شديد مع غنائية فائضة ومنضبطة في آن.. يقول الشاعر في قصيدته المتميزة ‘شارلي شابلن’ :
‘بحكم العشرة وأواصر الدم
اكتسبت لقب الأرملة الحسناء
يكفيها رجل واحد
علقت في حضنه جرسها الصغير
أطفأت شمعها كله
شرفتها المربعة تتفنن في فصاحة الألوان
نيئة مثل حبة الكرز
مثل طلة الشمعدان..’ ص 73
هكذا يبدو مصير بطلات الشاعر، اللائي يأخذن قدره وحجمه ورؤيته للعالم. إن معنى الحب الذي تضاءل في لغة الشاعر حتى اختفى تماما، يحفر بئرا حول غرام من نوع خاص لبطلاته، حيث يصنعن العشاء مع عشاقهن.. ينمن ويسهرن ويصلين، ويضاجعن ثم يتطهرن ويسرن في الجنازات لكنهن ايضا يهاجرن ويهجرن، ويحملن الكثير من تراب غربتهن بل وأجوائه المكللة بالرحيل، وربما كان هذا المعنى الذي يتبلور في لغة بسيطة وهشة، يتمثل ذلك اشد التمثيل في أكثر من شرفة وأكثر من قصيدة.. ولنتابع ذلك في قصيدة ‘رغبة أدفأ’.. يقول الشاعر :
‘ماذا يفعل حارس القبور
تحت معطف الشرفات
اعتاد مصادقة الموتى
يزرع الصبار فوق عظامهم
وينتظر أن تنبت المشاعل في خطى التراب..’
والرحيل الذي يتحدث عنه الشاعر في هذه القصيدة لا يمثل فقط فداحة الخروج من العالم، ولكنه يتمثل في الخروج من الروح ابتداء، والخروج من ممالك يحكمها الحب فحسب.
إذن هو التحصن بالمجاز، أو التحصن بالميتافيزيقا، التحصن بالرهبة، التحصن بالانشاء، وبالوعود، وبالفقراء، بامتهان الساسة والسياسة، والمجانية، تحصن لغة كاملة بالمجاز.
إن اجتراح الحب هنا ليس له صفة الإيلام فحسب، بل صفات تجل وتعلو حتى تتساوق مع جرح الميتافيزيقيات، جرح الذوات المتوازية التي تشكل انساقا في الكون وتقع صرعى مجازات الحب في نهاية المطاف.
إن شعرية ‘جمال القصاص’ في ديوانه ‘نساء الشرفات’ لا تفتأ أن تأخذ مكانها اللائق بين شعرية أنداده وأقرانه حتى تكشف عن تمايزات ربما كانت من الندرة بحيث تجعلها معدودة ومفردة. فثمة اعتقاد سائد بين أوساط الشعراء العرب ـ لا سيما الشباب ـ بأن شعرية معتمدة على هشاشة الرومانسية لا يمكن لها أن تمتلك أفقا يحلم بالمستقبل، لأنها لا محالة واقعة في أسر شعرية راسخة وتليدة أتت على قوس الأسلاف. وهو قول فيه الكثير من المجانية ويخلط بين واقع الشعرية والحلم بتطويرها، وهي مسافة جد شاسعة.
وإن كنت احتفظ لنفسي بحق الاستئثار بحب شعرية القصاص في تحللها من هذه الإنشائية المفرطة التي أساءت لتجارب كثيرين من مجايليه، فإنني أتصور أنها ـ في هذه الهيئة ـ أن هذه الشعرية تستمد طاقاتها التعبيرية من فضاءات أكثر تحررا وجدة، لأنها لم تقع أسيرة المقول النظري الفضفاض والمغوي كطريق إلى التهلكة.
ربما، وتحت هذا السمت، تبدو لغة القصاص اكثر نزوعا وانتماء للشعرية الجديدة، بل هي في القلب منها. فهي ليست محتقنة بتاريخية ومعرفية إلا في حدود الإحالات النصية العابرة أو المستمرة والمتكررة، وهو الأمر الذي يبرر قيام الشعرية على مجاز من نوع خاص يتخلى عن الانشائية، وينحاز بشكل أعمق وأكبر إلى السرود والكائنات الحية التي تشكل النص وملامحه الخاصة والمميزة. ومن هنا تبدو حركة النص وعدم ثباته، فهو يأتي كلوحات تعبيرية خاصة متتابعة وشخوص يلعبون أدوارهم على عجل وهم ماضون بسرعة بالغة، لذلك فإن الشاعر هنا يؤشر فقط ولا يتوقف أمام الإنشاء.
وأظن أن مأزق الإنشائية لم يكن يوما أحد اشكاليات شعرية جمال القصاص، وإن مثّل مأزقا للشعريات المماثلة لدى جيل الوسط في الوطن العربي. وهو جيل نالت منه تلك الانشائية الشيء الكثير لا سيما بعد ارتباطها بالأجواء التراثية للصوفية، وانفتاح قوس جديد للغة حال التصاقها بالذات الى حد التماهي، وخروج المتلقي تماما من الدائرة التي تربط الشاعر بلغته او قل الشعر بذاته. ان هذا النفي والقطيعة والتقوقع خلقوا جميعا مأزقا في قلب الشعر ولدى قارئه، وهو مأزق لا زالت أصداؤه مستمرة حتى اليوم، غير أن شاعرنا نجا بفطرة الشاعر الحق من دائرة مهلكة، احتفظت لشعره بالكثير من العذوبة والطزاجة والراهنية.
_____________
* شاعر وأديب من مصر (القدس العربي)