بين عبد الحليم والشيخ إمام


* أمجد ناصر

الأغاني التي ظننا أننا لن نسمعها مرة أخرى تعود. بعضها على الأقل، إذ يبدو أنها لا تزال قادرة على وصف واقع حال معين، بينما هناك أغان لا يمكن سماعها الآن لأنها لم تعد تعني شيئا للمستمعين.

طبعا، هذا أمر سيئ أن تكون الأغاني التي تتحدث عن فلسطين لا تزال “صالحة للاستخدام” لأن هذا يعني أن الواقع الذي تصفه هذه الأغاني لم يتغير كثيرا، أو هو في حال من التكرار المستمر، كأن الواقع يدور في حلقة مفرغة.
هكذا عادت أغاني الشيخ إمام التي ظننا أن “فترة صلاحيتها” انتهت، أعادتها إلى الحياة، بل دفعت بها إلى صدارة الاستماع الثورة المصرية. عادت قصائد أحمد فؤاد نجم المغناة بصوت الشيخ إمام إلى الساحة.
صارت تلك القصائد نشيدا للجموع بديلا للنشيد الرسمي الذي صار كأنه نشيد السلطة وحدها. عادت أيضا أغاني عبد الحليم وأم كلثوم التي تتماهى مع واقع الثورة الجماهيرية الكبرى، بعد طول رقود في أرشيف الإذاعات المصرية الرسمية.
الواقع المصري والتونسي واليمني، والليبي والسوري يتغير. تواكبه أغان كانت ممنوعة، أو مقصية عن الإذاعات الرسمية، فضلا عن أغان غنت التحولات المصرية منذ تسلم الضباط الأحرار زمام السلطة في مصر، تلك التحولات التي انقطع مسارها تماما مع انقلاب محمد أنور السادات على الإرث الناصري.
لكن الواقع الفلسطيني لم يحدث فيه أي اختراق يذكر على صعيد التحرير، سواء بالمقاومة المسلحة أم بـ”عملية السلام” والمفاوضات التي تكاد نتائجها، كما نراها الآن، أن تضيّع ما تبقى من الأرض في ظل تسارع محموم لعجلة الاستيطان الصهيوني.
لقد كبَّل اتفاق أوسلو الحياة الوطنية الفلسطينية وسدّ الآفاق أمام أي تغير للواقع المختل بشدة لصالح الاحتلال، الأمر الذي أدى إلى اهتراء ات كبيرة في البنى التي يعول عليها في ضخ الأفكار والمبادرات والدماء الجديدة في شرايين الحياة الفلسطينية، والحفاظ على السردية المناقضة في العمق للمشروع الصهيوني الاقتلاعي.
لكن جذوات المقاومة المدنية الفلسطينية رغم ذلك لم تنطفئ، إذ لا يزال جمر الانتفاض تحت السطح الخادع، ومع كل هبة ريح على هذه الجمار يتصاعد اللهب، مجددا، مما كان يُظنُ أنه مجرد رماد، ومع هذه الهبات تعود الأغاني التي تصف هذا التأجج مرة أخرى.
في الواقع، لم يكف الفلسطينيون والعرب، عن سماع أغاني مارسيل خليفة الفلسطينية، ولا يزال بالوسع سماع أغاني أحمد قعبور السبعينية (أناديكم، يا نبض الضفة) من دون أن ننسى روائع الأخوين رحباني على هذا الصعيد، خصوصا مغناة “جسر العودة” الذي شهد عودة جزئية مقصوصة الجناحين تحت أعين جنود الاحتلال في ظل اتفاق أوسلو.
كما لا تزال صالحة على نحو يدعو إلى البكاء أغنية فيروز عن شوارع القدس العتيقة التي قد لا يبقى لها أثر، إن ظل الوضع الفلسطيني والعربي على ما هو عليه اليوم، إلا في الأغنية.
فتهويد القدس “عروس عروبتنا” -على حد تعبير الشاعر العراقي مظفر النواب- يتسارع إلى حد قد يجعل الحديث عن عروبة القدس وفلسطينيتها، على الصعيد الديمغرافي، كالوقوف على الأطلال وبكائها في القصيدة العربية القديمة.
في أواخر سبعينيات القرن الماضي كتب الشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان مقالا ناريا ضد ظاهرة الشيخ إمام الغنائية، ورأى أن الاحتفاء بها، في أوساط معينة، يندرج في إطار الاصطفاف الأيديولوجي والتحريض السياسي الصرف، ليس إلا. وزاد عدوان في استفزازه للجماعات المؤدلجة قائلا إن عبد الحليم حافظ الذي هجاه الثنائي نجم–إمام، كان وسيظل الظاهرة الغنائية الأرقى والأكثر تعبيرا عن الوجدان العربي.
أتذكر أننا استقبلنا مقال ممدوح عدوان باستياء بالغ، ولولا أنه كان محسوبا
-آنذاك- على أوساط اليسار السوري والفلسطيني لألصقنا به تهما أقلها الخيانة. ففي تلك الفترة كانت ظاهرة الثنائي نجم–إمام، في أوساط اليسار العربي، في أوجها وتجد لها حناجر متحمسة، وأثيرا ومنظرين ومقلدين في معظم البلدان العربية. ولم تكن مصر، رغم ساداتيتها، قد دخلت ما يشبه الموت السريري الطويل الذي عرفته في عهد حسني مبارك.
هل أخطأ الشاعر السوري الراحل -الذي كان معروفا بقدرته على استفزاز المستقر والثابت- في حكمه على تلك الظاهرة الغنائية (وما يشبهها) واعتباره عبد الحليم حافظ معبرا أعمق عن الوجدان العربي وعابرا للظرفية التي تطبع ظواهر غنائية كظاهرة نجم–إمام، وربما بعض نتاج مارسيل خليفة؟
لم يعش عدوان اليوم الذي اندلعت فيه الثورة المصرية ليعرف أن “أدبياتها” الغنائية كانت مزيجا محكما بين نجم–إمام وعبد الحليم حافظ، بل وأم كلثوم. والأمر لا علاقة له بقدرة “أغاني الثورة” على البقاء وتحدي تقلبات الأذواق الفنية، بل يتعلق، أساسا، بالواقع العربي الذي يعيد إنتاج نفسه، هذا الواقع الذي نرجو أنه يطوي اليوم صفحة سوداء ويفتح صفحة جديدة.
_____________
* المصدر:الجزيرة

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *