قيس الدمشقي *
كنت أتمنى لو أني فصلت من عملي قبل أكثر من قرابة شهر؛ ذلك أن هذا الفصل الطريف من مسرحية اغترابي أتاح لي أشياء كثيرة جميلة وممتعة من أهمها رؤية مدينة أبوظبي نهارا، وهو ما كنت أتمناه ولا أستطيع تحقيقه في الفترة السابقة لأني كنت أصل مكتبي قبل حضور أي زميل أو زميلة ولا أغادره إلا مساء، مما كان يجعل النهار ينطفئ على وهج الإرهاق والتمني وانتظار النهار التالي بلهفة المخلص المشتاق لإنجاز الوعد .
لم أتمكن من رؤية أبوظبي نهارا كذلك في أيام الجمع القليلة التي أتيح لي فيها الاستراحة خلال ثلاثة شهور. فهي أيام غير محسوبة ولم تكن كافية لجس نبض نهار المدينة إذ كنت أستيقظ في بعضها عصرا أو قبيل الغروب؛ رضوخا تعويضيا من جسدي لدرء فداحة خساراته عن ساعات السهر الطويلة المضنية طوال الأسبوع.
وإن أنسى لا أنسى تلك الفترة القصيرة التي كنت أرى فيها أبوظبي نهارا والمتمثلة بعودتي الصباحية من العمل بعد انتهاء ساعات دوامي الليلي! إذ اقتضت ظروف العمل أن تكون ساعات الدوام لدي ليلا ومن الساعة الواحدة بعد منتصف الليل وحتى التاسعة صباحا، ولكني لم أكن أغادر قبل الساعة العاشرة لرؤية اكتمال بدر حضور زملائي وزميلاتي في الفترة الصباحية.
في تلك الفترة حين أغادر مبنى العمل المؤلف من عشرة أدوار، وقد بدأ ينبض بالناس والحياة والتي تجمدت عنه طوال الليل وأنا فيه وحدي، كنت أرى أبوظبي وقد تمطّت بعد نوم طويل وشعشعت بألق النهار المقبل بفرح العاشقة الجديدة، لم تكن هذه الفرصة للقائها تدوم أكثر من نصف ساعة هي “مسافة السكة” إلى البيت لأواصل العمل منه عبر النت لانشغال ذهني بضرورة تقديم الأفضل الذي يرضي ضميري ونقاء سريرتي. وأظل على تلك الحالة حتى يهدني التعب فأنام على نفسي دون تعب!
كنت أصحو على نفسي قبيل الغروب وقد انطفأ النهار فلا ألقي كبير اهتمام أو أندم على ضياع شيء؛ ذلك أن “العمل” قيمة كبيرة في نفسي ستظل هي المقدس الذي لا يوازيه إلا الحب الكبير للحياة بكل قسوتها وجمالها. وإني إذ أفصل بين العمل والحياة على نحو ما هنا فمرد ذلك انسياب “العمل” في نفسي معنى موازيا “للحياة”.
هنا في هذه اللحظة تبادر الى ذهني الذي صفا أكثر بالابتعاد عن اللوحة -ورؤيتها بوضوح أشد- تلك العقوبة الإدارية التي انتهجتها بعض الشركات اليابانية في مرحلة النهوض بالبلاد من من خرائب الدمار ونقطة الصفر. تلك العقوبة التي لا تجدي مع أي شخص ما لم يكن ذا ضمير، وتتمثل بحرمان العامل من ممارسة صلاحياته مدة من الزمن شرط أن يحضر الى العمل ويجلس في المكان المخصص له وأن يفعل ما يشاء إلا العمل.
تنطوي تلك العقوبة على معان غزيرة موجعة وطريفة في آن معا، فمن كان لا يعنيه وجوده ولا يحترم قيمة أن يكون منتجا أو فاعلا فلن يضيره لو ظل هكذا طوال السنة ما دام في النهاية يقبض مرتبه الشهري كاملا حسبما تنص العقوبة! وسيكون هذا الشخص سعيدا أكثر لو استمرت العقوبة بإعفاء حضرته من الحضور أيضا على أن يراجع رب العمل أو البنك في نهاية الشهر فيجد “مستحقاته” غير منقوصة بحكم سلطان العقد المبرم!
على صعيد متصل ومباشر تدعو إلى الخجل نتائج الاستطلاعات والاستبيانات التي تشير إلى أن نصيب الموظف العربي من ساعات الدوام اليومي -الممتدة ثماني ساعات- لا يتجاوز الساعة الواحدة! أي أنه يقضي الساعات الأخرى بلا عمل. مما يعني انتاجيا وعلى نحو جدلي طريف أن كل ثمانية موظفين لا يعمل فيهم سوى موظف واحد وأن هناك سبعة منهم بلا عمل!
كيف نستطيع أن نقول لأنفسنا مهلا أو الهوينى إذا ابتلانا الله بهذا الضمير المتعب الجميل الذي لا يسمع ولا يستمع إلى غير ضميره!
كيف ينبغي لنا أن نقول له: نمْ. وهو يرى الحياة موقفا ووقفة عز وإلا فلتذهب.
وهل لنا أن نقول لبنينا وأهلينا ذات يوم بأننا فشلنا لأننا كنا نحب العمل أكثر مما ينبغي ؟!
الجواب : أجل وكلا . أجل. ربما أحببنا عملنا أكثر مما ينبغي. وكلا، لم نفشل.
* كاتب أردني يعيش في الإمارات