عبد السادة جبار*
ميلوش فورمان مخرج تشيكي الأصل من مواليد 1932 تمكن من اختراق الممنوعات في بلاده ليقدم أعمالاً مميزة أصبح اثرها علامة بارزة في السينما العالمية، ومن أهم أفلامه التي قدمها قبل الهجرة «بيتر وبافلا» و»غراميات شقراء»، وفيلمه الذي رشح للأوسكار «حفل رجال الإطفاء» عام 1968 وهو العام الذي شد الرحال به إلى الولايات المتحدة الأميركية بعد وقوع الغزو السوفييتي للأراضي التشيكية، تلك الأفلام كانت تنبئ بانّ فورمان أراد للسينما العالمية اتجاهاً جديداً، فقد مرر أفلاماً في بلاده تنتقد البيروقراطية والتفرد متجاوزاً مقص الرقيب الحكومي باسلوب ساخر ذكي، وعند استقراره في الولايات المتحدة أخرج أفلاماً متميزة استقبلت بحفاوة بالغة وكان لها انتشار واسع في العالم، أول تلك الأفلام «أحدهم طار فوق عش الوقواق» عام 1975 إذ حقق شهرة عالمية منقطعة النظير، اذ حصل على أوسكار أفضل مخرج وكان سبباً في تقديم النجم الأميركي جاك نيكلسون الى الصف الأول من الممثلين، ثم فيلم «شعرhair» عام 1979 ثم فيلمه الكبير «اماديوس» 1984 الذي حصد 8 جوائز أوسكار ولم يزل هذا الفيلم الموسيقي الكبير علامة بارزة في مجال السيرة والإبداع الموسيقي، ثم قدم أفلاماً في ما بعد لم ترقَ الى مستوى فيلميه السابقين «أماديوس».. و»أحدهم طار».. إلا انها لم تخفق في جذب انتباه الجمهور والنقاد على حد سواء، فيلمه الأخير «أشباح جويا» 2006 كان مختلفاً تماماً، لم يتقبله الجمهور بنحو كامل وفي الوقت نفسه اختلف بشأنه النقاد، اعتقد البعض انّ فورمان سيستغرق في تفصيلات حياة الفنان الاسباني فرانشيسكو جويا بكل ما مر به من تحولات، وأزمات وحياة متقلبة ومضطربة كما هو الحال مع الموسيقار الكبير موزارت في فيلم «أماديوس»، لكن الصدمة كانت غير ذلك، اذ وضع فورمان جويا الممثل السويدي «ستيلان سكارجارد» في دور ثانوي بوصفه شاهداً وراوياً للأحداث من خلال متابعة لحياة انسانة لم تكن معروفة لأحد، لقد أوهم فورمان المشاهد منذ البداية اذ صور لوحات جويا في تايتل الفيلم مستعرضاً الأوضاع التي كانت تعيشها اسبانيا في حقبة محاكم التفتيش والثورة الفرنسية والغزو الفرنسي لإسبانيا ليدفعه الى تصور ان جويا سيكون مساهماً رئيساً في هذه الأحداث ولا سيما في المشهد الأول اذ كان الرهبان يهيئون لإدانته بسبب رسومه التي تسخر من الكنيسة، لكن سرعان ما يتغير اتجاه القصة الى متابعة فتاة ابنة تاجر تتهم بالهرطقة واختيار اليهودية بديلاً عن المسيحية وهي تهمة كافية لان يسحق الانسان بها في محاكم التفتيش.
السيناريو
أسهم في كتابة السيناريو فضلا عن فورمان الكاتب الفرنسي الشهير جان كلود كرييه الذي كتب أفلاماً رائعة للسينما، الشخصية التي تلعب البطولة هنا أكثر من غيرها في الفيلم هي شخصية القس لورينزو الممثل الاسباني «خافيير بارديم»، القس الذي يرسم له جويا لوحة «بورتريه» خاصة في بداية الفيلم. وعلى حين يستنكر الأسقف وأتباعه هذا التصرف بدعوى أن جويا يسخر في رسومه من رجال اللاهوت، يدافع عنه فرنانديز لكنه يعجب بفتاة جميلة رسمها جويا «انيس» الممثلة الأميركية «ناتالي بورتمان» لتتحول مبادئه ويصبح أكثر تشدداً ومدافعاً عن القيم الكاثوليكية ومحاكم التفتيش، يعرض الفتاة الى استجواب بتهمة كونها لم تأكل لحم الخنزير وهذا يعني اعتناقها الدين اليهودي وتجبر عن طريق التعذيب المبرح بالأساليب الوحشية على الاعتراف بالتهمة لتلقى في غياهب تلك السجون المظلمة، ثم يستغلها بحجة انه سيساعدها في الخروج بعد أن قابل عائلتها الغنية عن طريق جويا وتبرع أبوها بمبلغ كبير للكنيسة، الا أن الكنيسة تقبل التبرع وترفض الافراج، غير أن لورنزو يستغل آمال أنيس ليعاشرها في السجن، يستدعي الأب التاجر القس في دعوة عشاء يكون جويا وسيطاً فيها، فيعتقله ويعلقه في سقف الغرفة ويجبره على كتابة اعتراف غريب من انه ابن قرد وقد دخل الكنيسة ليلوثها، ويذكره بان اعتراف ابنته قد تم بالطريقة نفسها وليس أمامه كأب لأن يعرف براءة ابنته الا بالأسلوب نفسه، فأما أن يسعى لاطلاق سراحها أو يعرض الأمر على الملك والكنيسة ويكون مصيره مشابهاً لابنته، وحيث يعجز لورنزو عن إقناع الكنيسة بإطلاق سراحها يهرب إلى فرنسا ليلتحق بالثوار هناك ويغير ثوبه الكهنوتي ليعلن ثورته على رجال الأكليروس، وتنتصر الثورة الفرنسية ثم تتحول مقاليد الحكم ليد نابليون بونابرت ليصبح مبشراً بالثورة يصدرها الى بقية الشعوب فيغزو اسبانيا ليتقدم لورنزو على رأس الجيش المحرر، وهنا يصور جويا المذابح التي تحصل على يد المحررين وتتكرر مشاهد الضحايا من الناس الأبرياء والجلادين على حد سواء، وتشرع أبواب سجون محاكم التفتيش لتخرج «انيس» بعد مرور 15 سنة تبحث عن ابنتها التي أخذت منها وهي طفلة وتتعرف على القس السابق لورينزو وهو أبوها الحقيقي، الا انه يتآمر على انيس حيث يخفيها ويكتشف ان الابنة قد تحولت الى مهنة بيع جسدها لقاء أن تعيش فيلقي القبض عليها ليهجرها مع العبيد إلى أميركا لكي لا يكتشف أمره، لكن الجيش الانجليزي يهاجم اسبانيا ليحررها ويعيد الأمور الى نصابها ويتم إعدام لورنزو من رجال الدين أنفسهم، وتفقد انيس عقلها حيث تلتقط طفلة من الشارع تعتقدها ابنتها وتتبع جنازة لورنزو بزقاق ضيق يتبعهم جويا على صوت أغنية للأطفال.
الرؤيا والحكاية
استغرق الفيلم حقبة تاريخية طويلة، حقبة محاكم التفتيش، الثورة الفرنسية، وصول بونابرت للسلطة، الغزو الفرنسي لاسبانيا، ومن ثم تحرير اسبانيا، موازياً الأحداث الدولية مع قصة الفتاة الطويلة التي استغرقت أكثر من خمس عشرة سنة، ولم يكن الفنان جويا مفعلاً للأحداث بل كان يرسمها، يصورها ويتابع قصة الفتاة التي لم يتمكن حتى نهاية الفيلم من أن يحسم أمرها ومضت إلى نهايتها المأساوية كما قررتها الظروف والظلم ويستمر بمتابعتها حتى في نهايتها لعله يرسم شيئاً جديداً. فورمان لم يصور في هذا الفيلم سيرة الفنان كما صورها في «اماديوس»، ولم يصور بطولة متميزة حاسمة كما فعل مع بطله في فيلم «طار فوق عش الوطواط»، بل صور بعمق رؤيا تاريخية وتناقضات لم تحل إلى الآن حول معادلة صعبة تتلخص في سلطة الاستبداد، والحرية البديلة، موجهاً الاتهام أيضاً إلى الثقافة التي تدعي التغيير لكنها تصور فقط أو تؤرخ أو تفسر لكن من دون أن تغير، يصور فورمان ضحايا الاستبداد داخل الزنازين وسلطة الدين وسكوت الملك، ثم يصور المحررين الغزاة الذين يسحقون حتى الكائنات البريئة بسنابك الخيل ليضيفوا ضحايا جددا، وينصبوا جلادين جددا، ولم يكن جويا هنا أكثر من شبح يمر عبر الأحداث كخيال غير حاسم أو مؤثر، في مقابلة للمخرج قال فيها عنه: جويا شخصية سلبية، في الأقل ازاء ما كان يحيط به. ما نراه في أعماله الفنية، من احتدام المشاعر والفروقات بين لوحة وأخرى، وتناقضات وتعارضات فيما حققه من أعمال، هي حصيلة غليان عاطفي اعتمل في داخله. ولكن يبدو أن رأسه كان أشبه بالمرجل الكبير، يحتوي على ما هو جميل وعلى ما هو محتدم كالجحيم. طرفان يتناقضان ويتعارضان في ما بينهما.
الفيلم مركب من تفاصيل وعوالم متداخلة تمكن فورمان من صقلها وبلورتها بلغة بصرية رائعة واضعاً يده على تناقضات تاريخية لم تزل تحتدم في عالمنا.
_________
* (الصباح الجديد)