غمـــوض الشــعـر


*حسن ناظم

أوحى نيرودا لنا، ذات يوم، بأن ‏انغماس النصّ الشعري في الآلام ‏يمكن أن يُضفي عليه مسحةً من ‏الغموض، وهذا الفرض يتجاوز ‏حصرَ الغموض بانغماس النصّ ‏في لغويته، وفي قوانينه الشعرية. ‏لقد وصف نيرودا ديوانه “أسبانيا ‏في القلب” بأنه كتاب عصيّ على ‏الفهم. وقال عنه إنه “له طموح ‏إلى الوضوح لكنه مغموس في ‏زحمة تلك الآلام الكبيرة ‏المتعددة” (مذكرات بابلو نيرودا: ‏أعترف بأنني قد عشت، ترجمة د. ‏محمود صبح، المؤسسة العربية ‏للدراسات والنشر، بيروت، ‏‏1978، ط2، ص369). والآن ‏حين أقلّب في الذاكرة غموض ‏الشعر بالعراق أيام الحرب العابثة ‏في الثمانينDات، أيام كان “العراق ‏في القلب” كلمةً بَليَتْ وبليَ معها ‏الشعرُ الذي ظلّ عصيّاً على الفهم، ‏أجد أنه أميلُ إلى الزيف منه إلى ‏الحقيقة، وإلى اللغو منه إلى ‏الشعر، فربما يكون على عكس ‏‏”أسبانيا في القلب” المغموس ‏في الآلام الكبيرة، انغمس في ‏اللغة يسبح فيها دون الآلام ‏المحيطة به آنذاك.‏

فكيف تسنّى لمطحنة البشر أن ‏تجعر حينذاك دون أن يُطحن ‏الأدبُ بها أيضاً؟ بل كان الأدبُ ‏مطحنة أخرى للبشر تجعر بلا ‏توقّف. في الواقع، كان الشعار ‏يسيّر كلّ الأشياء، كبيرها ‏وصغيرها، وانتقلت عدوى الشعار ‏إلى عالم الأدب، وكان أحد هذه ‏الشعارات الشعار القديم الجديد: ‏‏”التحرر من القيود” ‏و”المواضعات”، التي نُظر إليها ‏بوصفها ترياقاً قميناً بتحرر ‏الغريب في العالم من غربته عبر ‏خلق النشوة اللغوية الكفيلة بجلاء ‏الغمّ الغامض. ولكن، هل تخلو أيّ ‏محاولة في هذا الاتجاه من مآرب ‏متنوعة؟ ربما، لكن أبعدَ هذه ‏المآرب هو الصلة بالواقع، أما ‏الذات واستيهاماتها فمن الممكن ‏القول إنها تجلو غمّاً غامضاً ولكن ‏بالوهم، ومن الممكن أن تكون ‏قادرة على أن تخلق وعداً بالتحرر ‏من الغربة في العالم، ولكن بالوهم ‏أيضاً. وهذا الدواء الوهمي لأدواء ‏الذات إنما هو داء على داء ‏مزمن. ‏
لقد تفشّى الوسواس الهندسي في ‏جميع مفاصل النصوص الشعرية. ‏صارت الغاية المنشودة من وراء ‏كتابة الشعر فتحَ العين على ‏الأشكال المدهشة، وإغضاءَها عن ‏أهمية المعنى. وصار التعالي على ‏العالم الأرضي وفاعليته الإنسانية ‏مقصاة من البعد الإنساني لصالح ‏البعد الشعري الشكلي، وارتفعت ‏الأشكال الشعرية على أيّ إشكال ‏يخصّ الشعر نفسه. نحن نعرف ‏أن المعنى يكون، مرة، تحققاً ‏مفروضاً من النصّ ومتجهاً إلى ‏القارئ الذي يمارس دوراً وُصف ‏بالسلبيّ في تلقي المعنى الجاهز، ‏إذ هو يستسلم لمعنى النصّ ‏مضحياً بفكره الخاص وتأويله. ‏تلك فكرة تجد أصولها في النقد ‏الغربي المتجه للقارئ. وقد ‏تنضوي هذه الفكرة تحت مفهوم ‏قصد المؤلف الذي يدافع بعض ‏النقاد عنه باعتباره القصد الوحيد ‏الموجود في النصّ الذي يجب ‏أخذه بعين الاعتبار، وإلاّ فإن ‏عدمية دلالية ستحيق بالنصّ. ‏تسبح هذه النظرة في فضاء ‏واحدية المعنى. غير أن هناك ‏فضاءً آخرَ يمكن تبنّيه في هذا ‏الصدد. إنه فضاء اللاتحدد المبني ‏على فكرة “لانفادية” النصّ. ‏وقصيدة الحداثة آنذاك لم تكن ‏تفرض معناها الواحد، ولا تمتعت ‏باللانفادية، فهي لم تسبح في ‏الفضاءين، اللهم إلاّ فضاء ‏الإبهام.‏
استند شعراء الحداثة بالعراق، في ‏حقبة حربي الخليج الأولى ‏والثانية، إلى قصيدة النثر العربية ‏بعامة، والأدونيسية بخاصة، ‏مرجعاً تأسيسياً لقصيدة حديثة ‏بالعراق. وانضوى جدلهم تحت ‏خيمة ذلك الجدل الضخم الدائر في ‏الأوساط الثقافية العربية عن ‏النصّ، والمعنى، والمواضعات ‏الشعرية، وتأثير قصيدة النثر ‏الأوروبية، وشعرية الشعر، وما ‏إلى ذلك. وفي حالة الأشعار التي ‏كُتبت إبان الحربين، كانت ‏المعضلة تتركز في بُعْدِ المعنى، ‏وكان الجدل قد أفضى إلى ‏افتراضات متصارعة ومتنافرة. ‏كما أنه مثّل، في أحد مناحيه، ‏دعامة لكل شاعر متطلع أطلق ‏لخياله ولقلمه العنان ليسطّر ما ‏يشاء بدعوى “الغموض” ‏و”تعدد معاني النصّ”. كما صار ‏من السائد الحديث عن دلالات ‏المطابقة ودلالات الإيحاء؛ وهما ‏مصطلحان مستجلبان من عالم ‏الترجمة كمقابلين ‏denotations‏ ‏و ‏connotations، أو الحديث ‏عن دور القارئ في اكتشاف ‏معاني النصّ، وعن الشاعر الذي ‏لا يُلزم نفسَه ونصَّه من ثمّ بدلالة ‏محددة خشية إفقاره حتى بات ‏افتقاره إلى أي دلالة سمة أساسية ‏له بإطلاق. ‏
لقد استبدّ بشعراء الحداثة إشكال ‏هوية النصّ. وقد خلق هذا ‏الإشكال مخاوف وافرة من التأثّر، ‏أو “قلق التأثّر” بحسب عنوان ‏كتاب هارولد بلوم. ليس للنصّ أن ‏يتبع القواعد خشية أن يكون ‏كلاسيكياً، ولا عليه أن يكون ‏جامحاً خشية تحطّمه، بل عليه أن ‏ينزاح عن القواعد القديمة ‏ليؤسس قواعد جديدة عوضاً ‏عنها. ولكن كيف يتمّ ذلك؟ أتراه ‏يتمّ بافتراضات لغوية، أو ‏بتنظيرات لا أول لها ولا آخر. ‏وكيف يمكن الكلام على هوية ‏النص الهجينة. إن المقاييس التي ‏ارتُضيتْ لمثل هذا النهج الشعري ‏ربما لم تكن لترضي أيّ شيء آخر ‏سوى نزوع طاغٍ نحو الأنا ‏النرجسية المهوّمة. أنا تجد ‏تحققها في شعر مهوّم ملعلع يُقحم ‏الذات في نشوة زائفة ودهشة ‏منقضية، ويُشعرها بغطبة الرضيّ ‏واهتزاز النشوان. ‏
تتأسس الذات الفوضوية على ‏توسيع قاعدة المعنى إلى الحد ‏الذي تتلاشى فيه المعاني برمتها، ‏ويصبح النصّ أصواتاً منغّمة ‏واندفاعة عارمة من الكلمات التي ‏تتراكب على بعضها بغرابة، هي ‏المطمح الأخير لهذا التراكب ‏نفسه. هذه الدعامة إذن تسندها ‏دعامة المعنى والغموض. فبقدر ‏ما يتسع نطاق المعاني بشكله ‏السلبي تُطبق الفوضى على ‏النصّ، هذه الفوضى تتوهّمها ‏الذات الشاعرة انعتاقاً من ‏محدودية أفق المعنى، غير أنها لا ‏تحقق بها غير مزيد من بناء ‏الذات الفوضوية. الذات التي ‏تخشى الحد والمرجع. ‏
تمتاز الأنا في نصوص الحداثة ‏بأنها بلا ذاكرة ولا ذكرى. فهي لا ‏تتحدث عن وقائع، ولا عن ‏‏”فردوس مفقود”، ولا عن أمكنة ‏أو أزمنة. إنها أنا معلقة”خارج ‏المكان”، وخارج الزمان. هي أنا ‏بلا بدء ولا منتهى. أنا تنطلق من ‏فراغ ولا تنوء بثقل ماضٍ معين، ‏ولا ذاكرة لها لتستدعيها أو حتى ‏لتجترّها.‏
_______
*ناقد من العراق(الشروق)

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *