حاوره : نضال القاسم
يعتبر الشاعر والناقد والروائي العربي عبد الله رضوان واحداً من أبرز الاصوات الشعرية والنقدية في الساحتين الأردنية والعربية، والمتأمل، اليوم، في المنجز الشعري لعبد الله رضوان، يدرك أن هناك خطاً تصاعدياً ترسمه دواوينه المختلفة، ويلاحظ بشكل ملموس التطور المطرد من ديوان لآخر.
ففي عام 1977 وعن نادي خريجي الجامعة الأردنية نشر عبد الله رضوان ديوانه الشعري الأول ‘خطوط على لافتة الوطن’ ثم أتبعه بديوان ثانٍ عام 1979 عن النادي نفسه بعنوان ‘أما أنا فلا أخلع الوطن’، وأما ديوانه الشعري الثالث ‘قصائد أردنية’ فقد صدر في عام 1981 عن اتحاد الكتاب اليمنيين في عدن، وعن دار ابن خلدون في بيروت صدر له في عام 1982 ديوان ‘الخروج من سلاسل مؤاب’، وأما في عام 1983 فقد حصل على جائزة النقد الأدبي لرابطة الكتاب الأردنيين، أما ديوان ‘أرى فرحاً في المدينة يسعى’ فقد صدر عن المنشأة العامة للإعلان في طرابلس ـ ليبيا في عام 1984، وفي عام 1995 صدر له في عمان ديوان (يجيئون.. يمضون، وتظل الحياة) الذي حصل على جائزة الشاعر عبد الرحيم عمر لأفضل ديوان شعر عربي في العام 1995، التي تمنحها رابطة الكتاب الأردنيين. وأما ديوان ‘كتاب السيدة’ فقد صدر في بيروت عام 1999، وفي عام 2000 صدرت مجموعته الشعرية ‘عروس الشمال’، ومن ثم صدر له في عام 2001 ديوان ‘شهقة الطين’، وعن دار الكندي صدر له في العام 2001 مجموعة ضمت أعماله الشعرية منذ عام 1977 وحتى عام 2001 وكانت بعنوان ‘شهقة من غبار’، وفي عام 2001 أيضاً صدر له ‘كتاب الرماد’، وفي عام 2002 صدر له ديوان ‘مقام حبيبي’ ثم أتبعه في عام 2003 بديوان ‘مقام المليحة’، وصدر له في عام 2004 ديوان ‘مقام عمان’، وفي عام 2006 أصدر ديوان ‘ذئب الخطيئة’ وحصل في هذا العام أيضاً على وسام الاستحقاق الفرنسي برتبة فارس، وفي عام 2007 أصدر ‘مقام الرضوان’ وهي أول ثلاثية شعرية تصدر بهذا الشكل في الأردن، وقد ضمت الثلاثية ديوان ‘مقام حبيبي’ وديوان ‘مقام المليحة’
و’مقام عمان’، أما ديوان ‘مراثي البهلول’ فقد صدر في العام 2007 عن دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، وفي العام 2008 صدرت له ثلاثية ‘غراب أزرق’ التي احتوت على ثلاث مجاميع شعرية هي ‘مراثي البهلول’ و’ذئب الخطيئة’ و’أبواب ميري’ التي واصل فيها الشاعر اشتغاله على قصائده بفنية عالية، وقد استطاعت هذه الثلاثية، من وجهة نظري، أن تعبِّر بقوة عن رغبة الشاعر بأن يظلَّ صوتا شعريا نافرا متميزا عن أصوات مجايليه والسابقين عليه معا، على مستوى اللغة والصورة والبناء الفني جميعا، متخطياً في مشروعه الشعري الجديد ما قدمه عبر مسيرته الشعرية الطويلة. واليوم، وبمناسبة صدور ديوانه الجديد ‘كتاب المراثي’ عن دار البيروني للنشر والتوزيع في العاصمة عمان كان لنا معه هذا الحوار.
* البدايات الأولى.. كيف كانت؟
– يعيدني هذا السؤال الى الطفولة وبداية الوعي بعالم القراءة، كنت في المرحلة الابتدائية في مدرسة الوكالة في مخيم الكرامة، وقد وضعوا لنا في المنهاج حصة مكتبة، أحيلت الى مدرّس اللغة العربية، حدث ذلك في الصف السادس الابتدائي وعمري 11 سنه، فقد سمحت لي واسطتي المبكرة – أحد عمال الوكالة- من تسجيلي في الصف الأول قبل عام من استحقاقي، إذ انني استطعت بمساعدة قريبي أن أوصل يدي اليمنى الى حافة أذني اليسرى قبل عام من الموعد، بالمناسبة لا يمكن لمن عمره أقل من ست سنوات ومن دون أن يحني رأسه أن تصل يده اليمنى ملفوفة فوق رأسه الى طرف أذنه اليسرى، فقط يمكنه ذلك إذا أكمل السادسة بالتمام والكمال.
حصة المكتبة الممنهجة كانت تجربة جديدة لنا نحن الأطفال ولمعلم اللغة الذي تعامل مع الموضوع بجدية عالية، يأخذنا الى المكتبة، يوزّع علينا كتبا، لكل طالب كتاب، ويفتح هو كتابا ويطلب منّا جميعا مطالعة الكتاب، وحين نسمع الجرس نترك ما بأيدينا على الطاولات، ولأنني طالب جاد فقد طلب مني المعلم لمّ الكتب عن الطاولات وإعادتها الى الخزانة، وعندما لاحظ فرحي بدأ يسمح لي باستعارة الكتب، وأظنني خلال ذلك العام قرأت ما يزيد عن خمسين كتابا، طبعاً قراءة غير ممنهجة، لكنني اكتشفت متعة لا تعوض.. لقد أسس لي مدرس اللغة العربية الاستاذ جميل عطا في منتصف ستينيات القرن العشرين مشروع طريق لي…لقد ورّطني سامحه الله، وسمح لموهبة لم تكن معروفة أن تتشكل.
توالت القراءة بعد ذلك وبرز أثرها في مادة اللغة العربية.. ترتيبي فيها الثاني أو الثالث على الصف دائما لأنني لم أفهم مادة النحو أبدا… ثم عرفنا تجربة استئجار الكتاب وبثمن لا يتجاوز قرشا وفي الغالب نصف قرش ولمدة اسبوع… قرأت روايات من مختلف المستويات، عربية تقليدية وترجمات بتصرف وقصص لوبين حتى عام 1966، طلبني معلم اللغة العربية الاستاذ محمد أبو سماحة، كنت في مدرسة الشونة الجنوبية الحكومية، وكان أبو سماحة يأتينا بالباص من مخيم نابلس يوميا، يحضر صباحا في أول رحلة ويعود مساء في آخر رحلة. خرجت بناء على طلب المعلم الى الطاولة أمام الصف، نظرت فإذا دفتر الإنشاء الخاص بي أمامه وعليه خطوط حمراء موجودة أسفل عدد من الأسطر بخط يدي، قال: ما هذا؟ وأشار الى الأسطر الموشحة بالأحمر. ارتبكت وفرّت قطرات عرق على جبيني ..قال: هل هذا منك …أنت من كتبت هذا؟.. تلعثمت قائلا نعم. قال اقرأ اشوف؟ فقرأت ما هو مكتوب حرفيا. قال: هل تعرف ما هذا ؟ فارتبكت مرة أخرى وتزايدت قطرات العرق على جبيني… قال: هذا اسمه شعر يا فالح .. وأرجو أن يكون لك…قلت: أقسم انه لي.. ابتسم.. ونظر طويلا في وجهي ووضع علامة أفرحتني كثيرا…لكنني لم أعوّل على ذلك الى ان دخلت الجامعة الأردنية مبعوثا على حساب وزارة التربية.. وبعد ثلاثة أشهر من بداية العام وجدتني أكتب قصيدة غزلية في حدود عشرة أبيات، أتغزل فيها بزميلة حسناء سلطية.. ليس هذا فقط بل وكتبتها على لوح غرفة المحاضرات حتى تقرأها حسنائي.. أذكر منها هذا البيت:
‘وشارع العشاق كم سرنا به ويداي لاهيتان فوق حماك’
وكانت النتيجة ‘بهدلة’ محترمة من دكتور المادة، وإجباري على مسح ما كتبت على اللوح، وقطيعة لم أفلح يوماً بتجاوزها مع الحسناء السلطية، لكنني عُرِفت يومها بانني شاعرٌ وبدأ الصديق محمد ناجي عمايرة (وهو أكثرنا نُضجاً ومعرفة بأصول اللغة والشعر) بتصحيح أخطائي اللغوية والعروضية.
لم يكن الشعر لجيلنا في الجامعة الأردنية – بعد هزيمة حزيران- قضية مركزية، لكن أصواتاً برزت منذ 1968، خاصة صوت الصديق الشاعر محمد سمحان، الذي كان متفوقاً علينا جميعاً في القصيدة الجديدة، قصيدة التفعيلة، ثم برز صوت الدكتور وليد سيف والشاعرة رجوه عساف، لكن ضجيج وحضور حركة المقاومة الفلسطينية بعد 1967، وتعدد فصائلها المسلحة ذات الأذرع السياسية المتعددة، وبأيديولوجيات متعددة أيضاً، مع توفر حرية الحركة وحرية التعبير التي فرضتهما حركة المقاومة الفلسطينية في الشارع الطلابي خاصة، وفي الشارع الأردني عامة، كان له الأولوية، لقد أصبحت فلسطين عام 1968 على بعد خطوة، وعلى مرمى وردة، لكن الفرحة لم تكد تكتمل، وذلك بحضور (أيلول الأسود) سريعاً وانتصار الجيش وخروج المقاومة وتراجع العمل السياسي الى السريّة، وسيادة الأحكام العرفية إجرائياً، كل ذلك عمل على إعادة ترتيب الاهتمامات، فأصبح الثانوي رئيسياً، وتراجع الرئيسي ‘ممثلا بالعمل السياسي الثوري’ الى الخلف، عندها تقدم، بالنسبة لي، الاهتمام بقصد إثبات الذات، والبحث عن الحضور، الى الأدب، خاصة الشعر، وما أن نما الوعي قليلا، بحيث تمكنت من إيجاد تراكم كمي لعدد من القصائد حتى بدأت أفكر بديواني الأول، الذي لم يستطع أن يرى النور إلاّ عام 1977، ومن خلال دعم نادي خريجي الجامعة الأردنية عبر لجنته الثقافية، فكان ديواني الأول: ‘خطوط على لافتة الوطن’.
*وماذا عن المؤثرات التي شكلت وعيك، وأسهمت في تكوين تجربتك الإبداعية؟
ـ تعددت هذه المؤثرات، لكنها لم تكن موجهة أو مخططا لها، لكن المؤثر الأول كان المخيم، فقد نشأت في أسوأ بل ‘أسفل’ مكان على الأرض يمكن للأنسان أن ينشأ فيه، إنه المخيم، رمز النفي والإحباط والاضطهاد الإنساني الشامل، فالمهم فيه أن تكون فقط، وأن تحافظ على وجودك البيولوجي، زمن المخيم هو الزمن الذي سمّاه المبدع الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني
بــ’زمن الاشتباك’، فالمهم ان تحافظ على حياتك الفردية، أما كيف؟ وفي أية شروط؟ وبأية معايير؟ فهذا كلّه ترف غير مطروح، المهم أن تستمر، أن تكون. المخيم مكان لا إنساني يدمّر إنسانية الإنسان، ويخلق لديه تشوهات ظاهرية وعميقة، يستطيع الوعي لاحقاً أن يعالج جزءاً منها، لكن إصابات داخلية تحدث في الروح تظل مصاحبة لابن المخيم طيلة حياته، حتّى لو حصّل أعلى الدرجات، وجمّع الأموال..لا فائدة، ستظل نقطة سوداء تشكلها ظروف المخيم قابعة في عمق الروح، باختصار كل من عاش في مخيمات المنفى يفتقد السويّة الإنسانية العادية، لكنه مقابل ذلك يحصّن نفسه وروحه بقوة فلكية لا يقدر أن يمسّها في جوهرها العميق أحد، لا سجّان ولا ظروف قهر، ولا حتى فقر الأرض كلها.. المخيم يولّد شخصية متمردة ثائرة ترفض الخنوع وتتناقض مع الثبات والاستقرار.. كل من عاش أو يعيش في مخيم خارج وطنه هو مشروع ثوري دائم، هو ثائر بالضرورة ومتمرد بالبديهة. وهو منحاز الى الحياة بشبق وشهوانية عالية لا تشبع، ابن المخيم هو ذئب الحياة الجامح والجريح معاً.
المؤثر الثاني هو امتداد للمؤثر الأول، وهو مؤثر سياسي بامتياز، ببساطة وصدق أقول: إن السياسة بالنسبة للفلسطيني وأينما يكون، ومهما كانت جنسيته، أو حالة جواز سفره، أو وثيقته، تظل هي المحرك والمؤثر الأول بل والأكثر حضوراً وفاعلية في مجمل بناء الشخصية، وعلى رأسها الموهبة الإبداعية إن وجدت. ومن بين الفلسطينيين جميعاً يتقدم أهل المخيمات ليكونوا دائما أداة التمرد والثورة، هذه قاعدة تأسيسية لسلوك الفلسطيني في المنافي عامة.
بالنسبة لي تفتح وعيي السياسي مبكراً، فقد وجدت نفسي مع ثلاثة من أصدقائي المقرّبين أعضاء في تنظيم ‘الضباط الأحرار’ الذي كان مركزه في نابلس منذ أواسط ستينيات القرن العشرين، لأن أحد أفراد الشلة كان له قريب نابلسي قام بزيارته خلال عطلة المدرسة ‘فنظّمه’ في الجناح السياسي لتنظيم الضباط الأحرار، وبحكم الصداقة وجدنا أنفسنا أنا وثلاثة آخرون أعضاء في التنظيم، وقد حضر لزيارتنا شاب من نابلس، أذكر الآن صفاته الفيزيقية ولا أذكر اسمه، فقد كان طويلاً، أبيض البشرة، مترفاً، يرتدي ملابس أنيقة، وحذاءً لامعاً، أحضر معه منشورات تعلن تأسيس تنظيم الضباط الأحرار، وفي الليلة التالية لمغادرته، أحضرنا طحيناً من بيوتنا وأضفنا اليه القليل من السكر- سرقة من مونة البيت- مع القليل من الماء.. وما أن نهض الصباح حتى كان مخيم الكرامة ‘مرشوماً ‘ ببيانات تنظيم الضباط الأحرار.. كانت تجربة أولى أشهى من الشعر ومن الحب معاً، ولسواد عيون فلسطين.. طبعاً جاءت حرب حزيران بسرعة وانتهى التنظيم وتوزع أعضاؤه بين التنظيمات، لكن ‘أبطال العودة ‘كان لهم نصيب الأسد فيه.
وقد توالى التأثير السياسي بعد ذلك، وإن ظللت متمرداً غير قادر على تلقي الأوامر والانصياع لها، فتنقلت في أكثر من تنظيم الى أن انتهيت صديقاً مقربا لـ’حشد الأردني’، عبر تجمعه في رابطة الكتاب الأردنيين بقيادة وإدارة المناضل المبدع سالم النحاس رحمه الله، الذي ظلّ صادقاً ومخلصاً وأميناً لحزبه ولقناعته السياسية حتى وفاته.
المؤثر الثالث هو القراءة …وبالذات القراءة المجنونة التي كانت تصل أحياناً وبدون مبالغة الى ست عشرة ساعة يومياً، فالوقت بعد ‘أيلول الأسود’ أصبح طويلاً، ورتابة الحياة أصبحت قاتلة، والصحب تفرقوا في أرض الله، ومن تخرج غادر الى دول النفط، والعمل السياسي محرّم، فالقمع هو المسيطر على كل حركه…عندها تقدمت القراءة تعويضاً لكل الخسارات… وبدأ الشعر بالحضور بكثافة. صحيح أن القراءة بدأت مبكرة، فقد أنشأت ‘الجبهة الشعبية الديمقراطية’ مكتبة جماهيرية ضخمة كانت في منطقة مكشوفة بين ‘مخيم الحسين وجبل الحسين’ في عمان، ضمت هذه المكتبة التي مثّلت باكورة ثورية لبناء وعي سياسي وأيديولوجي، كتباً ثورية من مختلف ثقافات الأرض، مع التركيز على كل ما له علاقة بالماركسية تنظيراً وتطبيقاً، خاصة الكتب التي تتحدث عن الثورات الشعبية وآليات الكفاح الشعبي المسلح.
هذه المكتبة التي انتهى أمرها تماماً في أيلول 1970، سلّمت القيادة الثقافية العقدية في بعدها الماركسي في عمان لمكتبة ضخمة أخرى موازية في الأهمية بل وأكثر منهجية، وهي مكتبة المركز الثقافي السوفييتي في جبل عمان، الذي شكل لسنوات منارة الوعي والحرية والبناء النظري لنخب أردنية متعددة الاتجاهات الحزبية، فقد كانت مكتبة مفتوحة للجميع تقريبا.
المؤثر الرابع هو التحدي، تحدي الذات لذاتها، والرغبة الحقيقية في إثبات الذات، وخدش الأرض بعنف وفاعلية، لقد فشلت السياسة، إذن ليكن الأدب، ليكن الشعر، وقد شكلت رابطة الكتاب الأردنيين الحاضنة المثالية لي منذ أواخر سبعينيات القرن العشرن.
المؤثر الخامس هو المرأة، وكأنني ولدت مفتوناً بها، كنت وما زلت وسأبقى مفتوناً بهذا الكائن.. شيئان أو قل قضيتان، أو سمهما بما شئت، أراهما دهشة الحياة وفتنتها التي لا تنتهي، إنهما المرأة والماء.. والعلاقة هنا ليست إيقاعية فقط ولا لغوية فقط، ولا تسألني عن سبب اقترانهما في داخلي… فالمرأة والماء أجمل ما خلق الله.. ربما هي بقايا أو مؤثرات الطفولة أو المراهقة المبكرة، ذلك أن أول جسد محرم تعرفت على تفاصيله كان في الماء.. ربما فتنة جسد المرأة البيولوجي وتكوينه الفيزيقي… ربما هو نداء الحياة العميق الذي لا ينتهي… ربما هو القمع الشرقي عبر منظومة المحرّمات التي لا تنتهي أيضا.. ربما هو امتداد للأسطورة اليونانية القديمة وكيف كان الرجل والمرأة كائناً واحداً مستوفياً شروط اكتماله، لذا كان قوياً ومربكاً للآلهة نفسها، حتى أخذ كبير الآلهة قراره بفصل هذا الكائن الكامل الى قسمين، الى ذكر وأنثى، ليقضي كل منهما جلّ حياته بحثاً عن نصفه الآخر….وربما هو كلّ ذلك معا ..لكن المرأة كانت وما زالت وستبقى مؤثراً مركزياً في مجمل التجربة.
* وماذا عن ديوانك الجديد ‘كتاب المراثي’:
ـ عندما يتجاوز عمرك الستين فإنك تصبح قادراً على الرؤية من الخارج ومن الداخل أيضا، كما تتراجع اهتماماتك البيولوجية وتصبح قادراً على التحكم بها، بل وإلغائها إذا أردت، عندها تتوسع الرؤية، صحيح ان العبارة تضيق كما يقول المعلم ابن عربي، لكن للشعراء امكاناتهم في الاشتغال على العبارة لقول بوح الذات والموضوع معاً، إنه شجن العمر أيها الصديق.
استوقفني الربيع العربي خاصة في تونس ومصر، بل لقد أذهلني ما صنعه البوعزيزي التونسي في العقل والسلوك العربي معاً، لكن فرحتي لم تكتمل، فالتدخل الأوروبي/ الأمريكي في ليبيا، غيّر مجمل المسار الذي لم يعد يسمح له لأن يكون ثورياً، الحكومات العربية كلها من المحيط الى الخليج حكومات أمنية قامعة ومصادرة لحقوق مواطنيها، بل هي لا تعترف بنا أصلاً كمواطنين، وإنما مجرّد رعايا لا قيمة لنا، بل ان دولاً كثيرة منها لم تصل بعد الى مرحلة الدولة، بالتالي فكل الثورات ضد هذا القمع وهذا الفساد وهذه السرقة المبرمجة والمكشوفة لخيرات الإنسان العربي، كل ذلك يستحق بل ويتطلب التمرد والثورة، مع إدراك ان ثمن الحرية دائماً كبير، لكن من الواضح أن الدول الكولونيالية بالتعبير الماركسي وبالتآمر مع رأس المال ‘البترو غازي’ وبتوجيه وتدخّل إسرائيلي، لن تسمح بحدوث ثورة/ ثورات حقيقية، أنظر الى سورية مثالاً، بدأت أرقى ثورة شعبية مدنية عرفها الإنسان، بالغناء والهتاف والتجمعات الضخمة مطالبة بالحرية والتغيير، ليتمكن النظام السوري وتدخلات تركيا وقطر والسعودية وحلفائهما من عسكرتها أولاً، ثم تحويل المشهد الى حمام دم ودمار غير مسبوق… كل ذلك جعل رؤيتي سوداء.. وكنت سابقاً قد رثيت الوضع الفلسطيني وأكذوبة ما يسمى بالسلطة الفلسطينية في ‘مراثي البهلول’، فجمعت قصائد الرثاء التي كتبتها في مجمل مسيرتي الشعرية في مجموعة واحدة صدرت بعنوان ‘كتاب المراثي’ الذي يضم مجمل ما قلته في رثاء الخاص والعام معاً.
* وإذا سألنا عن جديدك فماذا تقول؟
ـ بصراحة أنا أشتغل على ثلاثة مشاريع جديدة، الأول ديوان شعر أقوم بمراجعته وترتيبه لأعداده للنشر، وأظنه سينشر في منتصف العام الحالي 2013، وهو بعنوان ‘هذا أنا المجنون…قال’.
والثاني عبارة عن دراسة نقدية مطوّلة نسبياً حول الرواية العربية بعنوان ‘التابو’ وهو كتاب يتضمن دراسات تطبيقية لعدد من الروايات العربية التي قدمت اختراقات جريئة لمنظومة ‘التابو’ العربية، الجنس ـ الدين ـ السياسة، وقد أنجزت ما يزيد عن ثلثي الكتاب، وأظنه سيكون جاهزاً للنشر مع نهاية العام.
والثالث هو كتاب استقرائي ديني لصورة المسلم في القرآن الكريم، لكنني أسير فيه ببطء شديد وذلك لحساسية الموضوع، ولاندهاشي العميق مما أكتشفه في ثنايا البحث، ولكن لهذا حديث آخر.
* كيف ترى مسؤولية المبدع في صنع المستقبل العربي؟
– بعيداً عن الكليشيهات التقليدية، وعبر الدخول المباشر لماهية الإبداع العميقة أقول، إن الإبداع تجربة شخصية بحتة، صحيح أنها وفي مجملها إنما تمثل خلاصة للعلاقة بين الخاص والعام، لكن ذلك يأتي عبر قدرة المبدع على التفاعل مع هذا العام، وتذويته، أو تذويت ما يشدّه وما يحقق تفاعلاً صادقاً وعميقاً معه، بحيث يصبح جزءاً من هذا العامّ قضية شخصية للمبدع، عندها يحمل الإبداع القضيتين الخاصة والعامة معاً.. هكذا أفهم العلاقة بين الخاص والعامّ في العملية الإبداعية، وعليه فإن الإشارات والإحالات التي يتضمنها النص الإبداعي هي جزء من تمثّلات المبدع في علاقته اليومية مع العامّ.
كما أحب الإشارة هنا الى أن المبدع متمرد بطبعه، متمرد على مجمل المنظومة السائدة سياسياً واجتماعيا، وحتى لو حاول التعايش شخصياً مع السائد، فإن إبداعه لا يلبث أن يتمرّد حتى على صاحبه، لذا فالإبداع منحاز الى المستقبل دائماً، وإذا كان الإبداع مستقبلياً في جوهره فإن علاقته مع هذا المستقبل تبقى جوهرية، بالتالي مساهمته ـ شئنا أم أبينا – في صياغة المستقبل والتبشير به تظل جزءاً من كينونة الإبداع العميقة.
ومن هنا تبرز قضية استبعاد المبدع القصدي عن مواقع اتخاذ القرار، إلاّ إذا دجّن أدواته وإبداعه، لكن الإبداع عندها يتراجع وكأنه يعاقب صاحبه، باختصار أؤكد بأن الإبداع منحاز الى المستقبل دائماً.
* وهل من قصيدة جديدة في ختام هذا الحوار؟
– نعم بالطبع، واسمح لي هنا أن أختار مقطعا من قصيدة ‘حارس المقبرة ‘ التي تقدم مرثية حزينة ومتمردة معا للخاص والعام، للذاتي والموضوعي معاً
…. خذني… وخذ جسدي لدود الأرض
أنبت زهرة منقوعة بالعطر،
يأخذني فتى متهوّر
لحبيبة خلعت براءتها… وعضّت خصره
خذني… لأسطع مثل يعسوب ينير الدرب
درب النهر
إذ يتعمّد الأحياء من درن الخطيئة…. لمّني
واجمع شتات فجيعتي،
ألق السلام… وجزّ عنقي، لا تخف،
واذبح وتيني…
قد آن أن تلد الحياة جديدها
خذني… ودع قيس الغبيّ ينوح
يا ليلىىىىىىىىىىىىىىىىىىىى
خذني،ودعني غارقا في النوم
أهبل، مثلما حجر
على ضفاف النهر
يعبره الغزاة، وجيد سيّدة
غسّلت نهدها عند ماء القصيدة
وظلّ في استلقائه حجرا غبيّاً…
لا يليق بنحلها.
( القدس العربي )