نوف الموسى
عندما تحضر روح الشعر المجبولة بتأملات قوامها الحب والفلسفة والسلام، حينها، لا ترتضي القصيدة، إلا أن تكون ممهورة بوجد وطعم عنوان إبداعي راسخ: قاسم حداد. فهاهنا رياض الكلمات المعانقة جدليات الحياة وجوهر التساؤلات الإنسانية التي لم تكل أو تتوقف.. وكذا شعاع الفكر المنار بالقيم والمثل.
( من معين الشعر .. وانطلاقا من نسغه المطعم بالوجدان والسلام ورائحة المشموم والريحان وماء الورد).. تلك هي افتتاحية الرسالة الشاعرية الإلكترونية، التي وجهها “بيان الكتب”، عبر صندوق بريد الإنسانية، إلى الشاعر البحريني قاسم حداد، في سياق الحوار معه، حول تجربته، وإصداره الأخير “لستِ جُرحاً ولا خِنجراً.. أنتِ البكاء الطويل في الليل”، الذي يجسد سلسلة مشهديه ممزوجة بنسيج القصيدة والمعلومة التاريخية واللمعة الفلسفية. إذ تبحر أبياته بين أمواج بانوراما القصائد، بحثاً عن أسئلة جديدة، تغذي الفكر الإنساني بمعان نجد قاسماً مؤكداً معها، أن الشعر ابتكار آمن للحب.
قبل البداية..
سر مفردة “البيت”
الحاضرة في أكثر من عنوان
وأكثر من قصيدة في ديوانك.. نراها مثلا في:
سؤال / البيت ترك البيت / صديقة التشللو / جنةُ البيت /؟
ليس في الأمر سر، فالبيت هو مرام يسعى إليه الكائن الشريد في الشاعر. حتى الآن تظل القصيدة هي السفر المستمر نحو (بيت). ويبقى الشعر سعي الآلهة لابتكار مكان آمن للحب.
«أرجو أن لا نتأخر»
تتحدث عن ” الأخدوعة ” في ديوانك بشكل نستشف معه أنك تجدها تهديداً مباشراً لمقاصد المعلومة، بل الخبر.. واتذكر هنا جملتك ” الصحافة الثقافية المفتعلة “.. فماذا إذاً عن رأيك في “عولمة” المعلومة لتصبح، كما وصفتها، أخدوعة في عالم (الثقافة العربية) المزعومة؟
لا اخفي أنني أؤثث أخدوعة في كل نص. فليس شأني الزعم بامتلاك أجوبة. انني شحنة مكتنزة بالأسئلة والغوايات اللامتناهية، فالمتعة أن ترافق كائنات مستعدة للذهاب معك نحو المهاوي. الشعر غابة من الأخاديع والأحلام المجنونة الساعية إلى تحرير الروح من الأوهام السائدة المكرسة المسورة بالقداسة، والشعر ضد هذا كله. “العولمة” شيء آخر، أرجو أن لا نتأخر عنه أكثر “.
تقول في “صديقة التشللو”: (تصغي مأخوذة … مثلَ اكتشاف الحياة فالخوفُ موسيقى أيضاً.)).هل الخوف هنا تعريف أم تصنيف أم مجاز؟ وهل إعادة اكتشاف الحياة، السبيل الوحيد للحياة وللموت وللخوف!؟
“صديقة التشيللو” سيمفونية إضافية تستعد لأخذنا نحو اكتشاف الآفاق. الخوف صنعها، وعليها أن تبتكر لنا الأمان. كل كائن يمسك بآلة التشيللو ينبغي تبجيله.
«تتناسل الخيام»
أهناك علاقة بين تاريخ نكبتنا العربية، لا بل أقصد ميلادك في 1948،وقصيدة “أحبُولة السفر” في ديوانك، التي تساءلت فيها: ((هل حقك في البيت
أقلّ من نصيبك في الغياب…؟))؟
تلك هي المصادفات الموضوعية (حسب تعبير السرياليين). منذ تلك النكبة الرشيقة (قياساً لما لحقها)، والعرب يبتكرون النضالات والثورات ويعبرون الهزائم والخيبات، لكن من دون عبرة ولا دروس. وكل (ثورة) تأتي تلعن (سنسفيل) أختها. وثورة بعد أخرى يتقلص بيتنا وتتناسل الخيام، (كما قلتُ في كتاب القيامة).
جهل مستمر
تبوح قصيدتك “أسماء”، بأنك مزاجي ومتعدد، إلى حد ما: ((لو كنتُ أعرفُ كَلَّ أسمائي))..إذا لكل قصيدة (سميّ). والمؤكد هنا أننا بحاجة الى التعمق أكثر في معرفة ذلك، عبر الإبحار في عوالم قصصك الخالدة في الشعر.. وهل أنك تجد القصيدة مشروعا ينتهي.. إذ طرحه محمود درويش .. ورحل !؟
إنها القصة ذاتها منذ هوميروس، لا أحد يتذكر تلك الحروب مثلما يذكر الإلياذة ويعيد قراءتها. غير أن أحداً لا يأخذ الدرس منهما: الحرب والقصيدة. سنرحل جميعا مثل محمود درويش، من دون أن نعرف أسماءنا الجميلة.
” البحث عن مدرسة فلسفية شعراً”.. أتعتقد أنك حققت ذلك عربياً؟ خاصة وأن قصيدتك ” لغة ” تحثنا في اتجاه الإلحاح على هذا السؤال :
«لا تَـقُـلْ للسؤالِ الجوابَ
قُـلْ له الأسئلة»؟
لو كنت أعرف / لو كنت / لو.
الشعر هو نواة التأمل والفكر والفلسفة. ولا يتحقق هذا بفعل (الشاعر) لكنه صنيع (الشعر).
“شمسٌ بطيئة” و” مسامير السفينة”.. قصائد في ديوانك تحكي قصة الحنين الى بلدك البحرين،
وأنت قريب وبعيد! أهو بغرض الاستعراض التاريخي أم لإعادة الاكتشاف؟
الشعر غالباً إعادة خلق، لهذا لا يقبل المحافظون الشعر .. الخلق موهبة الشاعر، أو هكذا يزعم الشعراء.
«أنت البكاء» انتصار للحب والجمال وتمسك بالدار
عادة انتقاء القصائد الشعرية من إصدار متكامل، لوضعها تحت مجهر التحليل والقراءة، تحمل بعداً غير منصف، أو أنه يقصي، ربما، ومن دون قصد، جماليات أخرى من الطرح النوعي للشاعر، ويتجلى ويتجسد هذا تحديداً مع الديوان الجديد للشاعر البحريني قاسم حداد: “لستِ جُرحاً ولا خِنجراً أنتِ البكاء الطويل في الليل”.
إذ نجد هناك أكثر من مفردة متشابهة، ولكنها تشيع في الأفق معاني تبحث عن ملجأ جديد، وقارئ متنور بحاسة الشعر، وقادر على اكتشاف قارة الأسرار في عالم البشر. لذلك جاءت اختيارات (بيان الكتب) لبعض القصائد في الديوان، إنما حباً في إعادة البحث وليس العرض المتكامل، لأن تحقيق ذلك يتوجب تفاعلاً مباشر بين القارئ والقصيدة والشاعر.
وفي سياق الاختيارات، هناك قصيدة “سؤال” التي ترى في زوايا مفرداتها العودة من حيث البداية، حاملةً نكهة اليأس أو ضياع الحلول، أو الدوامة، وربما تحمل شيئا من التمرد على معطيات الغربة أكدتها كلمة ” دارك” في القصيدة. وهي إيحاء بالوطن والملجأ والمنفى الأخير للإنسان. ويقول فيها قاسم: “إلى أين ستبعُدُ عن البيت، الأرضُ كرويةٌ، والطريقُ دائريةٌ، والرواياتُ تدورُ، وليس لاسمك معنى، في غير دارك”.
المعدن الحُرّ
“تساءلتُ، هل أن الحديدَ الوحيدَ، يذوبُ على جرحنا .. وحدنا، وهل أننا سوف نبقى على هامش النص، والوحشُ ينهشُ تفسيرَنا، غيمنُا في الحديد طوال النهار، لينثال رملاً على ليلنا، تساءلتُ.. ماذا يريدُ الحديدُ الوحيدُ من المعدن الحُرّ”. إن قصيدة حداد “حديد”، وهنا في هذه المحطة، تلقي بظلالها على البحث عن أصل الحديد، ومعنى ارتباطها بمفاهيم ( الوحيد ) و( الحر ).
إذ يعد الحديد علمياً، فضي اللون في الأصل، وهو من أقوى الفلزات على الإطلاق، ولكن بشرط حمايته من الصدأ (أي التفاعل مع الأوكسجين). وفي المقابل، يرمز الأوكسجين في الأدب عادةً، إلى التنفس والحرية. وبين المزج العلمي والأدبي، نتوصل الى أن قوة الحديد أو (قبضة الحديد أو الترصد أو الظلم أو الكبت أو الرصاص أو المدفع. أو غيره من أشكال القمع)، تقل كلما زادت الحرية، وهي ليست إجابة عن تساؤل حداد حول تلك العلاقة الكونية، بل إنها سعي الى البحث عن تفسير آخر.
مميزون
التميز عنوان للتفرد في كل محطة، ولكن أتت في قصيدة “أصدقاء” لحداد في الديوان، قطعة ماسية عن السلام والدبلوماسية، إذ قال فيها: “أُمَيَّـزُ، أنَّ الذي غابَ عني صديقٌ، والذي ماتَ عني صديقٌ.
والذي باعَنِي في الصباح صديقٌ، والذي ظَنَّنِي في العدوِّ صديقٌ، والذي ضَمَّنِي في العيون صديقٌ، والذي سَيفُه فوقَ حبي صديقٌ والذي جَهَّزَ لي كفناً ذاتَ ليلٍ صديقٌ، والذي دَسَّنِي في الحشودِ صديقٌ، والذي غَالَنِي ذاتَ يومٍ صديقٌ، والذي حاربَ الوهمَ عني صديقٌ، والذي داسَ جُرحي صديقٌ، والذي ضاعَ بي في الجموع صديقٌ، والذي بعدَ قلبي صديقٌ، أميِّزُهُم ..كلُّ نَجمٍ صديقُ”.
لماذا “طويلات” ؟
سؤال يمكن أن يطرحه القارئ، أكثر من مرة، وهو يعيد قراءة قصيدة “النساءُ الطويلاتُ “، في ديوان حداد “لستِ جُرحاً ولا خِنجراً أنتِ البكاء الطويل في الليل”. ولكنه يعي بعد استكناه جوهرها أنهن فيها يؤلفن للتفاصيل في آخر الويل، يغزلنَ شالاً وترنيمةً للرجال المُحالِين للغيم، واصفاً الشاعر أنهن حزينات ويفرحن بالخوف.
وهو ما يقودنا للبحث مجدداً حول السؤال: هل هناك علاقة بين عنوان الديوان وتلك القصيدة، حيث يقع التشابه في البكاء الطويل والليل؟ ونقرأ لحداد في هذا:”في غفلةٍ من رجالِ المدينة، أسرارهنَّ الخفياتِ صَمتاً يَشِفُّ عن الرقص، عن جوقةٍ سوف تغزو المدينة، تلك النساءُ الطويلاتُ في الليل”.
زَهرةُ المناديل
بمجرد سماعك قصيدة “زهرة المناديل”، ينتابك شعور لاستثمار خيالك، لرسم وردة أو زهرة تتجسد في أطرافها مناديل بيضاء، هذا العنوان أيضاً يجعلك تنظر الى عالم الزهور بمنظور مختلف، وهي أن تتخيل زهرة اللافندر البيضاء، على سبيل المثال، كأنها قطعة منديل طويلة، أو زهرة الجوري في كونها منديلا مبللا بالدم.
وفي سياق القصيدة، يشير حداد الى زهرة صفراء خريفية. ومن ما يقوله فيها: “تُوزِّعُ مناديلَها في حَجَرِ الطريق، فينبُتُ زَهرٌ رشيقٌ يتصاعدُ منه عطرٌ يتوشَّم به الهواء. مناديلُها شهاداتُ الغائبِ على حاضرٍ. يُصغي إليها العابرُ وتُـنشِـدُ الأشجارُ لها، والخاطئونَ يتقدمون للاعتراف بين يدي الله. اللهُ يأخذ المناديلَ شفيعاً يعفو عن الزهر الأصفر، والحبُّ حَجَرٌ عاشقٌ في الطريق.”.